“بيت الصحافة” المهجور في غزة.. القتل والنزوح مصيرا مؤسسيه وزائريه
تحقيق: ديفيد بيج ومانيشا جانجولي وهدى عثمان
هذا التحقيق جزء من “مشروع غزة”، الذي نظمته “فوربيدن ستوريز” وشاركت فيه أريج مع 50 صحفياً وصحفية يمثلون 13 مؤسسة.
في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، اهتزت غزة على وقع أصوات الانفجارات؛ فاتجه العشرات من الصحفيين صوب مبنى أبيض مكون من طابقين في حي الرمال الراقي، تتخذه منظمة بيت الصحافة -وهي منظمة غير ربحية لتدريب ودعم الصحفيين- مقراً لها.
قبل أقل من 24 ساعة، أجرى أحد مديري المنظمة، حكمت يوسف، اتصالاً هاتفياً بزميل له، طالباً منه الاستعداد للذهاب إلى المكتب معاً. وفي غضون ساعات، أعلن “بيت الصحافة” في غزة عزمه تزويد الصحفيين بسترات واقية من الرصاص، وخوذات زرقاء اللون، عليها كلمة “صحافة”، وبشعار كرتوني صغير لمنزل، تنبثق منه مدخنة على شكل سن القلم، وهو شعار “بيت الصحافة”.
بعدها، كان حاتم الرواغ البالغ من العمر 30 عاماً، يوقع على مستندات خروج السترات الواقية من الرصاص تباعاً، مع التأكد أن متلقي هذه السترات على دراية تامة باستخدامها. يومها، استلم الصحفيون المستقلون نحو 80 سترة من المنظمة. وحوّل يوسف غرفة الاجتماعات الصغيرة إلى ساحة انتظار للصحفيين المستقلين.
حضر هذا النشاط، مؤسس بيت الصحافة، بلال جاد الله؛ وهو رجل نحيف طويل القامة، يستخدم دائماً تعبيرات حادة، لكنّها تضمر حساً فكاهياً خالصاً. حرص جاد الله، طوال عشر سنوات من تأسيس المنظمة، على أن تكون حاضنة للصحافة الفلسطينية.
تخطت المنظمة عدة صراعات سابقة، وتضم حديقتها الخلفية 17 شجرة زيتون؛ غُرست تخليداً لذكرى الصحفيين الذين قتلوا خلال الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2014. هذه المرة، شعر جاد الله أن الأمر سيزداد سوءاً. وعبّر عن ذلك للرواغ، قائلاً: “نحن ننزلق نحو حرب… حرب كبرى”.
تزامن اندلاع الحرب مع وجود وزير الثقافة الفلسطيني (حينها)، عاطف أبو سيف (50 عاماً)، المقيم عادة في الضفة الغربية، في رحلة قصيرة إلى غزة. وعندما شنت حماس هجومها، توجه إلى “بيت الصحافة” بدلاً من الفرار من القطاع، بجواز سفره الدبلوماسي.
شاهد أبو سيف الصحفيين في غزة وهم يستعدون لتغطية الحرب، وكتب: “الشيء الوحيد الذي يمكن أن نتفق عليه، هو أننا ليس لدينا فكرة عن مآلات الوضع”. (رفض أبو سيف إجراء مقابلة صحفية، لكنّه قدم للصحفيين نسخة من مذكراته، وأذن لهم بالاقتباس منها).
وبعد مرور ثمانية أشهر على هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتل نحو 37 ألف فلسطيني في الحرب الإسرائيلية على غزة. وتمنع إسرائيل ومصر وسائل الإعلام الأجنبية من دخول غزة لتغطية الحرب. لذا فإن المراسلين الفلسطينيين، مثل أولئك الذين دربتهم منظمة “بيت الصحافة”، هم الوحيدون الذين يقومون بتغطية الحرب من الميدان. (يستند هذا التحقيق إلى 15 مقابلة مع أعضاء مجلس “بيت الصحافة” الحاليين والسابقين، والموظفين، والمانحين أو الدبلوماسيين، والأرامل وغيرهم من أفراد الأسر الباقين على قيد الحياة) تحقق معدو التحقيق من الصور ومقاطع الفيديو، المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، التي توثق الأحداث؛ معتمدين أيضاً على روايات شهود عيان.
