منذ نشأة الدراما التلفزيونية الكويتية، واجهت العديد من الأعمال الفنية قيودًا ورقابة صارمة، تراوحت بين المنع التام والتعديلات الجوهرية على متنها، بسبب تناولها قضايا اجتماعية حساسة، لامست واقع المجتمع الكويتي بكل تناقضاته، مما أثار موجة من الجدل والنقاش في كل مرة يمتد فيها مقص الرقيب الكويتي، حول حرية التعبير في البلاد وحدود الرقابة. وفي هذه القصة الصحفية نتتبع مسار الرقابة على الدراما الكويتية؛ في محاولة لتحليل الأسباب الكامنة وراء ذلك.
هل تُحافظ الرقابة الفنية على القيم والمبادئ؟ أم تعكس مخاوف وتجاذبات سياسية واجتماعية؟
سياسة المنع
خلال السنوات العشر الماضية، ظهرت العديد من الأعمال الدرامية الكويتية السينمائية والتلفزيونية، والتي نالت إعجاب العديد من الجمهور بناء على ما تقدمه من محتوى مغاير عما يتم عرضه من قضايا تبدو مُهمشة للقضايا الاجتماعية الأكثر حساسية داخل المجتمع، ومع نيلها هذا الإعجاب، كان هناك حملات مطالبة بالمنع والحظر، ودعوات إلى اعتقال صناع العمل وأبطاله، بالإضافة إلى تهديدات عديدة خارجة من كل صوب وحد.
لم يستثن من هذا الأبطال الأكثر شهرة، ومُنع تصوير مسلسل سعاد العبدالله، ساق البامبو (2016)، ليلجأ الصناع إلى تصويره في دبي والفلبين، بعد أن هوجم بشدة لاتجاهه إلى قضية حساسة؛ قضية “البدون”.
وفي 2020 منع مسلسل “أم هارون” للفنانة حياة الفهد، بقرار رسمي من أمير الكويت شخصيًا، قيل حينها إن المنع لأسباب أمنية، وكان ذلك لما اعتبره البعض من الجمهور تطبيعًا مع الكيان الصهيوني، بالإضافة إلى ما تم الحديث عنه من مغالطات تاريخية، وذلك بعد ذكر ما كانت تعانيه الجالية اليهودية في دول الخليج؛ في أربعينات القرن الماضي.
وإن كان ما سبق تم لأسباب تعللت الدولة بأمنيتها؛ فهناك ما تم منعه لأسباب اجتماعية أو التلويح لحملات المنع؛ ففي عام (2022) تم التهديد بحملات الغضب تجاه مسلسل “من شارع الهرم”، وتم اتهامه بالإساءة للمجتمع الكويتي، بسبب الحديث عن العلاقات الزوجية داخل الدولة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل وصل إلى وصف الأعمال بأنها مسلسلات تحض على الفسق والفجور، بالإضافة إلى رفض الجمهور حينها ما اعتبروه مشاهد تحث على بحث المرأة عن حقوقها.
ومؤخرًا مسلسل “زوجة واحدة لا تكفي”، تم التلويح به وتهديد أبطاله، وذلك لاتهامه ببث الفجور ونشر معلومات تسيء للمجتمع بشكل فج، وهو ما تم الحديث عنه بعد أن قام العمل بعرض حالات الحمل دون زواج، وبعض العلاقات غير الطبيعية بين الأشقاء والمثلية الجنسية.
ولم تكن هذه الأعمال فقط هي ما تم أو لُوح بمنعه داخل الكويت، ولكن هناك الكثير؛ مثل الجوخ، رحى الأيام، عين الهامور، ليت ذاك الزمان يعود، الكلكجي، سقط سهوًا، جنتي وناري، خذني الوله. بالإضافة إلى محاولات المنع لبعض الأعمال من المنصات الإلكترونية. ولكن الرقابة حاولت السيطرة على الأوضاع وعرضت مسلسل “الدولة العميقة”، الذي ناقش الفساد الحكومي، ومنعته بعض الدول العربية، والتي كان منها المملكة العربية السعودية ومصر، بعد الاتفاق مع منصة نتفيلكس،
و هذا ما فعلته أيضًا وزارة الإعلام مع مسلسل، الجابرية الرحلة 422، والذي تحدث عن أطول رحلة خطف حدثت في الكويت، وهو ما طالبت الرقابة من منصة شاهد حذفه بشكل سريع، وتم الامتثال للرقابة الكويتية حفاظًا على العلاقة بين البلدين .
