عديمو الجنسية: بين المحاكمة الأخلاقية والظروف الحياتية القاهرة
“ماذا فعلتم للعفيفة حتى تفعلوا لغيرها؟ طوال حياتي وأنا أستر نفسي وأعفها، حتى جيراني الكويتيون لا يعرفون عن معاناتي شيئًا؛ فما نفعت العفة حتى يضر الانحلال؟”. هكذا بادرتني محدثتي عبر مكالمة هاتفية أتت إثر تغريدة لي على تويتر، والتي خلقت موجة رد فعل عنيفة وخالية من الذكاء، كحال كل الموجات الجمعية، والتي من خلالها ينفِّس الناس عن أنفسهم ويكررون الكلمات بلا تدبر أو تفكير.
قبل أيام انتشر خبر في الكويت حول القبض على سيدة بدون وابنتها القاصر بتهمة التحريض على الفجور والدعارة والابتزاز المالي، وهو الخبر الذي أحدث ضجة كبيرة بحكم تطرف نوعيته وندرة سَقطته. علقت أنا في تغريدة حول الخبر متسائلة حول الدور الحكومي والمجتمعي: “أي خيار تُرك لهاتين السيدتين؟ أي مصدر رزق فتح لهما؟ أي فرصة عيش كريم توفرت لحمايتهما من الوقوع في هكذا فعل؟”.
"هل يمكنك أن تكون حرًا بلا ورقة ثبوتية، بلا عمل، بلا شهادة، بلا مظلة حكومية تحميك وتدفع عنك وتؤمن حقوقك؟ كيف تدافع عن الأخلاق بلا أي سلاح، وأنت منزوع القوى، مهزوم الظروف؟"
وعلى الرغم من معرفتي بطبيعة ردود الأفعال التويترية؛ أتى رد الفعل الهائج هنا مفاجئًا لي في الواقع؛ حيث ثارت غضبة المعلقين متأثرين جدًا بمساندتي “النسوية” التي -في رأيهم- تخطت انحلال الفعل إلى التبرير له، مشيرين إلى “علمانيتي ونسويتي”، بألفاظ يعف عنها لسان الفاحشين، دع عنك مدعي الفضيلة، على أنهما سبب “سقوطي الأخلاقي”. تكررت بعض الجمل بهياج عصابي غريب مثل -وأعتذر من القارئ لاضطراري ذكرها رغم هبوطها-؛ “الحرة لا تأكل بثديها”، وغيرها من التعابير فاقدة المعنى بتكرارها وهبوط فحواها.
أما البعض من المتبنين لموقف “الناقد المثقف”؛ فقد كتبوا مشيرين إلى أن دفاعي “غير مستغرب لأنه يعود للأيديولوجية اليسارية” التي تشجع على الفسق والانحلال. وهكذا ضاعت القضية الأساسية في هجوم شخصي لا علاقة له، لا من قريب ولا من بعيد، بالمأساة الحقيقية الُملحِة.
ولأن الهياج الجمعي أرعن، ولأن الإنسان خلف الشاشة هو غيره عن المواجهة المباشرة؛ حيث في الأولى يُفتح باب البطولات الاستعراضية التي تخفي أي خوف أو جهل خلف تلك الشاشة الزجاجية، غاب عن الكثير من المغردين أن تعليقي لم يكن ليخص النساء هنا؛ أي أنني لم أكن أتساءل حول ما دفع امرأة لارتكاب جريمة كهذه وإن كان يبقى سؤالًا مستحقًا، إنما كنت أسأل عما دفع بعديم، أو في هذه الحالة عديمة جنسية لارتكاب هذه الجريمة، أي أن تساؤلي هنا إنما هو يخص الوضع السياسي والاجتماعي الذي خلقه انعدام الجنسية، ويخلقه هذا الوضع حول العالم أجمع للأفراد الرازحين تحت ظلم هذه الصفة الخارجة عن كل إطار قانوني وإنساني.
