ينص القانون الثالث من قوانين نيوتن على أن “لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه”، وقد درج الاهتمام بذلك القانون لواقعيته المفرطة في الماضي والحاضر، ولأنه قانون أساسي من قوانين تنظيم الحركة والمجتمع.
ومن خلال ذلك القانون يمكن فهم مصطلح “ما بعد الحداثة”؛ كونه رد فعل على “الحداثة“؛ فإذا كانت حركة الحداثة، وهي حركة تغيير شاملة طرأت على معظم جوانب الحياة بدأت منذ القرن 18 وازدهرت في القرن 19 حتى منتصف القرن 20، وتميزت بالفكر المادي والشكوكية كعارض من أعراض الثورة الصناعية؛ فما بعد الحداثة تميزت بنقد أصول تلك المادية والبحث في الدوافع النفسية وراء الشك، بالتالي سحب الادعاء الأخلاقي والعقلي من الشك الحداثي واعتباره علامة انحياز (راجع مقالي على مواطن لشرح التفكيكية)، وإذا تميزت الحداثة بعصر الاستعمار الذي خرج فيه الأوروبيون لاحتلال الجنوب والوسط العالمي؛ فما بعد الحداثة خرجت لتثير قضية شائكة وهي أن السلطة السياسية أيديولوجية في الواقع مهما التحفت برداء العقلانية والتحرر.
يعني هذا أن حركة ما بعد الحداثة لم تُسمّ نفسها كذلك؛ بل عُرِفَ عنها النقد الشامل والجزئي لمنتجات عصر الحداثة، واستند هؤلاء النقاد لمجموعة من الحجج والأدلة والبراهين، أبرزها أن الذين حملوا مشروع التنوير منذ القرن 17 حتى 19م كانوا استعماريين ومتحيزين جنسيًا وعنصريًا ضد المجموعات والشعوب التي رأوها أقل استنارة منهم؛ فلم يعرف العالم ميثاق حقوق الإنسان ولا حقوق المرأة ولا تحرير العبيد سوى على يد هؤلاء النقاد، لكنهم في ذات الوقت لم يُبشروا بمذهب جديد أو يصيغوا دولة جديدة غير التي عرفها الحداثيون؛ بل قالوا إن الديمقراطية والليبرالية هي نموذج الحكم الأمثل، والحريات وحقوق الإنسان هي الوسائل الفعالة والمضمونة لإحداث أي تطور علمي وأخلاقي وإنساني.
فلسفة ما بعد الحداثة عمومًا، هي أفكار ونظريات ورؤى سادت العالم منذ القرن العشرين، وقد نشط روادها الأوائل منذ نهاية القرن 19، لكن لم تتمكن هذه الحركة إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م) وبدء نظام دولي جديد، علمًا بأن تلك الفلسفات عُرفت بالعمل على إعادة الاعتبار مرة أخرى لحدس الإنسان ولغته وأعرافه وأخلاقياته وأدبياته وروحانياته وأديانه، مع التزام صارم بالعلم ومخرجاته والنظام العلماني للدولة، والتوسط في مسألة قبول رجل الدين في القول بمواطنته وحقه المشروع في العمل بالسياسة كإنسان، وليس بصفته رجل دين، وقد شرحنا على مواطن العديد منها (كالتحليلية والتفكيكية والبنيوية والبراجماتية والوضعية المنطقية.. وغيرها) التي نشط روادها وفلاسفتها وأدباؤها في نقد الحركة الحداثية، ومراجعة ما استقر عليه العالم من أوضاع كانت مرفوضة هذا التوقيت.
