في داخل سجن كبير، تعيش الفلسطينية ليلى بني عودة (38 عامًا) بالضفة الغربية، بعد أن حرمت من زيارة عائلتها، بفعل سياسة السلطات الإسرائيلية التي تمنع لم شمل هذه العائلة، والتي لا تعترف بها كالآلاف من العائلات بقانونية وجودهم داخل الأراضي الفلسطينية، لتعيش واقعًا مأساويًا وصعبًا طوال تلك الفترة.
ليلى متزوجة من فلسطيني يقطن في مدينة نابلس، بينما تعيش عائلتها بمخيم حطين بالأردن؛ حيث ترفض إسرائيل زيارة أهلها، بحجة عدم امتلاكها هوية شخصية فلسطينية، وبالتالي لا يحق لها مغادرة الضفة الغربية أو السفر خارجها. تعيش أسيرة داخل وطنها، ولا تخفي حسرتها وألمها الشديدين الذي تعانيه، بعد عدم تمكنها من إلقاء نظرة الوداع على جثمان والديها، لتعيش ظروفًا مؤلمة وقاسية مزدوجة على فقدانهما، وعلى عدم لم شملها.
"خسرت عملي في إحدى المؤسسات بالأردن، وذلك نظرًا لعدم قدرتي على مغادرة غزة، وأعيش حاليًا داخل سجن كبير، وأعاني التشتت بين غزة والأردن، لا أحد يتطرق إلى مشكلتنا"
“لا يقتصر عدم اعتراف إسرائيل بحقوقي فقط؛ بل ما زلت منذ سنوات لا أحصل على معظم حقوقي في داخل وطني؛ فلا أستطيع التقدم للحصول على وظيفة، في حين لا تعترف البنوك الفلسطينية بالبطاقة التعريفية المؤقتة التى تم منحها لي من قبل السلطة الفلسطينية”. حد قولها. كما إنها لم تتوقع أن الحصول على لمّ الشمل صعب لهذه الدرجة، بعد أن أصبحت رؤية عائلتها وأقربائها حلمًا يراودها بشكل يومي، وباتت كأسيرة تراوح مكانها داخل وطنها دون تحقيق آمالها.
وتضيف: “تنظر إلينا إسرائيل كمقيمين غير شرعيين داخل وطننا، ولا يحق لنا السفر أو التعليم وحتى العلاج خارج الوطن، لنعيش حياة مستفحلة من المعاناة المستمرة، دون وجود أي أفق لإنهاء هذه المعاناة خلال المستقبل القريب”.
ولا يختلف هذا الحال لدى الفلسطيني سعيد عسقول (54 عامًا)، من مدينة غزة، والذي ينتظر منذ 30 عامًا لمّ شمله، والحصول على بطاقة الهوية الشخصية، ولكن دون جدوى، ليعيش سجينًا داخل وطنه. قدم عسقول من مصر بواسطة وثيقة سفر مؤقتة لزيارة عائلته خلال العام 1994، وبعد قضائه أربعة شهور بغزة، قرر العودة لعائلته، إلا أن السلطات المصرية رفضت دخوله أراضيها، بدعوى عدم امتلاكه بطاقة شخصية وجواز سفر فلسطينيًا. يقول: “اشتد ألمي عندما حرمت من رؤية أبنائي وعائلتي، وازداد الأمر سوءًا وألمًا عندما لم أستطع إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على ابنيّ الاثنين، واللذين توفيا بعد تعرضها لحادث سير”.
ويضيف: “ليس بمقدوري -حتى اللحظة- السفر أو العلاج وحتى العمل، وبت محرومًا من أبسط حقوقي الإنسانية، بسبب عدم امتلاكي أية أوراق رسمية تثبت جنسيتي الفلسطينية، وما حصلت عليه هو جواز سفر مصفر، وهو جواز شكلي لا تعترف به معظم المؤسسات المحلية، ولا يمكنني من خلاله السفر إلى أي دولة”.
وعلى مدار تلك الفترة لم يغب عسقول عن كافة الاعتصامات التي نظمها فاقدو الهوية، أمام مقر الشؤون المدنية بغزة للمطالبة بلمّ شملهم، والضغط على السلطات الإسرائيلية للبدء بإجراءات لمّ الشمل، ليستطيع التنقل والحركة بحرية دون شروط.