وغاب في استعجالهم لرمي “علمانيتي أو يساريتي أو نسويتي أو ليبراليتي”، حسب ذائقة المعلق بالمذمة، عن المعلقين أن تعليقي ليس أيديولوجيًا بالمعنى البحت هنا، لا علاقة له بفكرة فلسفية، تعليقي لا يخص النساء، ولا يدور حول مفاهيم الشرف أو الأخلاق أو حتى القانون؛ فالموضوع يدور حول حالة سياسية اجتماعية معقدة مريبة ظالمة حارقة خلقتها البشرية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، ليرزح أسفلها وإلى اليوم ما يزيد عن الاثني عشر مليون إنسان.
إلا أنه حتى بين هؤلاء الذين فهموا المرمى الواضح للتغريدة في إشارتها إلى وضع انعدام الجنسية على أنه المتهم الأول في هذه الجريمة؛ كان هناك من اعتقد أنه حتى هذا الوضع الغائم التشريدي ليس سببًا كافيًا للحياد عن الطريق المستقيم. ولم لا، وهؤلاء قادرون، بمعدة مليئة ومأوى مريح وشهادة علمية وجواز سفر، على رفع راية الأخلاق والتشدق بها؟ إن الإنسان المنعّم ولو بشيء من الراحة والأمان المادي والسياسي، والمقصود بالأخير أمان مظلة حكومية وانتماء دولي يستطيع أن يحتمي بهما، وأن يطالبهما بحقوقه الإنسانية والمدنية، هذا المنعّم الآمن يمكن له أن يتشدق بالأخلاق والأمانة والشرف بكل أريحية؛ فهو يستطيع تأمينها والتباهي بها، يمكنه أن يدفع كلفتها ويتحمل بعض تبعاتها (وإن كان حتى هذا القادر كثيرًا ما يسقط تحت سكين الإغواء)، أما الجائع الشريد، الذي بلا عمل أو سكن أو حتى وطن؛ فالأخلاق تصبح بالنسبة له جمرة، يصعب عليه القبض عليها لزمن طويل.
كم مرة تخطينا المبادئ وتهاونا في الالتزام القيمي وبررنا التعدي على الصواب؟ في الإجابة الواقعية على هذا السؤال مواجهة حقيقية مع النفس، وهبوط مطلوب إلى أرض الواقع.
وعليه؛ فإن مقولة “الحرة لا تأكل بثديها”، مع اعتذري عن تكرار المثل الهابط، تستدعي فعليًا هذا التساؤل حول ما إذا كان قائلها أو كاتبها قد تفكر فعليًا في معناها، في عمقها، وكما علقت نورا طالبتي الشابة بواقعيتها أنه ببساطة؛ هل عديم أو عديمة الجنسية حر فعليًا؟ هل يمكنك أن تكون حرًا بلا ورقة ثبوتية، بلا عمل، بلا شهادة، بلا مظلة حكومية تحميك وتدفع عنك وتؤمن حقوقك؟ كيف تدافع عن الأخلاق بلا أي سلاح، وأنت منزوع القوى، مهزوم الظروف؟
وهكذا، مستندين على أمان وضعهم السياسي والاجتماعي، ودون أي شعور بانفصام أو تعالي الموقف، اقترح بعض المغردين أنه كان أولى بهاتين المرأتين أن تؤسسا مشروع طبخ منزلي، أو تبيعا سلعة ما في الشارع، أو تعملا خادمتين في البيوت عوضًا عن اللجوء لهكذا عمل فاحش، ومن يمكن أن يختلف مع ذلك؟ بالطبع كان ذلك أولى وأصح أخلاقيًا ومجتمعيًا وقانونيًا، وبالطبع كان المأمول أن تنتصر قوة الإرادة والتمسك بالفضيلة، ولكن؛ هل هذه القوة ممكنة دائمًا؟ وهل الخيارات الأخرى متوفرة دائمًا؟
إن الاعتقاد بأن خيارات كهذه متاحة للجميع تحت أي ظرف من ظروف الفقر أوالتشرد، أوانعدام الجنسية أو القهر السياسي أو المجتمعي لأي أقلية، الاعتقاد أن التغلب على هكذا ظروف هو أمر اختياري إرادي دائمًا، وأن التزام الفضيلة والأمانة هو فعل ممكن تحت أي ظرف من الظروف؛ إنما هو ضرب من ضروب الجهل والغباء العاطفي والاجتماعي، وانعدام الحس التعاطفي المنطقي مع بني جنسنا.