عملت أريج مع صحيفة الغارديان البريطانية على تقصى مصير “بيت الصحافة” في ظل الحرب، في إطار تعاون عابر للحدود بتنسيق اتحاد فوربيدن ستوريز (قصص محظورة)، الذي يتخذ من باريس مقراً له.
وتصف لجنة حماية الصحفيين -وهي مؤسسة خيرية أميركية معنية بحرية الصحافة- الحرب على غزة منذ اندلاعها، بأنها الفترة الأكثر دموية للعاملين في مجال الإعلام، منذ أن بدأت اللجنة بالإحصاء قبل ثلاثة عقود. وحتى حزيران/يونيو 2024، رصدت اللجنة 108 حالات قتل؛ من بينها إسرائيليان قتلا في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
عدد من الصحفيين الذين تجمعوا في اليوم التالي من اندلاع الحرب في “بيت الصحافة”، أصبحوا في عداد القتلى المشمولين في الإحصائية. وبعد أربعة أشهر فقط من تسليم الرواغ 84 سترة واقية من الرصاص، سقط ما لا يقل عن 12 من أصحابها قتيلاً.
قبل تأسيسه “بيت الصحافة”، كان جاد الله موظفاً بالمكتب الإعلامي للسلطة الفلسطينية -الحكومة الفلسطينية التي تشكلت في أعقاب محادثات السلام في التسعينيات، وتديرها حركة فتح ذات الأيديولوجية العلمانية إلى حد كبير. وفي عام 2007، سيطرت حركة حماس الإسلامية على القطاع. في أعقاب ذلك، خسر جاد الله وظيفته، وانخرط في العمل الصحفي، مثله مثل إخوته الثلاثة، الصحفيين في رويترز.
وسرعان ما دب اليأس في نفسه جراء الانقسامات السياسية في غزة. ومثلهم مثل الكثير من الفلسطينيين، بدأ المراسلون يتخندقون في معسكرات منقسمة سياسياً؛ لدرجة أن كلاً من أنصار فتح أو حماس انضموا إلى نقابات مختلفة.
حتى إن جاد الله عبّر عن إحباطه بالحديث إلى صديقه مراسل وكالة أسوشيتد برس، إبراهيم برزق، بالقول: “لم يكن أحد يهتم بالإعلاميين الشباب، ولا بما سيكون عليه مستقبل الصحافة في غزة”.
لم يخالفه برزق الرأي، لكن عندما اقترح جاد الله إنشاء نادٍ للصحفيين، مستقل عن أيّ فصيل سياسي؛ قال برزق حينها إن الفكرة ميؤوس منها. يسترجع برزق تفاصيل ذلك النقاش، قائلاً: “أسديت له نصيحة… فكرتك بعيدة المنال يا بلال”؛ فهذا النوع من الأفكار، وفقاً لمراسل “الأسوشيتد برس” السابق، كالسير في حقل ألغام.
لكن في نهاية الأمر، وافق برزق على السير في “حقل الألغام”. تمكنا، برفقة يوسف، وثلاثة مؤسسين آخرين، من جمع بضعة آلاف من الدولارات من مدخراتهم، لبدء المشروع. ثم شرعوا في تنفيذ مهمة حساسة تتمثل في إقناع الفصائل السياسية المختلفة بدعم إنشاء مؤسسة صحفية غير حزبية.
بعدها عقدوا اجتماعات مع صحفيين ونشطاء حقوق الإنسان ورجال أعمال ودبلوماسيين؛ من أجل النصيحة، واختبار ردود الأفعال، وتدريجياً ربحوهم في صفهم. وقال برزق إن جاد الله دائماً ما كان “شخصاً اجتماعياً للغاية”، ولكن في هذه الفترة كان يتعامل بدهاء كبير؛ مكّنه من التكيف بسهولة مع الأطياف الفلسطينية المختلفة.