"لا أستطيع العمل أو فتح حساب بنكي داخل غزة، لعدم امتلاكي بطاقة هوية فلسطينية، على الرغم من التقدم بطلب لم شمل منذ 10 أعوام".
معاناة متكررة
تتكرر أوجه هذه المعاناة مع الفلسطينية هديل المصري (42 عامًا)، والتي تزوجت من فلسطيني يعيش داخل قطاع غزة، بينما تعيش عائلتها كلاجئين فلسطينيين في المملكة الأردنية الهاشمية. وتحرم هديل منذ 20 عامًا من السفر خارج قطاع غزة لزيارة عائلتها، وتنتظر النظر في طلب لمّ شملها، والذي تقدمت به لدى هيئة الشؤون المدنية الفلسطينية منذ 18 عامًا دون جدوى. تقول: “تفرقت عن أسرتي، ولم أستطع حضور حفل زفاف نجلتي الكبرى، وأنا أنتظر بفارغ الصبر الحصول على بطاقة الهوية، لأستطيع السفر إلى عائلتي دون قيود”.
وتكمل: “خسرت عملي في إحدى المؤسسات بالأردن، وذلك نظرًا لعدم قدرتي على مغادرة غزة، وأعيش حاليًا داخل سجن كبير، وأعاني التشتت بين غزة والأردن، لا أحد يتطرق إلى مشكلتنا، وتماطل الجهات الرسمية الفلسطينية في إيجاد حلول جذرية لنا ولمّ شملنا مع عائلاتنا، إلى أن تمكن مجموعة من فاقدي الهوية من إنشاء صفحة على الفيسبوك باسم “لمّ الشمل حقي”، للتعريف بقضيتنا بشكل واسع”.
إقامة غير شرعية
ومنذ العام 2010 تمنع السلطات الإسرائيلية سفر الفلسطينية مروة سلمان (47 عامًا) من قطاع غزة لزيارة أهلها بمخيم اليرموك بسوريا للاجئين الفلسطينيين، قدمت مروة إلى غزة للزواج بأحد أقربائها خلال العام 2009، ومنذ تلك اللحظة لم يتسن لها الحصول على هوية شخصية فلسطينية، بدعوى إقامتها بشكل غير شرعي.
وتمنع قسرًا منذ سنوات من مشاركة عائلتها أفراحهم وأتراحهم، وتعيش في حزن وأسى كبيرين، لعدم قدرتها على زيارتهم والالتقاء بهم، ليتحول كابوس منع لمّ الشمل إلى حقيقة تعاني من آثارها حتى تلك اللحظة. تحاول التواصل مع عائلتها عبر الهاتف والإنترنت، إلا أن ذلك لا يمنع حنينها وشوقها لزيارتهم كل لحظة. حد تعبيرها.
وتختم قائلة: “لا أستطيع العمل أو فتح حساب بنكي داخل غزة، لعدم امتلاكي بطاقة هوية فلسطينية، على الرغم من التقدم بطلب لم شمل منذ 10 أعوام”.
تمديد القانون
وبحسب المركز الفلسطيني للدراسات- مدار، أقرّت الهيئة العامة للكنيست يوم الاثنين، 4 من آذار 2024، بأغلبية الأصوات، تمديد سريان القانون الذي يحرم آلاف العائلات الفلسطينية في إسرائيل، التي يكون أحد الوالدين فيها من الضفة الغربية أو قطاع غزة، وأيضًا من لبنان وسوريا والعراق وإيران، بحسب ما نصّ عليه القانون، من لمّ الشمل، وهو يشمل استثناءات.
وتم تمديد القانون الذي يأتي على شكل قانون مؤقت منذ العام 2003، حتى يوم 14 من آذار 2025، وهذا لكون القانون يتعارض مع القوانين والمواثيق الدولية. ومنحت اتفاقية أوسلو الموقعة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية خلال العام 1994، آلافًا من الفلسطينيين حق لمّ الشمل، إلى أن أصدرت إسرائيل خلال العام 2003 قانونًا يمنع لمّ شمل الفلسطينيين. وعادت إسرائيل وأوقفت قرارات لمّ الشمل منذ العام 2009، بعد تولي بنيامين نتنياهو مقاليد الحكم في إسرائيل.
