هل فعلاً حرية الصحافة في قطر وعمان أفضل من لبنان ومصر؟! تساؤل منطقي نتيجة لما نشرته منظمة “مراسلون بلا حدود” في تصنيفها الأخير لسنة 2024؛ فكما هو واضح من هذا المؤشر، أن دولتي قطر وعمان تتقدمان على لبنان ومصر في التصنيف. كانت دائمًا هناك تساؤلات من الجمهور حول واقعية نتائج هذا المؤشر: هل هذه النتائج تعكس بالفعل حقيقة مناخ حرية الصحافة في هذه الدول؟ وهل بالضرورة أن الدولة التي تتقدم في تصنيفها على الدولة التي تليها، هي أفضل مناخًا؟!
وكانت لدي أيضًا تساؤلات مماثلة، بل وأكثر من ذلك. بيد أنه لم يسبق لي نشر تساؤلاتي للعلن لسبب بسيط يتعلق بمصداقيتي أمام نفسي، فضلاً عن مصداقيتي مع الآخرين. كنت لسنوات أحد المساهمين في تقييم “عمان” في هذا المؤشر، ولذلك لم أر من المصداقية أن أطرح تساؤلاتي في العلن، والتي قد يعتبرها البعض تشكيكًا في موضوعية ومصداقية المؤشر.
إذن لماذا قررت الآن أن أطرح تساؤلاتي للعلن؟ الأمر بكل بساطة هو أنني لم أشارك في النسخة الأخيرة؛ وقد رفضت المشاركة لسببين: الأول بسبب موقفي من أحداث غزة الأخيرة التي رأيتها لا تنسجم مع موقف “مراسلون بلا حدود”، قد لا يختلف الموقفان في العموميات، ولكن كما يقال؛ الشيطان يكمن في التفاصيل، ولكنه هنا شيطان خيّر، على الأقل من وجهة نظري. أما السبب الثاني شخصي، وهذا السياق ليس المكان المناسب لذكره.
تقدم تصنيف دولة ما مقارنة بالعام الذي سبقه، لا يعني بالضرورة أن المناخ الصحفي قد تحسن في هذه الدولة، لأنه بكل بساطة قد تكون الدولة التي تقدمت على أخرى قد تراجع تصنيفها في النسخة السابقة لأسباب موضوعية.
وقبل أن أذكر تعليقي؛ فمن الضروري التأكيد على إعجابي بالجهود التي تبذلها منظمة “مراسلون بلا حدود” في إعداد وإنجاز مثل هذا العمل الضخم والمهم، وأعلم أن نتائج المؤشر غير مسيسة، وأن فريق المؤشر يبذل كل الجهود المتاحة للوصول إلى نتائج أقرب للواقع. على الأقل هذا ما لمسته بشكل شخصي من تعاملي مع المنظمة منذ سنوات طويلة، ولكن بالضرورة، يجب أن أستثني عن رأيي هذا موقفي من أحداث غزة كما أشرت في السبب الأول؛ فهذه حالة خاصة، حالة لا يمكن فصلها عن واقع القضية الفلسطينية الدولي، والذي يتأثر دائمًا بمعايير الحق والباطل، الصواب والخطأ، بناء على معايير القوى العظمى المفصلة على مقاس مصالحهم.
كوني من الخليج، ومهتمًا بالشأن السياسي والإعلامي في هذه الدول؛ فأنا على دراية بمناخ حرية الصحافة في هذه الدول. كذلك كوني أعمل في هذا الحقل منذ قرابة 11 عامًا؛ فأنا متابع لمناخ الحريات الصحفية في سائر الدول العربية بشكل متفاوت؛ بل أيضًا هناك العديد من المؤسسات العربية، وصحفيون من جميع الدول العربية يتعاونون بشكل متواصل مع المؤسسة الإعلامية التي أديرها “شبكة مواطن الإعلامية”، ولذلك لست بعيدًا عن المشهد.