المرأة عديمة الجنسية في أي مكان في العالم، تقع في أدنى درجات السلم الاجتماعي، تضغطها الأسرة أو القبيلة برجالها، ومن فوقهم القوانين والحكومة، ومن بعدهم حالة التشرد الدولية لانعدام الجنسية، وتشعل النار في أجنابها حالة الفقر وقصر ذات اليد وانتقاص فرص التعليم والعمل، وندرة فرص الزواج لمن هنّ في وضعها؛ فهل هذه امرأة حرة حتى تحاكم بهكذا أمثال رخيصة تفرض هكذا معايير عالية صعبة؟
هل يعلم منعّمو تويتر أن أفضل وظيفة تحصل عليها عديمة الجنسية في الكويت -على سبيل المثال- هي مربية في حضانة، مهما بلغت درجة تعليمها؟ هل يعلم هؤلاء تكلفة مشروع طبخ صغير في البيت بالنسبة لامرأة لا تستطيع أن تشتري دجاجة واحدة تطعم بها عائلتها؟ هل يعلم هؤلاء فرصة نجاح هذه المشاريع المنزلية في دول اليوم ذات المشاريع الانستغرامية المتوالية بشركاتها العالمية وخدماتها التوصيلية وأسعارها التنافسية؟ وهل يعلم هؤلاء أن طول مدة الحرمان والقهر والشعور بالخوف وغياب الأمان يولد مناعة تجاه الأخلاق، تحول هذه الأخلاق إلى مجرد ترف لا يستطيع الشخص توفيره؟ هذه التي كبرت في ظل الحرمان والجوع والقهر المنزلي والحكومي؛ هل لديها مكان في قلبها ونفسها وعقلها وعاطفتها لتفكر في قيمة نفسها وجسدها وفي صحة خياراتها وهي جائعة عارية مما يقيها البرد، خائفة من غد مظلم؟
لست هنا أدعي أن تلك تحديدًا هي حالة هذه السيدة وابنتها؛ في الواقع أنا لا أعلم عن ظروفهما الداخلية شيئًا؛ إلا أن ما أنادي به هو ضرورة مساءلة المجتمع قبل المذنب؛ فكما يقول برنارد شو في مقدمته لمسرحية “مهنة السيدة وارن”: “إن الإنسان الذي لا يستطيع أن يرى أن الجوع الشديد، الكد الشديد في العمل والقذارة والوباء؛ كلها معادية للمجتمع تمامًا كالدعارة، أنها كلها آثام وجرائم الأمة، وليس مجرد آفاتها، هو (بأكثر تعبير تأدبًا) إنسان منعزل تمامًا حد اليأس”. وعليه؛ يستوجب على المجتمعات الإنسانية؛ وخصوصًا تلك المحافِظة، مدعية الفضيلة، أن تلعب دورًا فاعلاً في تخفيف المعاناة ورفع المظالم وضمان الحقوق الدنيا من العيش الكريم للناس قبل الحكم عليهم، ومطالبتهم بأدوار بطولية أخلاقية لن يستطيع المدعون القيام حتى بنصف جهدها لو واجهوا هم ذات الاختبار القاسي.
