في اللقاء الذي جمع المستشار الألماني كونراد أديناور بديفيد بن غوريون سنة 1960، قال الأول للأخير: “يتوجب علينا دعم دولة إسرائيل بوصفها حصنًا غربيًّا Westliche Bastion في الشرق الأوسط”. رؤية أديناور المبكّرة لإسرائيل على هذا النحو، تتوافق مع تخيّل هيرتزل للدولة اليهودية بحسبانها “قاعدة Outpost غربيّة في الشرق الأوسط”. وبعد الحرب الأخيرة في أكتوبر 2023، بدا الحصن الغربي أكثر وضوحًا من ذي قبل، إلى حد أن اتحاد الكنائس البروتستانتية في ألمانيا قرّر إعادة النظر في علاقته بالكنائس البروتستانتية في كل من الأردن وفلسطين، بسبب ما يصدر عنها من “تعليقات مستفزة” حول الصراع.
حين انتهت ألمانيا من عملية اجتثاث النازية Denazification، في العام 1952، نظرت إلى الدولة الوليدة، الفقيرة، والهشّة في الشرق الأوسط، وقرّرت مدّها بالمال والمعدّات الثقيلة. كانت ألمانيا المنهكة اقتصاديًّا مثقلة أيضًا بالسمعة السيئة، وكان “أديناور” يسعى إلى استعادة مكان بلاده في البهو الغربي، وكان غسيل السمعة أمرًا بالغ الأهمية في سبيل استعادة المكانة الدولية. في العام نفسه، 1952، وقعت ألمانيا وإسرائيل على برنامج تعويضات بلغ زهاء ثلاثة مليارات ونصف المليار مارك، وعرفت معدّات المصانع الألمانية طريقها إلى إسرائيل، وكذلك السفن اللازمة للشحن والتجارة الدولية. قبل انتهاء حقبة الخمسينات كانت إسرائيل قد صارت إلى دولة قادرة على التصنيع والتصدير.
أسهمت ألمانيا في بناء الدولة الإسرائيلية على الصعد كلها منذ العام 1952 وحتى العام 1967، ومثّلت حرب الأيام الستة، التي أسهمت فيها ألمانيا بفاعلية كبيرة، نهاية الحقبة الأولى من العلاقات الألمانية- الإسرائيلية، وهي حقبة بناء الدولة اليهودية، كما يذهب دانيال مارفيكي في كتابه “ألمانيا- إسرائيل، غسيل السمعة وبناء الدولة”، الصادر في العام 2020. تراجعت ألمانيا إلى الوراء خطوة مفسحة الطريق للولايات المتحدة الأميركية لتصبح الأخيرة الحارس الأوّل لإسرائيل، وستنفق على بنائها رسميًّا، حتى 314 مليار دولار حتى الآن، بحسب مؤسسة PolitiFact. لا يشمل هذا الرقم المساعدات العسكرية، ولا الدعم الأميركي غير الرسمي، وهو دعم لا حد لسخائه؛ إذ تمثّل إسرائيل “كعبة” الصهيونية الأميركية بجناحيها اليهودي والمسيحي؛ فقد قال حوالي 58% من المسيحيين الأميركان لبيو سنتر، المتخصص في قياس الرأي، إنهم يعتقدون أن عودة المسيح ستحدث قبل العام 2040، العودة الثانية للمسيح، العقيدة التي دمجت اليهودية بالمسيحية، تشكّل العمود الفقري للخيال الديني الأميركي. تتطلب تلك العودة مكانًا آمنًا لليهود بالقرب من المعبد القديم، وإن المساس بإسرائيل يماثل وضع الحواجز في طريق المسيح؛ بل قطع طريقه، وتلك مسألة جعلت “ريغان” نفسه يفكّر بضغط “الزر النووي” للتعجيل بعودة المسيح، كما أسرّ يومًا إلى مستشاريه.