ومن أمثال تلك الجهود ما بعد الحداثية ضد الحداثة، كتاب “الكينونة والزمان” الذي عرف بالوجود والزمان للفيلسوف الألماني “مارتن هيدجر” (1889- 1976م)، الذي خرج في محتواه العام كجدل صريح ضد الشكوكية الحداثية، وطعن في براهينها العقلية ودوافعها النفسية ونتائجها التي أثمرت عن فظائع عانى منها العالم خلال القرنين 19 و 20، وكان الفيلسوف هيدجر نفسه من أشهر ناقدي منتجات الحداثة وتعقيداتها وماديتها، والتي مال فيها الرجل للتبسيط وإعادة الاعتبار للروح والحدس الإنساني، أو كما قال الفيلسوف المصري “أشرف منصور” في تقريبه رؤية هيدجر للعالم من خلال تحليله لفيلم “خرج ولم يعد” سنة 1985م للنجم يحيى الفخراني.
إن فهم حركة ما بعد الحداثة غير يمكن، سوى بعد الوقوف على نقاط قوة وضعف الحداثة
ويمكن تلخيص معظم الاعتراضات ما بعد الحداثية على الحداثة في مقولة الكاتب المصري “محمد السيد سعيد” (1950- 2009) في جريدة العربي الكويتية أبريل 1993م بأن الحداثة قد استنفدت أغراضها، وأن قيمتها المعرفية بهتت أو ربما صارت أصباغًا على لوحة لم يعد لها ملامح أو هوية، وأن التعبير نفسه فقد رنينه ومضمونه التنويري في وقت واحد، وما بعد الحداثة هو مفهوم ينكر الحداثة التقليدية، ولا يقدم بالضرورة على القطيعة مع الماضي أو الميراث الثقافي، ولا يقبل النموذج الارتقائي الذي يجعل المجتمع الأوروبي هو الصورة النموذجية للعالم المتخلف”..انتهى.
لذا فمن الطبيعي أن تتعاطف شعوب غير أوروبية تجاه حركة ما بعد الحداثة أو بعض تفاصيلها، وتستند إلى نشاط تلك الحركة في نقد الحضارة الغربية بشكل عام؛ في تأويل متعسف لمقاصد الحركة التي تؤمن جليًا بالحضارة، لكنها تنتقد أفكار بعض دعاتها للتطوير والارتقاء، ولذلك -شخصيًا- عندما أتحاور مع سلفي أو إخواني أو كل من يؤمن بجماعات الإسلام السياسي، وأراه يستند على أدلة وترجيحات فلاسفة ما بعد الحداثة على فساد الحضارة، أعلم يقينًا أنني أمام شخصية لا تعلم شيئًا عن الحداثة ولا عما بعد الحداثة، ولا عن أسباب ومواد الخلاف، وجوهر الاعتراضات الإصلاحية التي قامت بها حركات ما بعد الحداثة بالمُجمَل.
دفاع حداثي ضد المنتقدين
ولتبسيط الفكرة، أرى أن فهم ما بعد الحداثة غير يمكن، سوى بعد الوقوف على نقاط قوة وضعف الحداثة؛ فبعدما تعرفنا على بعض نقاط الضعف التي خرج لنقدها تيار ما بعد الحداثة، أطرح عليكم وجهة النظر الأخرى التي تقول بأصالة الحداثة ومنجزاتها، وأن لها السبق في تغيير العالم للأفضل، وأن تلك الانتقادات الموجهة إليها سياسية في الغالب وليست منهجية، بمعنى عدم شرعية اعتبار آفات الاستعمار كدليل على شرعية نقد الحداثة؛ بل وضع تلك الآفات في موضعها الصحيح، كانحدار أخلاقي للبشرية مرتبط بأهوائهم وقصورهم الإدراكي والمعرفي بعيدًا عن التقدم العلمي والإنساني الذي حدث.