ومنعت السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين من الحصول على هوية عبر مراحل عدة، وكانت المرحلة الأولى، منذ بداية احتلال قطاع غزة والضفة الغربية عام 1967 حتى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1994. وفي سبتمبر/ أيلول عام 1967، أجرى الاحتلال الإسرائيلي تعدادًا سكانيًا للفلسطينيين الذين كانوا مقيمين في الأراضي المحتلة، وأصبح هذا التعداد هو المرجع الرئيسي لكل ما يتعلق بالسجل السكاني للفلسطينيين.
أما المرحلة الثانية، وهي في الفترة اللاحقة لاتفاقية أوسلو الثانية عام 1995 حتى عام 2000، وفيها نقلت إسرائيل صلاحيات التسجيل والتوثيق في السجل السكاني للسلطة الفلسطينية؛ إلا أن الصلاحيات التي تتمتع بها السلطة مقتصرة فقط على الأسماء المسجلة مسبقًا من الجانب الإسرائيلي، أما الأسماء الجديدة فلا تملك السلطة الفلسطينية صلاحية تسجيلها ومنحها الإقامة إلا بعد أخذ موافقة من الجانب الإسرائيلي.
أما المرحلة الثالثة، فيما بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية حتى الفترة الحالية؛ حيث اعتبر الاحتلال الإسرائيلي أن الفلسطينيين غير المسجلين في السجل السكاني -أي الذين دخلوا قطاع غزة عام 2000- غير مؤهلين للحصول على الهويات، بذريعة أن دخولهم إلى قطاع لم يكن قانونيًا.
وفي عام 1995، كان الجانب الفلسطيني يطالب الاحتلال الإسرائيلي بتوفير بطاقات الهوية الشخصية للسكان المسجلين حديثًا، وكانت الحصة المطلوبة ترتفع من سنة إلى أخرى؛ إلا أن الاحتلال الإسرائيلي رفض الطلب؛ ما دفع الجانب الفلسطيني إلى وقف العمل مع الجانب الإسرائيلي؛ الأمر الذي أدى لتراكم ما يزيد على 17500 من طلبات جمع الشمل.
وفي نهاية عام 1998، وطوال عام 1999، وافقت إسرائيل على 3000 طلب سنويًا من طلبات جمع الشمل قبل أن تعلق دراسة طلبات جمع الشمل المتبقية، بسبب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، لتعود إلى إصدار 5000 طلب لقطاع غزة وسحبها دون سابق إنذار.
وبعد الأحداث التي دارت في قطاع غزة عام 2007، من اقتتال داخلي بين حركتي فتح وحماس، توقف الاحتلال الإسرائيلي عن إصدار الهويات تمامًا لكل الأشخاص، وتم وقف التعامل مع قطاع غزة من قبل الشؤون المدنية وفصل منظومة الأحوال المدنية بين قطاع غزة والضفة الغربية.
وفي إطار إيجاد وثائق بديلة للهوية، أصدرت حماس في قطاع غزة بطاقات تعريف الهوية الزرقاء لتسهيل المعاملات اليومية الداخلية لفاقدي الهوية. في المقابل، أصدرت السلطة الفلسطينية جوازات سفر لفاقدي الهوية في القطاع سمي بالجواز المصفر، وتكمن مشكلة هذا الجواز في أنه غير معترف به من قبل إسرائيل ومصر والأردن، وبالتالي لم يعد له أي قيمة، وهذا ما زاد من معاناة المواطنين.
وبحسب وكالة الأنباء الفلسطينية وفا، أعلن رئيس الهيئة العامة للشؤون المدنية الوزير حسين الشيخ، في 9 مارس/ آذار 2022م، عن استقبال (1500) موافقة، تشمل طلبات للمتقدمين من المحافظات الجنوبية (غزة) والمحافظات الشمالية (الضفة الغربية)، للحصول على الهوية وجواز السفر الفلسطيني.
وقال الوزير في بيان صحفي، إن هذه الموافقات تأتي بعد اجتماع مع الجانب الإسرائيلي، نوقش فيه العديد من القضايا، وكجزء من تنفيذ الخطوات المتفق عليها بين الجانبين في اجتماع الرئيس محمود عباس مع الوزير غانتس.
ويترقب فاقدو الجنسية والهوية تحقيق أحلامهم بلمّ شملهم، وإيجاد حل جذري لمعضلتهم، وهو الذي يبدو بعيد المنال، مع عدم تمكين السلطة الفلسطينية من السيطرة على المعابر والحدود، وعدم إقامة الدولة الفلسطينية.