خوف وتوجس وإحساس بالخطر.. ضريبة الفصل الطبقي على المرأة
صدم المصريون بوفاة حبيبة الشماع، الفتاة التي ألقت بنفسها على طريق السويس من سيارة أجرة تابعة لإحدى شركات النقل التشاركي، التي تدار باستخدام تطبيقات الهواتف الذكية في مارس/آذار الماضي، الفتاة التي قيل إنها توجست خيفة من قيام السائق باختطافها، نتيجة بعض تصرفاته اللامسؤولة؛ ومنها قيامه برش العطر أثناء الرحلة، أصيبت حبيبة نتيجة إلقائها بنفسها من داخل السيارة للطريق العام بنزيف وارتجاج في الدماغ، فقدت على إثره الوعي لعدة أيام قبل أن تفارق الحياة، ويعلن ذلك رسميًا في خبر محزن لأهلها وأحبابها وأصدقائها.
السائق المتهم بترويع حبيبة، متزوج وله ثلاثة أطفال، أكد على لسان محاميه أنه لم يكن يحمل أية نية سيئة، وإلا لكان أغلق أبواب السيارة عبر التحكم المركزي لديه، كما علل الحادثة بتعرض الفتاة لحالة من التوهم بوجود خطر حقيقي قد يطالها منه، وعليه قامت بتصرفها الغريزي، وهو محاولة الهرب من السيارة متجاهلة أية عواقب. وتبقى الحقيقة، بين كلام محامي المتهم وأهل الفتاة المتوفاة غائمة ومبهمة، ومفتوحة على كل الاحتمالات.
كما وثّق تحقيق استقصائي نشرته شبكة أريج في مارس/آذار الماضي أيضًا بعنوان رحلات غير آمنة: تسجيلات صوتًا وصورةً داخل سيارات أوبر في الأردن، انتهاكًا لخصوصية الركاب عبر تصويرهم دون علمهم، ويشير التحقيق لقضية سجلتها المحاكم الأردنية لسائق قام بتصوير فتيات أثناء القيام بإحدى الرحلات، ثمّ أرسل الفيديوهات إلى مجموعة من السائقين عبر تطبيق واتساب. تمكّنت السلطات بعدها من ضبط السائق، الذي كان يُعلق بألفاظ غير أخلاقيّة أثناء تصوير الفتيات بهاتفه الخلوي.
مظهر الفتاة وما ترتديه يُشكّل أهمية كبرى في الطبقات الأقل حظًا؛ فخروج الفتاة دون حجاب أمر غريب ومستهجن، ناهيك عن ارتداء الفساتين أو التنورات القصيرة، وإن حدث وخرجت الفتاة بمظهر بعيد عن السائد في بيئتها الاجتماعية؛ فإنها تُعرّض نفسها لأحكام قاسية قد تطال سمعتها.
John Doe Tweet
لا شكّ أن خوف حبيبة، -حتى وإن كان متوهمًا- مبررًا في دول تتعرض فيها الفتيات للتحرش في الشوارع والأماكن العامة بكثرة، وهو أمر تشترك فيه مصر مع دول عربية أخرى ولم تفلح فيها العقوبات لردع المتحرشين عن جريمتهم، في وقت ترتفع فيه نسب البطالة بين الشباب، وينتشر الجهل وتبرير التحرش باسم الدين عبر بعض الأصوات الدينية المتطرفة الرافضة لخروج المرأة ونزولها لسوق العمل، كأن المرأة كائن بلا حقوق، ولا يحق لها ما يحق للرجل من حرية في الملبس والعمل والتنقل والفضاء العام.
تساؤلات كثيرة تطرحها الحادثة على المجتمع؛ فلو كانت حادثة حبيبة هي محاولة اختطاف أو تحرش؛ فإلى متى تدفع الفتاة ثمن ممارستها لحقها في الحياة من حياتها وكرامتها؟ وإذا كانت الفتاة قد توهمت الخطر، بحسب محامي المتهم؛ فما الذي جعل الهوّة بين الرجل والمرأة كبيرة بهذا الشكل؟ وماذا لو كان الرجل من نفس الطبقة الاجتماعية للفتاة؟ هل كان سيحسن التصرف ويتفادى القيام بأي تصرف يثير الريبة؟ خصوصًا وأن تصرفاته هي نفسها التي يمارسها في بيئته، كأن يرش عطرًا في صحبة غرباء، ربما تكون عادية.
لا شك أن هناك حالات تحرش كثيرة تحدث بشكل يومي، وربما لحظي، في مصر والعالم، أغلبها حالات واضحة لا لبس فيها، لكن هناك أزمة واضحة، وهي الجهل بأساليب التواصل والتعامل مع الفتيات والنساء في عالمنا العربي، وتظهر تلك الأزمة بصورة جليّة عندما تنتمي الفتاة لطبقة اجتماعية ميسورة، بينما تتعامل مع رجل من طبقة اجتماعية مختلفة عنها، فغالبًا ما يفتقر الرجل لأسلوب التواصل الذي اعتادت عليه الفتاة والمرأة من الرجال في نفس طبقتها الاجتماعية، وقد يسيء تأويل تصرفاتها وردود أفعالها عبر قياس تلك التصرفات، وردود الأفعال بقيم وأخلاقيات طبقته الاجتماعية.