وعند افتتاح “بيت الصحافة” في عام 2013، كان جاد الله قد أدار دفة الأمور ببراعة، وسط أمواج السياسة المتلاطمة، حتى إنه استقبل رسائل تهنئة من فتح وحماس معاً.
أصبح “بيت الصحافة” خلية من النشاط، ونظّم برامج تدريبية لإكساب الصحفيين الشباب “حس” إجراء المقابلات السياسية. وكان نبيل شعث، كبير المفاوضين الدوليين السابقين لفلسطين، أول من أجريت معه مقابلة.
وزُرعت أشجار الزيتون في الحديقة الخلفية؛ إحياء لذكرى الصحفيين الذين قتلوا. وتبرع الكاتب الفلسطيني الشهير توفيق أبو شومر بمجموعة من أجهزة الراديو العتيقة، التي جمعها جاد الله في معرض صغير.
متحدثاً عن بيت الصحافة، يقول السكرتير السياسي الأول في مكتب الحكومة النرويجية بالضفة الغربية، وهو يُعدّ أحد المانحين الرئيسيين لبيت الصحافة، روبن يوهانسن: “زيارة بيت الصحافة بند ثابت في برنامج زيارة أيّ دبلوماسي لرام الله أو القدس”. وتُظهر صفحة المنظمة على فيسبوك صوراً لجاد الله مع دبلوماسيين من بريطانيا وألمانيا والدنمارك وغيرها، في مكتبه.
بعد تعيين يوسف رئيساً لتحرير وكالة الأنباء المحلية “سوا”، كان دائماً ما يهرع إلى مكتب جاد الله للحصول على المشورة. يعدد يوسف تفاصيل المشورة التي كان يحرص عليها بالقول: “المستجدات، والأفكار، والتخطيط، وكيفية العمل والتغطيات الصحفية، وما يجب أن ننجزه، وحتى ما يجب انتقاؤه ليكون عنواناً رئيسياً”.
دأب جاد الله على تشجيع الأفكار الجديدة؛ ففي أحد الأيام دخلت عليه بلستيا العقاد -المتدربة البالغة من العمر 21 عاماً- مكتبه، لتشكو له شعورها بالملل الشديد من دورة التحرير، ثم اقترحت عليه أن تشغل منصب مديرة وسائل التواصل الاجتماعي، وهو منصب مستحدث، ناهيك على أن من ستتولاه متدربة. استمع جاد الله لها، كما تقول العقاد، ثم قال نعم، هذا “ما أحببته في بلال… إنه يمنح الناس فرصاً للتقدم”.
التاسع من تشرين الأول/أكتوبر - مقتل ثمانية
قتلت حماس 1139 شخصاً؛ معظمهم من الإسرائيليين في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأسرت أكثر من 200 شخص آخر. أعلنت إسرائيل حالة الحرب؛ وهي تحاول أن تستفيق من وطأة أكبر خطأ أمني ارتُكب في تاريخها.
استدعى الجيش الإسرائيلي مئات الآلاف من قواته الاحتياطية، وبدأت الطائرات الحربية بقصف غزة؛ في محاولة للقضاء على حماس. قتل ثلاثة صحفيين فلسطينيين جراء إطلاق النار قرب المعابر الحدودية، وتوفي آخر مع تسعة من أفراد عائلته عندما ضربت قنبلة منزله.
توافد الصحفيون على “بيت الصحافة”، لأخذ ستراتهم الواقية من الرصاص ذات اللون الأزرق الفاتح؛ من بينهم المصوران الشابان محمد صبح وهشام نواجحة، اللذان احتفظا بسترة ثالثة لزميلهم الصحفي سعيد الطويل. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، ذهب الثلاثة إلى مبنى الغفري، وهو المبنى الأعلى في غزة الذي يوفر نقطة مناسبة للتصوير الليلي. (تعرّف معدو التحقيق على مسار تحركاتهم بعد إجراء محادثات مع 11 مصدراً، بما في ذلك آخرون كانوا يخيمون فوق المبنى)
وبعد منتصف الليل، انتشرت أنباء مفادها أن ضابطاً إسرائيلياً اتصل هاتفياً، طالباً إخلاء برج حجي؛ وهو مبنى مكون من 11 طابقاً، يقع على بعد 400 متر من برج الغفري. تتخذ عدة مؤسسات إعلامية من هذا البرج مقراً لمكاتبها، وهرع الصحفيون العاملون في وكالة الأنباء الفرنسية إلى خارج البرج، عقب التحذير الإسرائيلي.