في تغريدة من ذات النوع المتعالي، كتب أحدهم يقول “أنا أفهم أنه إذا وقعت هذه الجريمة مرة واحدة بسبب الحاجة، ولكن أن تتكرر وبنفس الطريقة؛ فتأكدي أن الحاجة مو (أي ليست) أحد الأسباب”، لينسى هذا المعلق أن المرة الأولى هي المرة الأصعب، وأن السقوط يعجن النفس باليأس لتسلم نفسها للشعور بالدونية والذنب غير المغفور؛ فلا يعود من الناجع أو حتى من الممكن التراجع. كيف يمكن لإنسان أن يروج للأخلاق وهو يتخذ موقفًا غير أخلاقي في محاكمته للناس من برجه العاجي؛ في مطالبتهم معاناة جوع وتشرد وحرمان لم يختبرها هو يومًا في حياته حفاظًا على شرف لم يتكلف الكثير لحمايته؟ ألا يتحول عندها الشرف لمجرد شعار خاو بخواء المعدة، مجرد أداة تعذيب بعذاب العوز والحاجة؟
على من يرى في سقطة هاتين المرأتين إثمًا مجتمعيًا أن يحرك إبهامه الذي يشير به بالاتهامات جزافًا إلى النظام العالمي الأكبر الذي قهرهما، أو شردهما، أو أخلى قلبيهما من الحاجة للالتزام الأخلاقي، عليه أن يستغل هذه القضية لينظر إلى الصورة الكبرى؛ القهر الأوسع، إلى تلك الكارثة الإنسانية التي تشمل اليوم أكثر من اثنى عشر مليون إنسان يعيشون حالة تشرد سياسي واجتماعي وقانوني، يحيون بلا غطاء، بلا أمان، وفي الغالب الأعم بلا منظومة حقوقية دنيا؛ من تعليم وطبابة وعمل وحق تنقل ومصدر دخل يوفر مأكلًا ومشربًا، يضمن كراماتهم ويحملهم مسؤولية الالتزام الأخلاقي الذي يتشدق به الآمنون المنعمون.
الحرمان مُجْرِم يجرد الإنسان؛ ليس فقط من الشعور بالاستقرار والراحة والأمان، ولكن كذلك من دفء الالتحاف بالأخلاق، من رفاهية التمسك بالقيم والمبادئ، ومن سعادة ممارسة اختيار الطريق الصحيح الشريف، والشعور بالفخر والرضا عن الذات بسبب هذا الاختيار. الحرمان -أيًا كان مصدره- يشكل هزيمة حياتية ونفسية وأخلاقية، المسؤول الأول عنها هو المجتمع وصناع القرار فيه، لا الفرد المتحمل لتبعاتها. ومثلما هو معيب أن تأكل على سفرة مليئة بما لذ وطاب أمام جائع محتاج، هو معيب أن تتشدق بالأخلاق أمام من هو غير قادر على دفع ثمنها. قبل أن نحاكم الآخرين الذين يحيون بلا أمان، بلا سند، لننظر لأنفسنا آمنين، منعمين مترفين، ونتساءل؛ كم مرة تخطينا المبادئ وتهاونا في الالتزام القيمي وبررنا التعدي على الصواب؟ في الإجابة الواقعية على هذا السؤال مواجهة حقيقية مع النفس، وهبوط مطلوب إلى أرض الواقع.
أخيرًا: يضرب العدو الإسرائيلي الصهيوني كل منطقة في غزة يطلب من الغزاويين اللجوء إليها ويعدهم بالأمان فيها، والآن وصلت آلة القتل الصهيونية الحدود المصرية عند رفح، والإبادة على أشدها وتزيد. قبلت حماس شروط وقف إطلاق النار، والصهاينة ما زالوا مستمرين في عمليتهم الإبادية. كيف يمكن أن يحدث ذلك في القرن الواحد والعشرين؟ كيف ما زال هناك مطبعون؟ كيف ما زال هناك مبررون؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.