فحتى لو صحت براهين وأدلة أنصار ما بعد الحداثة؛ فالحداثة نفسها أنجزت وفق حركة التاريخ ما لم يكن بمقدور أي إنسان فعله وسط التخلف والمرض والجهل، والحروب التي استشرت في القرون الوسطى، بمعنى أن الحداثة كانت ضرورة تاريخية لصدمة الإنسان ودفعه للشك في نفسه وماضيه كحل وحيد أو وسيلة وحيدة تنقذه من الفناء، أو ضرورة وحيدة للتقدم العلمي والإنساني دون التدخل المعتاد من الكهنوت ورجال الدين، بمعنى أنه حين رفعت الحداثة نداء الشك لم يكن ذلك محصورًا في العلم، ولكن في الأديان أيضًا، التي هي سلاح رجل الدين في السيطرة على المجتمع، ولأن هذه السيطرة تمنع التقدم العلمي، وهي حارس التخلف والجهل والتعصب الديني الذي كان مستشريًا في القرون الوسطى، وجب نزع ذلك السلاح الخطير كشرط وحيد للبقاء؛ فحدثت موجات الشكوكية بالتوازي مع صياغة القوانين والدساتير التي تفصل بين الدين والدولة.
مواضيع ذات صلة
ولم يتوقف إنجاز الحداثة على الشكوكية في الأديان والسياسة والعلم؛ بل في الأخلاقيات أيضا باعتراف واحد من أهم فلاسفة ما بعد الحداثة، وهو الفيلسوف الفرنسي” ميشيل فوكو” (1926- 1984م)، والذي ذهب في كتابه “المراقبة والمعاقبة” إلى أن إنجاز الحداثيين واحد من أهم التغيرات الأخلاقية في العقاب على مر التاريخ، وهو الانتقال من العقاب الجسدي لعقاب آخر يتجاوز الجسد أكثر إنسانية وأقل عذابًا وإيلامًا؛ فالذي كان شائعًا قبل الحداثة من قتل وحرق وتعذيب المذنبين وقطع أعضائهم؛ فاستبدل الحداثيون أغلبية ذلك العقاب بالسجن والغرامات، حتى في الإعدامات ذهبوا لطرق أكثر إنسانية من الطرق القديمة، وبالتالي فموجات الشك والعقلانية والمادية التي ميزت الحداثة كان لها الفضل في نقل الإنسان وتطويره ليصبح أكثر أخلاقًا مما مضى.
أضيف أن شكوكية الحداثة وماديتها صنعت سلاحًا قويًا للغاية ضد الأيديولوجيات الدينية المتطرفة؛ فهي وإن ساهمت في صنع تطرف آخر سياسي وقومي ميّز القرن 19 والنصف الأول من القرن 20؛ فقد قضت على وسائل قوة وتمكين المتطرفين دينيًا عبر عدة وسائل:
- أولًا: فصل الدين عن الدولة؛ فمنعت نفوذ المتطرفين دينيًا عن المجتمع، وأعادت تعريف مصطلح الدين والمذهب والشريعة الذي درج عليه القدماء في القرون الوسطى.
- ثانيًا: تشريع الحريات في الدساتير والقوانين بأنواعها المختلفة، كحرية الرأي والتعبير والفن والصحافة والإعلام.. إلخ؛ فقضت على وسائل المتطرفين دينيًا في السيطرة عبر قوانين الحسبة والتجديف.
- ثالثًا: اعتبار نسبية الآراء وتكاملها مع بعضها البعض لا القول بقداستها وتفاضلها مثلما كان يفكر أهل القرون الوسطى، الذين كانوا يتبعون الرأي على أنه دين مقدس لا مجرد اجتهاد شخصي.
- رابعًا: اعتبار تطور الأفكار وعدم ثباتها في الواقع الاجتماعي بناءً على تطورها التاريخي، وبالتالي القول بعدم صلاحية الأفكار التي جرى تطويرها بما يناسب مصلحة المجتمع، وهذه الجزئية كانت من أبرز وسائل نقد الفكر الديني القروسطي عند الفلاسفة ورجال الدين الإصلاحيين الذين ظهروا في حقبة الحداثة رفضًا لما جرى في الماضي، ومحاولات إعادة تدويره كدين مقدس لا كأسلوب حياة قديم.