لذلك أكاد أجزم أن ما يستطيع الصحفي في مصر ولبنان مثلاً أن يقوله، هو أعلى سقفًا مقارنة بما يستطيع قوله أي صحفي أو مؤسسة صحفية في عمان أو قطر؛ خاصة حين يتعلق الأمر بالقضايا ذات الشأن السياسي والاجتماعي والديني. ومن هنا وبكل تأكيد؛ فتصنيف عمان وقطر يجب أن يأتي بعد لبنان ومصر في المؤشر من حيث تدهور مناخ حرية الصحافة.
ولكن لماذا في المؤشر الأخير على سبيل المثال، تظهر النتائج بالعكس؟ أرى أن الأمر يتعلق بملابسات أخرى اهتم بها المؤشر؛ مثل: عدد الصحفيين المسجونين/ المقتولين في السنة التي يقيّمها المؤشر. ومن هنا فمفهوم جدًا تأخر تصنيف لبنان ومصر، وتقدم تصنيف قطر وعمان في نتائج المؤشر في نسخة 2024. لكن المؤشر لا يراعي أصلاً لماذا لا يوجد صحفيون معتقلون في هاتين الدولتين بالأساس؟ هل يوجد مثلاً في عمان مؤسسات مستقلة تخرج، أو تحاول أن تخرج عن الخطوط العامة التي وضعها النظام لكي يضطر ذلك النظام لاعتقال صحفيين. يعلم الصحافي العماني أن هذا غير ممكن، ولذلك يمارس على نفسه رقابة ذاتية بوعي وبغير وعي، بسبب النماذج التي خلفها النظام كعبرة لكل من تسول له نفسه تجاوز تلك الخطوط، ولنا في جريدة الزمن ومحرريها نموذج. أيضًا لم يراع المؤشر حجم نضج العمل الصحفي العماني لكي يمارس الصحفي في عمان أصلاً الدور المنوط به من الأساس؛ فكل متابع للصحافة العمانية يعلم أنها صحافة علاقات عامة، هدفها الترويج لسردية النظام في الأساس.
وكما أقول دائًما ساخرًا، إن العمل في الحقل الصحفي في عمان، حقل آمن وغير محفوف بالمخاطر، ما دام الصحفي أو المؤسسة الصحفية لم تخرج عن الإطار العام الذي رسمه النظام، تحت غطاء المنظومة القانونية الرجعية، وإشاعة الخوف عبر أجهزته الأمنية.
باختصار؛ لا توجد في عمان أصلاً صحافة تتجاوز نقل الخبر، وليس كل خبر؛ فضلاً عن وجود صحافة استقصائية! وشتان بين هذه الحالة، والحالة المصرية واللبنانية!
النقطة الثانية التي لا تقل أهمية أيضًا، تتعلق بتقدم وتأخر تصنيف دولة معينة من سنة إلى أخرى؛ فتقدم تصنيف دولة ما مقارنة بالعام الذي سبقه، لا يعني بالضرورة أن المناخ الصحفي قد تحسن في هذه الدولة، لأنه بكل بساطة قد تكون الدولة التي تقدمت على أخرى قد تراجع تصنيفها في النسخة السابقة لأسباب موضوعية.
ويمكن أن أختم هذا الحديث برسالتين: الأولى موجهة إلى منظمة “مراسلون بلا حدود”: في رأيي أن موضوعية المؤشر، بما في ذلك التصنيفات الفرعية للمؤشر، يجب أن تعزز بشرح تفصيلي ووافٍ حول مناخ حرية الصحافة في كل دولة على حدة، ويراعي سياق كل دولة، ويجب أن تصمم استمارة تقييم خاصة لكل دولة تراعي سياقها السياسي بشكل أكثر حساسية. وقد تكون هناك حلول أخرى لدى المختصين في الإحصاء، وأرى أن استمرار المؤشر بشكله الحالي لا يخدم الموضوعية التي تسعى لها المنظمة.