الهروب من الرقيب
في ظل التضييق والمنع الذي تمر به البيروقراطية الرقابية في دولة الكويت، وجد العديد من المنتجين ملجأ للهروب من مقص الرقيب؛ سواء على النصوص أو على الأعمال بعد الانتهاء من تصويرها، وتم هذا عن طريق الهرب إلى كل من الإمارات وتركيا للتصوير هناك، ومن بعدها يتم العرض؛ إما عن طريق منصات إلكترونية لا تخضع للرقابة بشكل كلي، أو قنوات تسمح لعرض العمل دون ضغوط رقابية، وهو ما حدث مع مسلسل”حياة ثانية”، ومسلسل “عقرب الرمل” وغيرها من الأعمال التي تم تعطيل إجازة نصها للتصوير، لينتقل فريق العمل الخاص بها إلى دولة الإمارات بحثًا عن الحرية في التصوير وفي الخروج من بوتقة الرقيب الكويتي.
ومع حالات المنع المتعددة للأعمال الدرامية لأسباب مختلفة، نجد أن الرقابة على الأعمال تأتي بتسلسل إداري من ناحية، وجماهيري من ناحية أخرى، وفي الحالتين يمكن أن نجد العمل في طي التهميش والنسيان في أسرع وقت، هذا ما أكدته الناقدة الفنية الكويتية ليلى أحمد، لـمواطن.
والتي أضافت أنه طبقًا للتسلسل الحكومي؛ فهناك رقابة على النص في بدايته وبعد التصوير، ومع منع الدولة لتصوير بعض الأعمال داخل أراضيها، يدفع هذا الصناع للتصوير خارج أراضي الدولة والعرض بعيدًا عن السلطات، ولكن هذا لا يمنع الرقابة الجماهيرية على العمل، والتي تأتي بصورة حملات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما رأينا في مسلسل “زوجة واحدة لا تكفي” مؤخرًا وسبقها حملات للمقاطعة بأعمال على منصتي شاهد ونتفيلكس، مثل”محامية الشيطان” و” الدولة العميقة”.
ومنعت الرقابة أن تظهر أدوار المرأة الكويتية كعاملة في مطعم أو أي من المهن التي لا تليق بالمرأة الكويتية حد رؤيتها. ويفسر هذا حالة الغضب التي ثارت ضد الأعمال التليفزيونية مثل "من شارع الهرم" وما شابهها، وهو ما يجبر صناع الأعمال على إظهار حياة النساء الكويتيات، وكأنهن جميعًا أثرياء ولا يوجد لديهن أي نوع من أنواع المشاكل.
وأوضحت أن رفض الكويت لعرض الأعمال الشائكة على قنواتها، يجعل المسلسلات مسعى للكثير من الدول والقنوات مثل دبي وmbc، وغيرها من القنوات الخليجية التي تحقق من خلالها تلك الأعمال نسب مشاهدات عالية، وبالتالي لا يؤثر المنع على كثير من هذه الأعمال من الناحية الجماهيرية في ظل الفضاء المفتوح.
وبحسب وزارة الإعلام وهي المسؤولة عن الرقابة على الأعمال الفنية في دولة الكويت، أن الرقابة تتم بأكثر من مرحلة وهي قبل التصوير وبعده، وتأتي المرحلة الأولى، بالرقابة على النص وخلوه من المحظورات التي نص عليها القانون رقم 3 لسنة 2006 بشأن المطبوعات والنشر، والقانون رقم 61 لسنة 2007 بشأن الإعلام المرئي والمسموع، وقوانين أخرى منها القانون رقم 21 لسنة 2015 بشأن حقوق الطفل، وآلية تلك الرقابة منظمة بالقرار الوزاري رقم 18 لسنة 2015 بشأن تنظيم إجازة إنتاج، وعرض المصنفات المرئية والمسموعة لمنشآت الإنتاج الفني، وتتم الإجازة أو المنع على ضوء ذلك، وهو ما أكدته الدراسة التي قامت بها ميدل إيست أي، عن حالة التضييق التي يعانيها الوسط الفني الكويتي داخل أراضيه.
المرأة والدين في ملف الرقيب
تعتبر المرأة والدين من المحاذير التي لا يمكن المساس بها في الأعمال الكويتية من قريب أو من بعيد؛ فهي مناطق محظورة رقابيًا بشكل حكومي وبيروقراطي و أيضًا جماهيري، واتضح هذا بشدة في فيلم “الماي”، الذي حصد العديد من الجوائز خارج الكويت، والذي دار حول قصة الحرب التي نشبت على المياه في الكويت منذ نحو 100 عام قبل اكتشاف البترول.
وتدخلت الرقابة في اجتزاء مشاهد هامة منه، كانت بها امرأة تقوم بالتهكم على المصلين معبرة عن غضبها مما يعانيه الشعب، كما طلبت تخفيف حدة المشهد. وبعيدًا عن ذلك فالمرأة من النقاط التي تعد ممنوعة اللمس داخل السينما أو التليفزيون الكويتي؛ فلا يمكن أن تظهر المرأة بمظهر أقل من كونها سيدة مجتمع أو امرأة ثرية، وهو ما يعد عنصرية واضحة وصريحة لما دون الجنسية الكويتية، باعتبار أن سائر السيدات من الجنسيات الأخرى ما هنّ إلا عاملات في خدمة البلاط الكويتي وسيداته، وهو بالفعل ما تقوم الأعمال الدرامية الكويتية بالتعبير عنه ونشره بشكل واضح وصريح من خلال مشاهدها، والتي لا يمكن أن ترى بها امرأة كويتية تزاول مهنة سوى كونها سيدة مجتمع، أما سائر المهن فهي لأصحاب جنسيات أخرى دون الجنسية الخليجية بشكل عام؛ فإما مصريات أو سوريات أو فلبينيات وهنود.
ومنعت الرقابة أن تظهر أدوار المرأة الكويتية كعاملة في مطعم أو أي من المهن التي لا تليق بالمرأة الكويتية.. حد رؤيتها. ويفسر هذا حالة الغضب التي ثارت ضد الأعمال التليفزيونية؛ مثل “من شارع الهرم” وما شابهها، وهو ما يجبر صناع الأعمال على إظهار حياة النساء الكويتيات، وكأنهن جميعًا ثريات ولا يوجد لديهن أي نوع من أنواع المشاكل وإلا الدخول في مشاكل رقابية.
المنع بقوة الجمهور
أما الناقد الفني بشار الجاسم؛ فيرى أن الحراك المجتمعي ضد الأعمال الفنية التي تتحدث عن خبايا المجتمع هو نتاج القبلية والأفكار المتعنتة التي يعيشها المجتمع الكويتي، والتي يخشى من خلالها الكشف عن المستور في أي وقت.
وأضاف لـمواطن، أن الأعمال الدرامية التي تناقش قضايا مسكوتًا عنها في المجتمع الكويتي لم تكن جديدة؛ بل كان يوجد مثلها في التسعينيات، وكان الجمهور يتقبلها بصورة طبيعية، أما مع وجود السوشيال ميديا حاليًا فالأمر أصبح أقوى في عمليات المنع، ويأتي ذلك بسبب الرقابة المجتمعية التي أصبحت أكبر من الرقيب ذاته وأقوى منه؛ بل ويحاول إيجاد مبررات للمجتمع بأنه كرقيب غير راضٍ عن هذه الأعمال حين الاعتراض عنها، وهو ما وجدناه مؤخرًا في مسلسل “زوجة واحدة لا تكفي” لا على سبيل الحصر.
بين سندان الرقابة ومطرقة المجتمع؛ يقف مستقبل الدراما الكويتية على المحك؛ في ظل تحديات جمة، مع التضييق الرقابي المتزايد والضغوطات المجتمعية؛ فبينما تحاول الرقابة الرسمية فرض قيودها على المحتوى، يُطلق المجتمع حملاتٍ لمقاطعة الأعمال التي تُلامس قضايا حساسة أو تُخالف المألوف اجتماعيًا. ويُؤدّي هذا الصراع إلى خنق الإبداع، وتقليص مساحة التعبير الحر، مما يُعيق تقدم الدراما الكويتية، ويحرمها من إمكانية معالجة القضايا الواقعية بجرأة وموضوعية.