لنعط مثالاً على اختلاف أساليب الحياة وما قد تسببه من سوء فهم وتأويل؛ فمظهر الفتاة مثلًا وما ترتديه يُشكّل أهمية كبرى في الطبقات الأقل حظًا؛ فخروج الفتاة دون حجاب أمر غريب ومستهجن، ناهيك عن ارتداء الفساتين أو التنورات القصيرة، وإن حدث وخرجت الفتاة بمظهر بعيد عن السائد في بيئتها الاجتماعية؛ فإنها تُعرّض نفسها لأحكام قاسية قد تطال سمعتها.
يختلف الأمر في الطبقات الأفضل حظّا ميسورة الحال؛ فالحجاب إن وضعته فتاة يكون غالبًا إما نابعًا عن قناعة شخصية، أو نتيجة لوضع عائلي يعير الدين أهمية خاصة تنعكس في تنشئة الإناث والذكور، لهذا نجد بين تلك الطبقات نسبة كبرى من الفتيات لا يلتزمن بالحجاب، ويتبعن الموضة العالمية التي قد تكون مستهجنة في نظر قطاع عريض من المجتمع الواسع الذي قد تقوده الفجوة الاجتماعية واختلاف أخلاقياتها لإسقاط أحكام غير صحيحة على تلك الفتيات.
أتذكر مقابلة تلفزيونية مع الفنان المصري الراحل زكي فطين عبد الوهاب، تحدث فيها عن طفولته واستخدامه، وهو ابن فاتن حمامة وفطين عبد الوهاب، لوسائل المواصلات العامة وصداقته مع ابن الطباخ وأبناء العمال، وأظن أن هذا لا يتكرر الآن مع أبناء الفنانين ولم يكن ليحدث لو كان الفرز الطبقي حينها على ما هو عليه اليوم؛ فانقسام المجتمع لأناس موسرين يسكنون المجمعات السكنية المغلقة عليهم “كومباوند”، ينفصلون تمامًا عن الفقراء والطبقات الأقل حظًا، عمّق من حجم الهوّة وزاد من حالة التوجس والريبة وسوء الظن.
أصبح المجتمع منقسمًا لطبقتين، حتى اللغة لم تعد مشتركة؛ فبينما أولاد الأغنياء يتكلمون لغة عربية مختلطة بتعابير إنجليزية وفرنسية، أصبح أبناء الفقراء يتكلمون لغة مليئة بالتعابير الجديدة التي تظهر يوميًا ويفرضها الشارع.
John Doe Tweet
ويظهر هذا جليّا في الدراما، التي تنقل لنا بصورة حرفية، الفرز الطبقي الحاصل؛ فالمسلسلات أصبحت؛ إما تصور في العشوائيات والمناطق الفقيرة، أو في الكومباوندات المعزولة، واختفت تقريبًا المسلسلات التي تجري أحداثها في أحياء عريقة قديمة، تضم مجموعات من طبقات اجتماعية مختلفة، وباتت كل فئة بعيدة عن الأخرى، لا تشاركها يومياتها ولا تلقاها في أحداث يومياتها.
هذا الفرز الطبقي جعل التفاهم بين البشر صعبًا، حتى إنه من المستحيل اليوم أن تجد رجلاً غنيًا يتزوج من فتاة فقيرة، أو أن تتزوج فتاة غنية من شاب فقير، والأفلام العربية القديمة التي كانت تسرد قصص نجاح الحب بين البيئات الاجتماعية المختلفة، أصبحت محض خيال، وحتى التعليم المشترك الذي كان يجمع الشعب بكل فئاته تحت قبة فصل دراسي واحد في المدارس والجامعات، أصبح هو الآخر منقسمًا إلى تعليم للأغنياء وتعليم للفقراء، مدارس أجنبية وأخرى حكومية، وكذلك حال الجامعات.
وما ينطبق على مصر يمكن تعميمه على الوطن العربي؛ فقد أصبح المجتمع منقسمًا لطبقتين، حتى اللغة لم تعد مشتركة؛ فبينما أولاد الأغنياء يتكلمون لغة عربية مختلطة بتعابير إنجليزية وفرنسية، أصبح أبناء الفقراء يتكلمون لغة مليئة بالتعابير الجديدة التي تظهر يوميًا ويفرضها الشارع.
إن أسوأ ما قد يحدث لبلد أن تسحق طبقته المتوسطة، وتتسع الفجوة بين أغنيائه وفقرائه، وينفصل الأغنياء بعيدًا عن الأغلبية في مجمعات ومدارس وجامعات ووظائف لا يشاركهم فيها أحد؛ فالعزل التام مستحيل، والتقاء الأغنياء بالفقراء حادث لا محالة، عندها سيكون التوجس والقلق وافتراض سوء النوايا حاضرًا بالتأكيد.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.