الرسالة الثانية موجهة للحكومات العربية؛ تحديدًا الخليجية، وأخص منها العمانية: ليس من الموضوعية أن تدسوا رؤوسكم في التراب لو كان تصنيفكم متأخرًا، فضلاً عن شيطنة المؤشر ونتائجه؛ وتروجون للمؤشر ونتائجه إذا كانت النتيجة مرضية لكم. بعد صدور النسخة الماضية ظهر رئيس جمعية الصحفيين العمانية على شاشة البي بي سي ينتقد نتائج المؤشر بحدة، مع التأكيد على أن هذه الجمعية من المفترض أنها مؤسسة مجتمع مدني، ولكن واقعها لا يختلف عن أي مؤسسة حكومية من حيث سيطرة النظام على قرارها؛ بل إنها أيضًا تحصل على دعم مالي حكومي سنوي!
وقبل صدور نسخة المؤشر الحالية بأيام، هاجم وزير الإعلام العماني في إحدى جلسات “مجلس الشورى” مؤشر مراسلون بلا حدود، وشكك في موضوعيته، وأكد أن لدى الإعلام العماني حرية تامة، رغم أنه في ذات الحديث حددها بمقاييس؛ وهي مقاييس النظام العماني المعروفة. والمفارقة أنه بعد صدور المؤشر، لاحظ كل العمانيين مدى تهليل وتمجيد وترويج وكالة الأنباء العمانية ووزارة الإعلام العماني والصحف الأخرى التابعة للنظام، الحكومية والخاصة، بنتائج المؤشر، وتقدم عمان 18 درجة مقارنة بنسخة عام 2023؛ رغم أنه في الحقيقة، لم يتغير الواقع ولا البيئة القانونية للأحسن! مع العلم أن هذا التصنيف ما زال متأخرًا جدًا، ولا يستدعي التفاخر.
الواقع الصحفي في عمان يصبح معقد الفهم؛ خاصة لو كان من يحاول فهمه خارج البلاد أو لم يمكث فيها فترة طويلة وانخرط في الشأن المحلي عن كثب. المناخ الصحفي وحرية التعبير بشكل عام في عمان ما هو إلا انعكاس لهواجس النظام بسبب فقد السيطرة على المعلومة؛ فهذا النظام يرى من حقه؛ بل من واجبه تكريس هذه السيطرة من أجل مصلحة الوطن من وجهة نظره. إذن فطبيعة المناخ الصحفي هو انعكاس حقيقي لصورة. ولذلك من غير الممكن أن نرى يومًا ما مؤسسة مستقلة تعمل من داخل البلاد بحرية.
وكما أقول دائًما ساخرًا، إن العمل في الحقل الصحفي في عمان، حقل آمن وغير محفوف بالمخاطر، ما دام الصحفي أو المؤسسة الصحفية لم تخرج عن الإطار العام الذي رسمه النظام، تحت غطاء المنظومة القانونية الرجعية، وإشاعة الخوف عبر أجهزته الأمنية. ويسري هذا على كل المؤسسات الصحفية؛ سواء كانت حكومية أو خاصة. ويتلخص هذا الإطار العام في الآتي: لا تنتقد -بشكل مباشر أو غير مباشر- الحاكم وأسرته وأجهزته الأمنية، لا تنتقد أداءه الإداري في كل مؤسسات الدولة التي يديرها مهما كان مخيبًا للآمال، ولأن السلطان يمتلك كل شيء في عمان، ويدير كل مؤسسات الدولة العليا، ولهذا فمن الأفضل ألا تنتقد إطلاقًا، وانسَ ما تعلمته حول العمل الصحفي بشكل عام، والصحافة الاستقصائية بشكل خاص، واحرص على تمجيد كل ما يقوم به هو وحكومته. وتذكر جيدًا أيها الصحفي، أن عضو مجلس الشورى -وهو المحصن بالقانون- لم يسلم من العواقب بعد طرحه تساؤلات منطقية حول الفساد؛ فكيف بك أنت في بلد؛ لا يساوي الصحفي فيه شيئًا!
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.