- خامسًا: إعادة الاعتبار للدليل والبرهان بعدما تم القضاء عليهما في القرون الوسطى، وأدى ذلك لانحدار البشرية بعد نهضتها في العصر اليوناني، وما تبع ذلك من جهود إسلامية حضارية في العصر العباسي؛ فلم يعد هناك قبول لرأي دون دليل علمي؛ فجرى تعريف الدليل والعلم من جديد ورد الادعاءات المرسلة، واحتكار الآراء الذي ميز المتطرفين دينيًا بالماضي.
لا شك أن هذه المحاولات الحداثية كانت سببًا في عدم صعود المتطرفين دينيًا بعصرهم؛ بل حاصرت وأضعفت المتشددين والأصوليين في جميع الأديان، حتى عُرف العصر الحداثي بالشغف العلمي والنقدي وكثرة رواد الإصلاح الديني والسياسي؛ في مقابل اتهامات حداثية لعصر ما بعد الحداثة بأن التطرف الديني المنتشر حاليًا في العالم، والذي من مظاهره (الصهيونية وداعش والقاعدة والإخوان والدين السياسي) لم يستمد قوته سوى من ثقافة ما بعد الحداثة التي أهملت الشك العقلاني والمادية التاريخية، وصوّب الفلاسفة أسلحتهم ضد الشكوكية بالطعن في دوافعها وميولها إطلاقًا وتعميمًا، دون فحص أو ذكر آثار ذلك في تمكين المتطرفين دينيًا بالطعن في أقوى أعدائهم على الإطلاق، إضافة لاتهامات أخرى خاصة بإعلاء جانب اللغة واعتباره مهيمنًا في فهم النصوص، وهي الطريقة التي ثار عليها الحداثيون باعتبارها ثقافة قروسطية كانت تستبدل الفلسفة والمنطق باللغة والبيان.
ويمكن اعتبار حجية هذا الرأي بالنظر لطبيعة حياة ما بعد الحداثة التي خلقت أكوانًا موازية وطرق عيش موازية للواقع، تمكن المتطرفون دينيًا خلالها من التحريض الديني والحشد للقتل والإرهاب دون عقاب أو رصد، وهو ما نراه الآن في وسائل الإعلام (الإذاعي والتلفزيوني والصحفي والفضائي والإلكتروني) هو نموذج؛ حيث يقوم المتطرف دينيًا بالتحريض على القتل والكراهية عبر وسائل الإعلام، ثم وبعبارات بسيطة يمكنه الهرب من العقاب وتأويل كلامه على نحو مختلف، وقصة هروب الشيخ حسن البنا من المسؤولية الجنائية عن مقتل النقراشي، إضافة لهرب بعض شيوخ السلفية المعاصرين “محمد حسان ومحمد حسين يعقوب” من المسؤولية الجنائية عن صنع جماعة “داعش إمبابة”، لهو نموذج على سهولة الفُكاك وهرب المتطرفين دينيًا من العقاب القانوني في ظل تلك الحياة الموازية التي صارت هي العالم الافتراضي لما بعد الحداثة.
ما بعد الحداثة حركة تصحيحية نقدية لا غير، لم تؤسس في المقابل مذهبًا جديدًا؛ بل عالجت بعض القصور الأدائي والمنهجي الذي ميز الحداثيين بشكل عام
بينما لم يكن هذا مقبولاً في الماضي؛ حيث كان المتطرفون دينيًا يملكون شجاعة المواجهة لما يملكونه من سلطة قانونية واجتماعية من جانب، ولصعوبة الهرب من المسؤولية من جانب آخر؛ فتميزت القرون الوسطى بزعماء التحريض والكراهية الدينية كعلامة للفخر الذاتي والاجتماعي والسياسي، وليس كإدانة أو تهديد مثلما هو عليه الحال الآن.