كيف تصبح دولة حديثة، بلا حدود ولا تاريخ، سببًا في وجود دولة بحجم وتاريخ ألمانيا؟
كان أديناور الشخصية السياسية الأهم في ألمانيا بعد الحرب الثانية، من خلال تأسيسه للاتحاد المسيحي الديموقراطي -الحزب الذي صُمّم ليكون معقلًا للكاثوليك والبروتستانت معًا- غيّر أديناور شكل السياسة الألمانية وطبيعة الدولة على نحو جذري. بالمقدور الإشارة إليه بوصفه الأب المؤسس لألمانيا الحديثة. لا يوجد في رؤية أديناور للعلاقة الألمانية- الإسرائيلية عنصر أخلاقي واحد، ولا حتى ديني، كما يجادل مارفيكي في كتابه الأحدث “الغفران، إسرائيل والمصلحة الألمانية العليا”. اختار دانيال مارفيكي حقبة مهمة في تاريخ ألمانيا الحديثة، ألمانيا أديناور، لتقصي حقيقة الدعاوى الأخلاقية التي توجب على ألمانيا إسناد الدولة اليهودية.
كان أديناور معنيًّا بإعادة دمج بلاده داخل النظام العالمي، الغربي على جهة التحديد. في حديث للتلفزيون الألماني، 1966، قال أديناور إن بلاده دفعت الأموال لإسرائيل لسببين: لتستعيد سمعتها الدولية، ولأن القوة التي يتمتع بها اليهود لا ينبغي الاستهانة بها”. لا مكان للدوافع الأخلاقية في رؤية أديناور لعلاقة بلاده بإسرائيل، توجب عليه أن يشرح لمواطنيه معنى أن ترسل حكومته المنهكة أموالًا إلى دولة أخرى لا يربطها بها شيء.
كرجل ولد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وخبر حربين عالميتين؛ فقد تحدث إلى شعبه بلغة عقلانية لا مكان فيها للفانتازيا والأوهام. الإشارة السلبية إلى قوة اليهود، على الطريقة التي تحدث بها أديناور، تعدّ اليوم أحد أشكال معاداة السامية وفقًا للتعريف الذي صاغه “الاتحاد الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست” سنة 2004، واعتمد ألمانيًا في العام 2016. لاحظ مارفيكي في كتابه أن السفير الأول الذي اختاره أديناور ليكون ممثلًا لبلاده في إسرائيل كان جنرالًا معروفًا بمعاداته للسامية، وليس ذلك بلا معنى.
(بروز ألمانيا ما بعد أديناور) 1967 كعملاق صناعي جعلها في أمسّ الحاجة إلى الطاقة التي يوفرها الشرق الأوسط، العربي- الإسلامي. منذ خمسينات القرن الماضي كانت ألمانيا قد بدأت خطوات الخروج من عصر الفحم، واستطاعت ألمانيا الغربية إجراء موازنة حرجة في الموقف من مسألة الشرق الأوسط، بدلًا من الالتزام الأخلاقي الذي لم يرد قط في خطاب ساسة ألمانيا ما بعد الحرب، كانت هناك السياسة العقلانية. لم تكن ألمانيا الشرقية الشيوعية شديدة الحماس للمشروع الإسرائيلي؛ فإسرائيل هي في نهاية المطاف “بؤرة استيطانية غربية” كما رآها خروشوف، خليفة ستالين في مذكراته. الاختيارات غير الصحيحة في المسألة الفلسطينية كان من شأنها أن تكلف ألمانيا الغربية ثمنًا باهظًا، على وجه الخصوص في ظل التنافس الخطر مع شقيقتها الشيوعية على المصالح والنفوذ؛ فضلًا عن احتياجها المتزايد للطاقة. كان يكفي أن تقدم المال والآلة الثقيلة إلى الدولة الإسرائيلية حتى تتطهر من ماضيها، دون الحاجة إلى الذهاب أبعد من ذلك، كما تفعل برلين المعاصرة.
أواخر حقبة التسعينات، استخدم وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشير، عن حزب الخضر، تعبيرًا غامضًا في الإشارة إلى العلاقات الألمانية-الإسرائيلية: ” Staatsräson”، وهو تعبير فلسفي معقد فارغ من المعنى، يقصد به المصلحة العليا للدولة، أو سبب وجودها، وبقي التعبير غامضًا وطرفيًّا إلى أن أحيته ميركل في خطابها أمام الكنيست 2008.