استيقظ صحفي آخر كان موجوداً في برج الغفري؛ ليكتشف أن الطويل كان قد غادر؛ انضم له لاحقاً صبح ونواجحة لتغطية استهداف برج حجي. نشر الطويل مقطع فيديو عن الضربة الإسرائيلية الوشيكة على صفحته على فيسبوك، فيما أرسل النواجحة إلى زوجته صورة التقطها لنفسه؛ مرتدياً سترته الواقية من الرصاص، وخوذته.
وفي الساعة 2:25 صباحاً، وأثناء انتظار الصحفيين للغارة على برج حجي، سقط فوقهم صاروخ مباشرة تقريباً؛ ما أودى بحياة الطويل على الفور. وقالت أرملة صبح إنها أُخبرت بأن رجال الإنقاذ وجدوا جثمان زوجها، وكان يرفع سبابته، في إشارة إلى إلقائه الشهادة قبل الموت.
قرأت أرملة النواجحة على فيسبوك خبر وفاته، ليعود الأمل إليها مجدداً بعد أن علمت أنه كان فاقداً للوعي فقط. انتشل رجال الإنقاذ النواجحة من تحت الأنقاض، ونقل إلى مستشفى الشفاء القريب، حيث توفي هناك.
وفي وقت لاحق من اليوم نفسه، أعيدت السترات الواقية من الرصاص إلى “بيت الصحافة”، بعد أن تلطخ لونها الأزرق الفاتح، بدماء جافة بنية اللون. وضع الرواغ واحدة منها على مكتب الاستقبال. نشرت بلستيا العقاد مقطع فيديو للسترات على إنستغرام، وقالت فيه: “سواء ارتديتها أم لا؛ فالقتل مصيرك”.
يقول الرواغ: “إنهم يتوافدون ليتأكدوا من مقتل صديقهم، عليهم أن يكونوا حذرين للغاية، فربما يصيبهم الدور”.
11 تشرين الأول/أكتوبر - 11 قتيلاً
أدت غارة جوية إسرائيلية قريبة إلى قطع الإنترنت عن “بيت الصحافة”؛ فأصبح فارغاً من الصحفيين. لم يتبقَّ سوى جاد الله، والرواغ، وأبو سيف، وزميله يوسف، وفطيمة -وهو مصور يعمل بدوام كامل لبيت الصحافة، لدرجة أنه أصبح فعلياً مساعد جاد الله- والموظف حديثاً محمد الجاجة، وهو استشاري التطوير المؤسسي في بيت الصحافة، ويتحدث الإنجليزية.
تصف مذكرات أبو سيف وضع الصحفيين المُتبقيين في “بيت الصحافة”؛ حين غادروا للاطمئنان على أفراد أسرهم القلقين، ثم عودتهم لمناوبة العمل، لمواصلة تغطية “سوا” للحرب. وفي بعض الأحيان، كانوا ينامون على مراتب متراصة بين المكاتب، محاطة بجدران من أسلاك الكمبيوتر.
قُتل المزيد والمزيد من الصحفيين، الذين تمّ قصفهم في منازلهم أو في الميدان. بدأ الجيش الإسرائيلي بإصدار أوامر شاملة للمدنيين بالتحرك جنوباً أو المخاطرة بتصنيفهم “إرهابيين”. نزح العديد جنوباً، بعيداً عن شمال غزة.
ذهب الرواغ مع النازحين جنوباً، كما فعل يوسف، رئيس تحرير سوا، الذي كان يخشى الإصابة ونقله إلى مستشفيات غزة؛ لكنّ جاد الله اختار البقاء، قائلاً للرواغ: “يجب أن يبقى بيت الصحافة مفتوحاً أمام أيّ صحفي في حاجة إليه”.