ولفهم هذه الجزئية أكثر؛ ما عليك سوى أن تتخيل أفلام السينما والكارتون والدراما والفضائيات والسوشيال ميديا، أنها انعكاس لحياة حقيقية، لكنها ليست حقيقية بل تقليدًا لواقع أصلي؛ فما يمكنك فعله بالعالم الواقعي الحقيقي سوف تُحاسَب عليه قانونيًا واجتماعيًا، لكن من خلال هذا العالم الافتراضي التقليدي الجديد يمكنك قول أي شيء مهما كان مؤذيًا؛ سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ثم تفاجأ بأن لديك وسائل عدة للهرب وعدم الوقوع في فخ المسؤولية الجنائية، هذا ما حدث بالضبط مع التطرف الديني الذي بدأ في التحريض والانتشار منذ الأربعينيات، وأخذ صحوته وشدته منذ السبعينيات مستفيدًا من طرق الحياة العصرية التي خلقت هذا التوازي وأكسبته طرقًا عديدة للتحلل من الجرائم، وتلك الوسائل المتعددة للهرب التي من خلال فهم آليات عملها يمكن رصد كيفية انتشار جماعات التطرف الديني منذ هذا التاريخ – منتصف القرن العشرين – الذي يعد الانطلاقة الأولى للتطرف الديني الذي يجتاح العالم منذ عقود.
خلل في المنهج
إن ما يمكن قوله هو أن حركة ما بعد الحداثة هي حركة تصحيحية نقدية لا غير، لم تؤسس في المقابل مذهبًا جديدًا؛ بل عالجت بعض القصور الأدائي والمنهجي الذي ميز الحداثيين بشكل عام، ومن هذا القصور أن الحداثة أعطت للعقل والمادة سلطة عليا وبرهانًا ومعيارًا ، مقابل تسخيف أدوات القرون الوسطى كالخطابة واللغة والبيان، مثلما كتب في ذلك الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” (1724- 1804م) في كتابه “نقد ملكة الحكم” صـ 258 عن ضرورة منع الخطابة والبلاغة في المحاكم بوصفهما “فن الإغواء”. لكن التطبيق العملي طوال 200 عام لم يحل مشكلة الخطابة واللغة بل استفحلت بشدة، وأدت لظهور حركات قومية متطرفة هي التي أشعلت الحروب العالمية، واتصف العصر الحداثي جراء ذلك بانتشار كبير للخطباء والزعماء ورجال الدين الذين يعتمدون على اللغة والبيان في التأثير.
فضلاً عن أن “النسبية الثقافية” التي نادى بها الحداثيون لم تؤد إلى احترام وتعزيز حرية الرأي؛ بل أدت في نماذج كثيرة إلى انبعاث هويات قومية ودينية ووطنية واقتصادية، جرى التعصب لها والتمترس حولها باعتبارها عنوانًا لمجموعات بعينها شعرت بالخطر من غزو هويات ثقافية أخرى، وجوهر الخلل المنهجي هنا بأن علماء ما بعد الحداثة بحثوا في المنهج والإطار الذي يجمع ويوحد الناس كوسيلة لخفض العنف والظلم؛ فالنسبية الثقافية التي جاءت بها الحداثة أدت لغياب الأطر والمرجعيات التي توحد البشر، واكتفى الحداثيون بأن حل تلك المشكلة يكمن في الحرية القانونية والحض الدائم على قبول المختلف دون البحث في كيفية ظهور وعلاج تلك المشكلة على أساس فكري أو اجتماعي.
لقد أدى هذا المنهج إلى فجوة كبيرة بين القول والعمل، حتى في الوقت الذي كان الفلاسفة يكثرون فيه من الحداثة في القول بحق الناس في الرأي والتدين، رأينا مجموعات ضخمة تحترب دينيًا وسياسيًا بناء على هوياتها الثقافية، وهي الحالة التي كان عليها العالم طوال عصر الحداثة من القرون 18، 19، منتصف 20؛ في تكرار لمآسي القرون الوسطى في حدوث تلك النوعية من المعارك.