تدير الدول علاقاتها على أساس عقلاني، وتتأسس الروابط على منظومة معقدة من المصالح والتبادلات، لا يوجد في النظام السياسي الدولي وضع تمثّل فيه دولة سببًا في وجود دولة أخرى. قفز أولاف شولتز، المستشار الراهن، بتعبير “سبب وجود الدولة” إلى الواجهة، حين استخدمه في خطابه الشهير في اليوم التالي لانطلاق طوفان الأقصى. كسب المصطلح منذ ذلك الحين فضاء واسعًا، وجرى استخدامه من قبل قادة الطيف السياسي الألماني ربما دون استثناء. كيف يمكن لدولة أن تكون سببًا في وجود دولة أخرى؟ وعلى نحو أكثر غرابة؛ كيف تصبح دولة حديثة، بلا حدود ولا تاريخ، سببًا في وجود دولة بحجم وتاريخ ألمانيا؟ الإجابة التي قدمها الكاتب والسياسي البرتغالي برونو ماكياس، في مقالة له بمجلة التايم في يناير الماضي، تلقي الكثير من الضوء على الطريقة التي يفكر بها العقل السياسي الألماني الحديث. يفترض ماكياس أنه: “في رحلة العودة والخلاص من الذنب، تريد ألمانيا الحديثة أن تعتقد أن خلق دولة إسرائيل كان نهاية سعيدة لرعب غرف الغاز”، كأن إسرائيل، الموجودة والآمنة، هي الطهارة التي تحتاجها ألمانيا، والباب الذهبي إلى الغفران. الساسة الألمان الذين قادوا الدولة بعد الحرب العالمية الثانية كانوا أكثر إدراكًا لحاجة ألمانيا إلى الغفران، وبرغم ذلك فقد التزموا سياسة عقلانية تضع كل المعادلات الدولية على الطاولة. عملوا بدراية ودأب على إخراج ألمانيا من عزلتها وغسل سمعتها، بينما يقود أولاف شولتز وحكومته البلاد إلى عزلة مُهينة، وسوء سمعة غير مسبوق.
قال 23% فقط من الألمان، في استطلاع لمؤسسة Forsa في ديسمبر الماضي، إن أمر إسرائيل يعنيهم.
عقيدة الخلاص هذه، التي أحيتها برلين الجديدة، جعلتها غير قادرة على رؤية الحق الفلسطيني، وعلى رؤية الحق بشكل عام. أسوأ من ذلك؛ فقد وضعت نهاية للنفاق السياسي. يدعي الساسة الألمان أنهم تعلموا درسًا عظيمًا من الهولوكوست، ولكنّ أيًّا منهم لا يخبرنا عن الدرس الذي تعلمته ألمانيا من الإبادة التي ارتكبتها في ناميبيا. تدار العلاقات والمواقف الدولية على أساس من النفاق المقبول على المسرح العالمي؛ حيث تخترع القواعد ثم تنتهك بطريقة مدروسة لا تؤدي إلى انهيار النظام القائم على “القواعد والنفاق”. كانت ألمانيا “أديناور” تدير النفاق السياسي بطريقة واقعية مدروسة؛ فهي تبني الدولة الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه تحافظ على مسافة بين البلدين حتى لا تبدو جزءًا من معضلة الشرق الأوسط. أنهت ألمانيا الحديثة حقبة النفاق السياسي، كما يذهب ماكياس، ووضعت البيض كله في سلّة واحدة، وربما دشّنت مع أميركا الانتقال من عهد النظام الدولي القائم على القواعد السيئة، إلى نظام دولي بلا قواعد، كما يتخوف ماكياس.
في الأعوام العشرة الماضية، احتفظت ألمانيا بمكانها كصاحبة أفضل سمعة على الصعيد الدولي، وفقًا لعدد من المؤسسات والمجموعات البحثية مثل ISPOS وسواها. أعطتها المسوح قصب السبق في قائمة مهمة من المعايير والمقاييس، ونادرًا ما تراجعت إلى المركز الثاني لصالح كندا. صنعت هذا النجاح من خلال سياسة عقلانية على المسرح الدولي، وتوزيع البيض في كل السلال، مثل الاختيارات المدروسة على المسرح الإنساني؛ فهي على سبيل المثال تلتحق بمعركة عاصفة الصحراء 1991، بعد تلكؤ شهده العالم، ثم ترفض الحرب على العراق في العام 2003. كذلك تقدم دعمًا عسكريًا لإسرائيل في حرب أكتوبر من خلال معدات منزوع منها بلد المنشأ، وتحت غطاء دعائي رسمي عن سرقة أسلحة من مخازن وزارة الدفاع. حضرت ألمانيا في المسألة الفلسطينية كفاعل خير يقدم دعمًا سخيًّا للأنوروا، ويمنع الاعتراف بالمستوطنات ومنتجاتها. انتهى الأمر بــ “الخير الألماني” إلى احتوائها أزمة اللاجئين، 2015 وما بعدها؛ حيث استكملت ألمانيا شخصيتها كدولة عالية الكفاءة الأخلاقية.