6 تشرين الثاني - 39 قتيلاً
بعد مرور شهر تقريباً على الحرب، ضربت غارة منزل مدير المنح، الجاجة وعائلته؛ أدت إلى مقتله بجانب زوجته وابنتيه. ويُظهر فيديو منشور على فيسبوك آثار تدمير المنزل، وتحوّل الدرج الموجود في الردهة إلى منحدر تناثرت عليه قطع خرسانية. (جاء في رد الجيش الإسرائيلي أنه لا يملك معلومات عن تنفيذ غارة جوية في ذلك الموقع)
وبعد انتشال أهل البيت من تحت الأنقاض، وضع رجال الإنقاذ جثة الجاجة مغطاة على الأرض. ويُظهر مقطع فيديو منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، جثمان الجاجة مسجى بجانب جثث بناته الصغيرات، وفوقه سترة بيت الصحافة الواقية من الرصاص، وبطاقة الهوية الصحفية.
صادف يوم وفاته اليوم الذي كان مخططاً له أن يلقي فيه محاضرة في مقر المجلس الأوروبي في ستراسبورغ، عن أهمية الصحافة المستقلة. وفي المحاضرة ذاتها، وبصوت بدا مبحوحاً، أعلن أحد المنظمين مصدوماً مقتل الجاجة أمام الحاضرين.
ورغم حالة الذهول، بدا جاد الله صامداً. وقال لبرزق: “سأواصل تأدية عملنا النبيل، كما اعتدت أن أفعل”. ونشر فطيمة على فيسبوك صورة لآخر رسالة أرسلها له الجاجة عبر واتساب، يسأله فيها عن أقرب بائع للخبز.
وبعد أسبوع لقى فطيمة هو الآخر حتفه؛ فعندما كان هو وزوجته مستلقين على السرير، ضرب انفجار سطح المبنى الذي يسكنان فيه، أصابت شظية -ربما ناتجة من تهشم أحد الألواح الشمسية الموجودة على السطح- وجه ابنهما، البالغ من العمر ستة أعوام. حمله فطيمة إلى الخارج متوجهاً به إلى المستشفى؛ قبل أن تصيبهما ضربة أخرى في منتصف الطريق؛ نجا الابن بأعجوبة، لكنّ شظية مزقت ساقه، وفق رواية أرملة فطيمة للصحفيين.
في هذا الوقت، كان الرواغ يكرر على مسامع جاد الله المطالب نفسها: “يا أستاذ بلال، عليك أن تذهب إلى الجنوب، عليك أن تأتي إلى هنا، الجميع يحتاج إليك، عليك أن تكون هنا معنا”. كل من كان تربطه بجاد الله صلة في هذا الوقت، أجمعوا على أنه كان يعارض الإخلاء؛ كان يشعر أن مغادرة “بيت الصحافة” بمثابة التخلي عن صحفيي فلسطين.
“لكنّ جاد الله بدأ يستشعر قرب موته”، وفق ثلاثة أشخاص كانوا يتحدثون معه. أفصح ذات يوم لأبي سيف بهذه الهواجس: “لا أشعر أنني سأنجو من هذه الحرب”. سلّم المدير المالي السابق لـ “بيت الصحافة” محمد سالم مفاتيح المنظمة، وأوصاه بفعل شيئين حال مقتله: دفن جثته، والاعتناء بـ “بيت الصحافة”.
19 تشرين الثاني/ نوفمبر - 51 قتيلاً
وفي منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2023، حث الجيش الإسرائيلي المدنيين على مغادرة مدينة غزة، عبر طريق آمن محدد، أظهرته خريطة منشورة على فيسبوك؛ بدا فيها طريق سريع رئيسي مظلل بالأصفر، ثم إعلان عن “تعليق تكتيكي مؤقت للأنشطة العسكرية” لمدة ست ساعات، في منتصف ذلك اليوم.
وبعد يومين، اتصل جاد الله بشقيقته وأخبرها أنه قرر المغادرة. لقد رتب مع صهره، عبد الكريم، أن يوصله جنوباً بسيارته “الكيا” الرمادية.