وفي بحث عملي لحل هذه المشكلات بحثت حركة ما بعد الحداثة عن مؤسسات وأفكار عالمية تجمع الناس من مختلف الجوانب؛ فرأينا عصبة الأمم، وبعدها الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ثم رأينا مجالس حقوق الإنسان والمرأة والطفل وحوار الأديان، واليونسكو ومنظمة الصحة العالمية والبنك الدولي ومنظمة الأغذية (الفاو) ومحكمة العدل الدولية.. إلخ، كل هذه المعالم هي منجزات ما بعد حداثية دافعها الأول جمع الناس وعلاج أخطاء الحداثة وخللها البنيوي في تعزيز الافتراق الوجداني بناء على ترسيخ قاعدة النسبية الثقافية وعدم البحث في تطبيقها من منظور عملي.
ظهرت أيضًا حركات السينما والمسرح والدراما وكؤوس العالم والأولمبياد كوسائل وأنشطة روحية واجتماعية وفنية تجمع الناس وتفيدهم على المستوى العملي؛ فأساس وجوهر تلك الحركات ليست نسبية ثقافية؛ بل بحثًا عن أطر ومرجعيات إنسانية غائبة تقلل من حدة العنف وتعزز من قبول المختلف وتسعى للتفاهم معه وتقريب وجهات النظر، ولقد فطنت حركة ما بعد الحداثة إلى أهمية عدم إنفاق الدولة على ترسيخ وتعزيز هذه النسبية أو التشجيع على الافتراق الثقافي بأي شكل، في مقابل أهمية إنفاق الدولة عن أفكار ورؤى ومعانٍ إنسانية وأخلاقية وأدبية وسياسية تجعل من الشعب صوتًا واحدًا وهوية واحدة، وهو الذي اصطلح عليها لاحقًا باسم (المواطنة) التي أعتبرها أعلى وأكثر قيمة مما أنجزته حركة ما بعد الحداثة في ضرب العنصرية والطائفية والتعصب الثقافي.
ما بعد الحداثة والبحث عن المنهج
لم يكن رفض علماء ما بعد الحداثة للنسبية الثقافية رفضًا لجوهرها أو مضمونها، ولكن لتطبيقها العملي ونتائجها؛ فقد عملوا وفقًا لمنهجية (تفكيكية) على ترسيخ تلك النسبية ولكن ليس في مجال الاعتقاد والرأي؛ بل في مجال (الوظيفة) فأعطوا لكل مجال ونشاط قيمه الخاصة ولوائحه الخاصة، ومن تلك المنهجية خرجت فكرة النقابات المستقلة، بعدما كان للنقابات في السابق نشاط سياسي مثلما رأينا ذلك في تاريخ النقابات العمالية ببريطانيا في أوائل القرن 19، كذلك خرجت مؤسسات الاقتصاد والرياضة والفن والطب والعلم.. إلخ، لتعمل وفق قوانين خاصة ونشاط خاص لا يتدخل في غيره، وهنا محور التطبيق ما بعد الحداثي لجمع الناس على أسس وظيفية فئوية، كبديل للبحث عن جمعهم على أسس اعتقادية، لأنه وفقًا للمواطنة التي أنجزتها حركة ما بعد الحداثة لا عقيدة في الوطن أعلى من الدستور والقانون.
وفي ذلك لمحة فلسفية برجماتية ترى أن الميل الطبيعي للوحدة البشرية يكون للمصلحة وليس للاعتقاد؛ فبعد دراسة التاريخ، تبين أن الناس لا تجتمع وفقًا للاعتقاد، وإذا حدث ذلك فهي تفترق عليه أيضًا، بمعنى أن الذي جمع المسلمين حول مبدأ الخلافة والإمامة هو الذي فرقهم على نفس المبدأ، بعدما فشا التكفير والرمي بالاتهامات والبدع لمجرد تفسير مختلف للخلافة.