مواضيع ذات صلة
مطلع أبريل الماضي نشرت دير شبيغل تقريرًا مروّعًا عن المكانة الراهنة التي آلت إليها ألمانيا على المستوى الدولي. تحت عنوان “معضلة ألمانية“، قدمت دير شبيغل عرضًا بانوراميًا للعزلة الدولية التي انزلقت إليها البلاد. لم يعد الدبلوماسيون الألمان كما تقول المجلة، يدعون إلى المناسبات في أي مكان في العالم، وخسر القاضي الألماني السباق على مقعد في محكمة الجنايات الدولية، ولم تكن الخسارة بعيدة عن موقف بلاده من المسألة الفلسطينية كما تفترض دير شبيغل. وعندما ألقت مندوبة ألمانيا في مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، خطابًا يتحدث عن الجرائم الجنسية لحماس قاطعتها صيحات الاستجهان من قبل أعضاء المجلس. كما تتعرض مؤسسات ألمانيا الثقافية إلى مقاطعة دولية واسعة النطاق، وعلى نحو يومي تصل الخارجية الألمانية- وفقًا لدير شبيغل- برقياتٌ من بعثاتها في كل العالم تقول فيها إنها تتعرض لعزلة متزايدة، أما في الشرق الأوسط فلا أحد يفكر حتى بالحديث إلى الدبلوماسيين الألمان. وفوق كل هذا جاءت الإهانة الموجعة -بتعبير دير شبيغل- حين أخذتها نيكاراغوا إلى محكمة العدل الدولية بوصفها دولة داعمة لإبادة بشرية. جرحت نيكاراغو -وهي بلا سابق عهد مع الديموقراطية- الكبرياء الألماني على نحو عميق.
الطبيعة البيروقراطية المعقدة للحياة الألمانية تجعلها غير قادرة على احتواء المعضلات، وإن أدركتها فإنها تتطلب وقتًا طويلًا لاحتوائها وتجاوزها. مؤخرًا أقدمت الدولة الألمانية على خطوات في الهامش لا في المتن، وذهبت وزيرة خارجيتها إلى رام الله مؤملة إصلاح سمعة سياستها الخارجية، كما خرجت تصريحات ذات قدر من العقلانية من برلين، وفصوص من الحديث المتناقض عن حل الدولتين والحق الفلسطيني. لا تجري التحركات الألمانية داخل استراتيجية تراعي كل ما يجري في الحقل الدولي، عوضًا عن ذلك تذهب السلطات الألمانية في “سراب” تتوهم فاعليته، كما تختم دير شبيغل تقريرها.
السراب الذي تشير إليه المجلة الألمانية هو تيه السياسة الألمانية وضياعها. كانت إسرائيل في خيال آباء السياسة الألمان حصنًا غربيًا يتوجّب دعمه، وحين يصبح الحفاظ عليه بالغ الكلفة يجري التخلي عنه كما هي العادة مع الحصون. وكانت ألمانيا تدفع الأموال إلى الحصن على هيئة تعويضات مالية لا على سبيل الواجب الأخلاقي الأزلي. كل ذلك تغيّر في خيال ألمانيا الحديثة، ألمانيا التائهة والمعزولة، وباتت إسرائيل سببًا في وجود الدولة الألمانية، وهي عقيدة لا تحظى بشعبية في الداخل، كما تشكل خطرًا على سمعة البلاد الخارجية واستقرارها الاجتماعي؛ فقد قال 23% فقط من الألمان، في استطلاع لمؤسسة Forsa في ديسمبر الماضي، إن أمر إسرائيل يعنيهم.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.