أولاً، سيتجهان شرقاً حتى يصلا إلى شارع صلاح الدين؛ وهو الطريق الرئيسي الواصل إلى الجنوب خارج مدينة غزة، الذي حدده الجيش الإسرائيلي طريقاً آمناً. بعدها، سيقودان السيارة مسافة خمسة كيلومترات حتى يصلوا إلى دوار الكويت، ولم يكن يُسمح للسيارات بالمضي أبعد من ذلك، فكان من المفترض على جاد الله أن يسير راجلاً جنوباً مسافة خمسة كيلومترات أخرى، سيقوده الطريق إلى نقطة تفتيش الوادي، وهي المحطة الأخيرة في الطريق إلى مخيمات اللاجئين، حيث تنتظره عائلته.
إلا أنهما توقفا عند شارع صلاح الدين. ما حدث على وجه التحديد، أمر غير واضح تماماً، ويبدو أنه سيظل خفياً. وفق شاهد عيان، انطلقت قذيفة دبابة من الشرق، وسقطت على بعد أمتار قليلة من سيارة كيا.
(سمع شاهد العيان القذيفة، ولكنه لم يرها، غير أنه جزم بالتعرف على الصوت، مشدداً على أنه لم يكن هناك أيّ إطلاق نار في موقع الحادث، ويبدو أن صور سيارة كيا تدعم شهادته؛ فقد قال فني أسلحة سابق في الجيش الأميركي، أن تناثر الثقوب في هيكل السيارة، يماثل الشظايا الناتجة عن انفجار قذيفة دبابة إسرائيلية)
توقفت السيارة بالقرب من المسجد، هرع شاهد العيان وفتح باب السيارة؛ كان جاد الله ما زال يتنفس، على الرغم من وجود الشظايا في مؤخرة رأسه، وفق شاهد العيان، الذي سحب جاد الله خارج السيارة، ونقله إلى “توكتوك”، ملتمساً المساعدة بالتوجه إلى أقرب مستشفى، وهو مستشفى الزيتون، لكنّه كان مغلقاً. بعدها توجه إلى المستشفى المعمداني القريب، ولسوء الحظ لم يكن به إلا طبيب وحيد يعالج 20 مصاباً. اقترح أحد المارة اللجوء إلى عيادة الصحابة، التي كانت لا تزال تستقبل المرضى، لكن بعد وصلوهما بوقت قصير، لفظ جاد الله أنفاسه الأخيرة.
وحتى بعد مرور سبعة أشهر على وفاته، ما زال معظم من عرفوا جاد الله يصفون موته بالأمر العصي على التصديق. “لقد ركضت كالمجنون، وأنا أسأل أين هو؟”، هكذا وصف سالم حاله عندما تلقى نبأ الوفاة، مضيفاً: “كان علي أن أعرف مكانه تنفيذاً لوصيته بدفن الجثمان”. لم يصدق الرواغ هو الآخر نبأ الوفاة؛ اعتقد أن أحد أصدقائه كان يمزح، وعندما أدرك صحة الخبر، انهار في الحال.
ويصف آخرون الحزن الذي خيم جراء فقدانهم معلماً أو صديقاً، من بينهم يوسف الذي قال: “زوجتي هي أكثر من يعرف إلى أي مدى كسرني فقدانه، وكم عانيت جراء هذا”.
كتب أبو سيف: “هرعت وأنا أصعد الدرج، واختليت بنفسي وبكيت؛ كيف يجرؤ الموت على أخذ مثل هذا الرجل! كيف يجرؤ مثل هذا العمل الخسيس، مثل الحرب، على أخذ مثل هذا الرجل الكريم!”.
لطالما كانت العقاد تقتنص الفرص لإظهار إنجازاتها لجاد الله: “انظر كم عدد المتابعين لدي! شاهد هذا العمل الذي أديته! لأنه كان معي في رحلة الصحافة منذ البداية”.
علم يوهانسن بمقتل جاد الله من الأخبار المُنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي. وتحدث عن مقتل جاد الله قائلاً: “خسارة فادحة، خسارة شخصية لمكتب التمثيل النرويجي، ولكنها خسارة أيضاً لا تصدق لفلسطين”.