إن ما يمكن استخلاصه من رؤى الإصلاحيين والفلاسفة المنتمين لتيار ما بعد الحداثة، هو تفضيلهم العودة إلى الذات الإنسانية لفهمها بعيدًا عن أي مؤثرات؛ فالبشر يتأثرون بعوامل السياسة والدين والمجتمع والصراعات بشكل عام
كذلك بَحَثت فلسفات ما بعد الحداثة عن علاج أخطاء وقصور الفكر الشمولي القديم، والذي لم يتخلص منه الحداثيون؛ فانتشر المنهج التحليلي والتفكيكي الذي يُقسّم الكليات إلى جزئيات منفصلة، وإعادة قراءة النصوص الدينية والأدبية والتاريخية والاجتماعية من جديد وفقًا لآليات علمية وبحوث مادية عصرية؛ فمفهوم “الدين” مثلاً لم يعد واحدًا وفقًا لما بعد الحداثة، هناك الدين من وجهة نظر المذهب الفلاني أو الفرد الفرد، ومن جانب الدولة شيء والاقتصاد شيء والاجتماع شيء.. إلخ، كذلك مفهوم “المجتمع” لم يعد واحدًا؛ بل بحثوا في تقسيمه لعناصر قوى وإيجاد العلاقات بينهم، وهي الطفرة التي أنجزتها حركة ما بعد الحداثة في علم الاجتماع، وفقًا لما كتبه الفيلسوف المصري “أشرف منصور” على صفحته بالفيسبوك.
الإنسان قبل المجتمع
إن ما يمكن استخلاصه من رؤى الإصلاحيين والفلاسفة المنتمين لتيار ما بعد الحداثة، هو تفضيلهم العودة إلى الذات الإنسانية لفهمها بعيدًا عن أي مؤثرات؛ فالبشر يتأثرون بعوامل السياسة والدين والمجتمع والصراعات بشكل عام، وقد تشكل هذه العوامل والصراعات أديانًا وعقائد وأيديولوجيات، هنا تكون الحاجة لفهم الذات الإنسانية مجردة من هذه المؤثرات ضرورة للإحاطة بتلك الذات وتقديمها كأساس لبناء مجتمعي سليم.
بمعنى أن الدائرة الأولى عند فلاسفة ما بعد الحداثة تبدأ من الإنسان؛ فلا يمكن فهم الأسرة سوى بفهم الفرد، ولا يمكن فهم المجتمع سوى بالأسرة والفرد، ولا يمكن فهم الدولة سوى بالمجتمع والأسرة والفرد.. وهكذا، لأن الفكر الشمولي القديم كان يتصف بالتعميم؛ فيصبح الشيخ فلان، أو السياسي فلان ممثلاً لمذهبه أو دينه أو حزبه وجماعته، وسلوك الفرد يتم حمله على المجتمع؛ فيلجأ الناس لفهم الأحداث ليس؛ وفقًا لسلوك الفرد على أنه فرد، ولكن يفهمون هذا الفرد على أنه مجتمع، وبتلك الآفة انتشرت الحروب بكثرة في القرون الوسطى، اعتمادًا على طرح يعاني من (التعميم والاحتكار والمبالغة في الاتهام).
حتى السينما وفنون ما بعد الحداثة، ظل الكثير منها يعاني من تلك الآفة رغم تصدي علماء ما بعد الحداثة لها؛ فتجد بالسينما والفنون دور الفلاح يمثل الفلاحين، ودور المثقف يمثل المثقفين، ودور الشيخ يمثل كل الشيوخ.. وهكذا، كان الإنسان يميل في الماضي إلى التنميط الاجتماعي والسياسي والديني؛ فيحصل على تعريف للآخر بناء على سلوك فرد، لذا فقد انتبهت فلسفات ما بعد الحداثة إلى ضرورة “فهم الذات” بعيدًا عن مؤثراتها الخارجية، واتخاذ النفس الإنسانية موضوعًا علميًا بحياله لا ينبغي التسرع في إنهائه، أو الحصول على نتائج نهائية ومعتقدات شاملة عنه.
فالذي كان يحدث بالماضي وكأنه عند الكتابة أو القراءة عن فئة، نأخذ من الوسيط الحسي (الفرد) على أنه ممثل تلك الفئة، مثلما كان يفعل ابن تيمية الحراني مثلاً عندما كان يقرأ لمرجع شيعي أو فيلسوف أو قس مسيحي؛ فيحمل كل الشيعة والفلاسفة والمسيحيين أوزار وغباء هؤلاء وفقًا لتصوره (والعكس صحيح)، ولم ينتبه الرجل وكافة عناصر ودعاة الفكر القديم أن هذا الاتهام هو مجرد “تنميط وتعميم”، يخفي وراء تلك الصورة للفئة المذمومة صورة أخرى مخفية لأحد الأفراد، تلبس قناعًا فئويًا، ومحصلة ذلك أن هذا الفرد يحكي تجاربه الشخصية وقناعاته الشخصية التي تختلف بشكل جذري وفرعي مع أقرب الناس إليه، لذا فقد درجت على المسرح أنواع جديدة من العروض يتحدث فيها الفنان بشكل ارتجالي عن نفسه وتجاربه ومواقفه الشخصية، وإن ظهرت بشكل ساخر ونقدي أحيانًا، لكنه يتحدث عن تجاربه في محاولة لفهم الذات الإنسانية وتجريدها عن المحيط الاجتماعي.
إن مبدأ الإنسان قبل المجتمع لا يُنكر حق المجتمع أو وجوده، ولكن لأنه لا مجتمع بدون إنسان، ولأن المجتمع الصحي غاية لا يمكن تحقيقها دون تجريد عناصره، لذلك فجميع فلسفات ما بعد الحداثة كانت تجريدية في الأساس، وبعضها تطرف في التجريد وفقًا لاتهامات البعض؛ مثل “البنيوية” التي نادت بضرورة فهم كل شيء – مهما كان صغيرًا وتافهًا – كبنى معرفية مستقلة، وهو ما أدى لاتهامها بالعدمية، وأن ذلك التجريد اللانهائي سوف يُفضي بالنهاية إلى موت الإنسان لا حياته، مثلما يرغب البنيويون أو حركات ما بعد الحداثة بالمجمل.
وبالتأكيد؛ فقد فطن فلاسفة ما بعد الحداثة لهذه الإشكاليات، وسبق عرض حججهم بالدراسات المعروضة أعلى المقال، والتي تتلخص في أن التجريد أو ما أسميه “تكسير الكليات إلى جزئيات” لا يهدف للوصول إلى العدم؛ بل إلى فهم الحياة والكون بشكل دقيق ومختلف عن الذي كان يحدث في الماضي، وأن وراء العدمية أسبابًا ودوافع أخرى نفسية واجتماعية غير التجريد العلمي، وأن الجوهر الإنساني والوحدة البشرية هدفان لحركات ما بعد الحداثة، لكن هذه الوحدة لن تتحقق بالاعتقاد الديني والقومي والأيديولوجي، ولكنها تتحقق وفقًا للمصالح الفئوية والاجتماعية بشكل عملي.
وقد رأينا أوضح نموذج لتلك الوحدة في أوروبا التي ظهر فيها الاتحاد الأوروبي على أساس اقتصادي، بينما تفكك الاتحاد السوفيتي القائم على أساس أيديولوجي، ومن قبله تفككت الخلافة الإسلامية العثمانية والامبراطورية القيصرية الروسية، وهي نماذج للوحدة الدينية الفاشلة على أساس المعتقد، والذي أدركه علماء ما بعد الحداثة، ووصلوا من خلاله إلى نتيجة مفادها أنه لا وحدة سوى على المصالح، ويمكن اعتبار أن تلك الحقيقة التاريخية هي أقوى أدلة فلسفات ما بعد الحداثة، وأن وسائلها المشهورة كالتجريد والتفكيك هي الضامن لفهم الحياة والكون بشكل واقعي عملي، بعيدًا عن لغة العواطف والأمنيات التي كانت وما زالت عقبة في الرؤية العلمية وفقًا لمنظورهم.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.