20 تشرين الثاني/ نوفمبر - 52 قتيلاً
بعد مقتل جاد الله، استمرت آلة الحرب في التهام “بيت الصحافة” وصحفييه الذين كانوا جزءاً منه؛ ففي الأول من كانون الأول/ديسمبر 2023، قتل مصور وكالة الأناضول التركية منتصر الصواف، البالغ من العمر 33 عاماً، وشقيقه مروان، إثر غارة جوية إسرائيلية
وفي 28 كانون الأول/ديسمبر 2023، تعرض منزل أحمد خير الدين للقصف. وقُتل المصور محمد ياغي، البالغ من العمر 29 عاماً، برفقة 36 فرداً من أقاربه، في غارة جوية شُنت على حي الزوايدة في 23 شباط/فبراير 2024.
عاد أبو سيف إلى منزله في الضفة الغربية، بينما غادرت العقاد غزة وتعيش الآن في ملبورن باستراليا، حيث تستمر في النشر الإلكتروني. فيما ترسخت قناعة لدى الرواغ بأن الجيش الإسرائيلي يتعمد استهداف “بيت الصحافة”؛ وعليه يرفض الاحتماء بعائلته، وينام اليوم في خيمة خارج مستشفى الأقصى.
اتجه مدير المكتب سالم إلى مستشفى الصحابة، حيث أكدوا له أن جثمان جاد الله قد سُلّم، ودفن في مقابر مستوصف الشيخ رضوان. بعدها، انتقل مع زوجته وأولاده إلى “بيت الصحافة” المهجور؛ فوجد أن الانفجارات القريبة من “بيت الصحافة”، قد أدت إلى انهيار أسقفه، وتناثر أجهزة الكمبيوتر المحمولة والكاميرات في كل مكان. كما اكتسى المكان بطبقات من الغبار.
قال سالم إنه بنهاية كانون الثاني/يناير 2024، بدأت الدبابات والجنود المتمركزون في حي الرمال بإطلاق الرصاص والقذائف على المبنى، “مئة في المئة كانوا يستهدفون بيت الصحافة”.
لمدة ثلاثة أيام، سكن سالم وعائلته غرفة في الجانب الخلفي من مبنى “بيت الصحافة”. (تظهر صور الأقمار الصناعية مسار الدبابات على الطرق المجاورة للمبنى. ويمكن رؤية ثلاثة تجمعات للدبابات المدرعة الإسرائيلية، على بعد 500 متر من “بيت الصحافة”. لكن لا يمكن استقاء أيّ معلومات تفصيلية، من خلال هذه الصور، عن العمليات التي تقوم بها الآليات العسكرية المتمركزة هناك.)
وفي صباح اليوم الرابع، لم يرَ سالم أيّ أثر الدبابات، يضيف سالم قائلاً: “كان الوضع هادئاً، لم يكن هناك إطلاق نار، أو أيّ شيء على الإطلاق، عندها حزمنا حقائبنا، وأغلقت الأبواب، ثمّ رحلنا”.
10 شباط/فبراير - 91 قتيلاً
بعد مرور أكثر من أسبوع على فراره وعائلته من “بيت الصحافة”، وفي السادسة من صباح يوم ما، استقل سالم دراجة وعاد إلى مقر “بيت الصحافة”؛ لكنّه وجد المبنى مُهدَّماً بالكامل، لم تتبقَّ منه سوى كومة من الأنقاض. ومن بين شقوق الحطام المتناثر، انبثقت شجرة بلا أوراق. أخرج سالم هاتفه وشرع في التصوير صامتاً، تسلق فوق الحطام، محاولاً إدراك حجم الدمار الذي حدث. لم يجد سالم أيّاً من الكاميرات أو أجهزة الكمبيوتر المحمولة أو الأجهزة اللوحية بين الحطام؛ مثلها مثل أشجار الزيتون، وأجهزة الراديو القديمة، وكل ما يمكن أن يجسد رؤية جاد الله. الكل أصبح تحت الأنقاض مدفوناً.
أُنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف من أريج – إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية.