رفيف المهنا، هو كاتب وطبيب نفسي سوري من مواليد 1973م، درس في كلية الطب البشري بجامعة دمشق، ثم سافر بعد تخرجه إلى فرنسا ليتابع تخصصه في مرسيليا، متزوج من راوية كاسوحة، وهي خريجة علم نفس، ولديهما طفلتان.
للدكتور رفيف اهتمام بالكتابة، وله عدّة كتب منشورة؛ منها “كلام عادي جدًا” و”طفل النوافذ” و “في الشخص الذي يرفض النضج“، ويحب الأغاني ويعتبرها شغفه الأول، ويغني كثيرًا، وعلى الصعيد المهني يعتبر نفسه ولد طبيبًا نفسيًا أكثر مما هو خيار، ويعتبر أنّ الطب شكّل عامل حماية ليحافظ على نفسه وشغفه بالكتابة والأغاني والحياة، ويعتبر أنه ليس من مهمة الطبيب النفسي أن يُشعر المريض بالتحسن الفوري، “ليست مسحة رسول”، ومهنة الطب النفسي تتطلب توقع الفشل في العديد من الحالات، والطبيب النفسي يُساعد المريض على البدء في مسار الحل، لكنه لن يقوم بتلك المهمة نيابةً عنه.
ويعتبر الدكتور الرفيف الزواج مؤسسة هشة، تأخذ أكثر بكثير مما تعطي، وأنّ الزواج الذي يستمر هو الذي يحمل أقل قدر من التوقعات، لأنّ منعطفات الحياة الزوجية ضيقة، وللعبور منها بسلام يجب ألا نحمل الكثير معنا، وعن الخيانة الزوجية فهو يفهمها لكنه لا يبررها، ويراها خيانة الشخص لنفسه أكثر من كونها خيانة للطرف الآخر، لأنه يحاول عن طريقها إعادة اكتشاف نفسه.
يوجد علاقة أصيلة بين علم النفس والسياسة، وعلماء النفس حديثًا وحكماء القبيلة قديمًا قد استُخدموا في السياسة والحكم.
ويرى رفيف المهنا أنّ الله اكتشاف شخصي بقرار شخصي، وكل محاولات الدنيا لتعرفك عليه، وكل كتب الدنيا التي تعرِضُه عليك لن تحمله إلى قلبك ما دام قلبك مغلقًا. ويعرّف الملحد بأنه شخصٌ رفض أن يكون مؤمنًا أعمى، فاختار أن يكتشف طريق الإيمان، لكنه تعب وتوقف في منتصف الرحلة، ومع ذلك فهو أقرب إلى الله من مؤمن أعمى، لم يحرّضهُ وجود الله في حياته للقيام بأي اكتشاف، ولم يحرك ساكنًا.
بناءً على ذلك يُعرف الدكتور رفيف نفسه: “الملحد هو من توقف عن البحث عن الله، أما أنا فما زلتُ أبحثُ عن الله وألتمسه في كل شيء، لكنني أحاول أن أكون أكثر خفةً عندما أرمي كل حملٍ إضافي أجبرني الدين على حمله”. ويقول إنّ وجود الله كمصدر وحيد لغفران الخطايا، أعاق تطوير أدوات أخرى أكثر جدوى وفاعلية، وهي أن يطلب الإنسان المغفرة من نفسه.
ليس لديّ مشكلة مع الدين، وإنما في طريقة فهمه وقراءته وتطبيقه، الدين نفسه ملهم وجميل، ويوجد فيه الكثير من الأشياء والمفاهيم الجميلة.
ويشرح ذلك بكلماته الخاصة: “أنتَ وبينما تحاول أن تغفر لنفسك ما ارتكبتَ من أفعال، ستكتشف الله، ستكتشف الحياة، وستعرف أن علاقتك مع خطاياك وجهدك لاحتوائها وقبولها، هي وسيلتك الأنجع للنمو”، وبين هذا وذاك، كان لــ “مواطن” هذا الحوار مع الدكتور رفيف المهنا.
حول الطبيب
1- اليوم أنت طبيب نفسي، يقصدك المرضى للتخلص من التوتر والقلق، وسؤالي: كيف يتعامل رفيف المهنا الطبيب والكاتب مع التوتر والقلق والانزعاج الذي قد ينتابه؟
جزء كبير من القلق الذي يعيشه أغلب الناس لا يصل إليّ أساسًا؛ دعنا نقول 70% بسبب وجود نظام حماية يتشكل مع الوقت؛ بحيث لا يسمح للقلق المألوف بالوصول دائمًا، ويفلتر القلق ويجعله يمر بشكل خارجي، ويحلّه عبر الوقت، الفلسفة والحياة، وإذا لم ينفع معه “سيستم الحماية الأول” فلن ينتقل إلى “السيستم الثاني” وهكذا.
أعتمد في حياتي على كتابة المشكلة على ورقة صغيرة؛ ملخص صغير للمشكلة ثم ذكر تفصيلاتها، والأغاني تُريحني كثيرًا وتزيل مشاعري السلبية، لذلك أغنى دائمًا، وتُريحني مشاهدة المسرحيات الكوميدية، والتحدث مع أشخاص لطفاء أستطيع البوح لهم، أحيانًا ألجأ إلى المشي وقيادة السيارة.
2- ذكرتَ مرة أنك اخترت الطب النفسي كحلّ وسط بين رغبات المجتمع وميولك الشخصية، وذكرتَ أيضًا أنك لم تكمل مع فتاةٍ أحببتها لأنه لا يوجد إمكانية للزواج (معايير المجتمع لم تكن تسمح بحب لا ينتهي بالزواج). هل نفهم من ذلك أنّ شخصية رفيف المهنا هي شخصية مُسالمة، غير متمردة، تتجنب مناطق الاختلاف والجدل؟ وهل ترى ذلك أفضل للحفاظ على التوازن النفسي والحياتي؟
صراحةً لا أمتلك شخصية واحدة أو طريقة تعامل واحدة مع المواقف والأشياء، قد أكون أحيانًا مُسالمًا ومُتجنبًا، وتارةً حادًا وقاسيًا وبلا رحمة، لكنّ التوازن هو الأهم في اعتقادي، واختيار التوقيت المناسب لاستخدام أي شخصية، يوجد أشخاص يجب أن نكون محتدين معهم، وآخرين يجب أن نتسامح معهم، لذا فالتوقيت هو النقطة الأهم.
3- من متابعتي لمنشوراتك على فيسبوك، وجدتُ أغلب منشورات النقد الديني كانت منذ سنوات، هل طرأ تغيير ما على اهتمامات رفيف المهنا؟
ليس لديّ مشكلة مع الدين، وإنما في طريقة فهمه وقراءته وتطبيقه، الدين نفسه ملهم وجميل، ويوجد فيه الكثير من الأشياء والمفاهيم الجميلة؛ سواء نظريًا أو عمليًا، وكل الطقوس الدينية جميلة ولها فوائد نفسية وروحية على الإنسان، لم تكن بدي مشكلة مع الدين، وإنما في التجييش والتحريض واستخدامه لأغراض لم يُخلق لها، وكان هذا الاستخدام واضحًا في الأزمة السورية.
4- الكثير من الأشخاص عندما كبروا تعلموا وقرؤوا عرفوا أنّ بعض حالاتهم النفسية كان أهلهم سببًا فيها، سواء كان ذلك منطقيًا أم مبالغًا به. وأنت الآن طبيب نفسي، وأب أيضًا؛ برأيك، كيف يختلف الأطفال عندما يكون أحد الأبوين طبيبًا نفسيًا، ما الإيجابيات؟ وما السلبيات؟ إن صح القول.
إيجابيات أن أكون أبًا وطبيبًا نفسيًا، أنني إذا كنتُ مرتاحًا ومتوازنًا، أستطيع تناول مشاكل أولادي على أنها جزء من المشاكل العادية وليست جزءً من مرض أو اضطراب، وبما أنني طبيب نفسي أرى الكثير من الحالات، وبذلك أتعلم أن أُعطي المشكلة حجمها الواقعي دون مبالغة، ولكن أحيانًا يحدث القلق عندما أرى أطفالًا بعمر أولادي، فتراودني تلك الأفكار، هل يُعقل أن يصبح أولادي مدمنين؟ هل يعقل أن يُصبحوا كحوليين؟ والحقيقة أن الطبيب النفسي يُدقق كثيرًا على كل تفصيل مهما كان صغيرًا، ويربط كل سلوك أو حادثة أو ملاحظة بمرض أو اضطراب ما، وقد يصبح مُزعجًا في بعض الحالات، لذلك أن تكون أبًا وطبيبًا نفسيًا، ليس بأمر مريح دائمًا.
وأنا أفضل فكرة أنّ الأهل قد فعلوا كل ما بوسعهم ضمن إطار معرفتهم بما يخص تربية الأطفال، ولستُ مع البحث الدقيق في الطفولة لتجريم الأهل، وأعتقد أنّ مسامحة الأهل نضجٌ عظيم.
حول الكتابة
5- أنت كاتب وطبيب في الوقت نفسه، أين استطاعت الكتابة مساعدتك في عملك كطبيب نفسي؟
في الحقيقة؛ دائمًا ما تُساعدني الكتابة الوصول إلى شكلٍ معين لكل شيء في الحياة، وأهم ما ساعدتني به الكتابة هو الوصول إلى شكل للمعاناة النفسية وشكل للحياة النفسية، طبعًا هي محاولات وليست أشكالاً ونتائج ثابتة، وقد ساعدتني الكتابة على ترتيب حياتي الداخلية وطريقة تفكيري وأنا في معترك البحث عن المشاكل النفسية والبحث عن حلول.
وكثيرًا ما أطلب من المرضى في متابعتهم بعد التشخيص بدء العلاج أن يكتبوا أي شيء عن حياتهم، لأن الكتابة تساعد الناس على التركيز، على الوضوح والدقة والمسؤولية والفهم، وعلى التقييم، ولطالما ساعدتني السطور التي يكتبها المرضى على التوجه في طرح الحلول.
الكتابة ليست فعل رفاهية، وأنا أعتقد أنها حاجة أساسية مثلها مثل سائر الحاجات الأخرى، وما يمنع الكثير عن ممارسة الكتابة هو ارتباطها بالثقافة؛ فأغلب الناس يعتقدون أن الكتابة هي عمل ثقافي، بينما هي في الحقيقة حاجة عقلية ونفسية وروحية.
6- كتابكَ “طفل النوافذ”، الذي كتبته بناءً على نافذة بيتكم في قرية بصير، وكنتَ تنظر عبرها للعالم الخارجي، واليوم ما النافذة التي ينظر من خلالها رفيف إلى قصص الناس؟ وما أكثر ما يبقيك تنظر إلى العالم كطفل من نافذة بيت العائلة؟
النافذة التي أرى فيها العالم اليوم هي نافذة الألم والضعف والهشاشة، لأنني أعتقد أنني أقضي أغلب وقتي مع آلام الناس، أحاول أن أعيش وأتأقلم معها، ومن ثم مساعدتهم على التعامل معها، أتخيل اليوم أنني أرى الأشياء من منطق الألم.
وأنا أعمل جهدي كيلا أفقد القدرة على النظر إلى العالم كطفل، أبذل جهدي بالنمو والنضج والعمل على نفسي، حتى أحافظ على هذا الطفل، أحيانًا أشعر أنني قادر على ذلك، وأحيانًا أشعر بالعكس، ولكن أتخيل أنّ هذا هو حلمي.
مواضيع ذات صلة
الفرد في المجتمع
7- يوجد الكثير من الشباب والشابات الذين يأخذون مضادات الاكتئاب بعد استشارة نفسية يعانون من التثبيط العاطفي والجنسي، ومنهم من قرر ترك الدواء، وقالوا إنّ (أعراض الاكتئاب أخف وطأة من الآثار الجانبية للأدوية)، كيف تنظر إلى المشكلة؟ وهل ترى أنّ هنالك مبالغة في وصف الأدوية مقابل تغيير نمط الحياة؟ وكيف يمكن تخفيف الآثار الجانبية؟
أعتقد أنّ تقييم أي دواء يرتكز على المقارنة من الإيجابيات والسلبيات، واختيار الحل الأفضل لكل حالة، ولكنّ التأثيرات الجانبية لمضادات الاكتئاب لا تصل في أي لحظة إلى مستوى الاكتئاب ومعاناة صاحبه، ولكنّ الاكتئاب مرض عجيب، المريض ينسى تلك المعاناة عندما يتحسن، ويَعتقد أنه يمكن أن يعيش بدون الدواء وسيبقى محافظًا على الوضعية ذاتها، ولا يتذكر حالته كيف كانت عندما كان تحت وطأة الاكتئاب، لذلك أنا مع أن نأخذ الدواء ونمشي خطوة خطوة؛ حيث يوجد الكثير من الآثار الجانبية النفسية والعاطفية والجنسية يُمكن علاجها، ولا أجد أنه من المناسب إيقاف أدوية الاكتئاب ما لم تكن الأعراض الاكتئابية مُنتهية تمامًا.
عمومًا فإن مضاد الاكتئاب لن يحل المشكلة عوضًا عن المريض، وهو يسمح فقط بتغيير السياق ويحسن الظروف التي تسمح له بتحسين وضعه بنفسه، مثل المخدر الذي يسمح للطبيب بإجراء العملية بأفضل الشروط.
8- ما المصاعب التي تواجهك كطبيب نفسي عندما يراجعك مؤمن أو ملحد، وآخر بينهما؟ ما الاختلافات السيكولوجية على ضوء ما تصادفه في المجتمع؟
بصراحة لا يوجد لديّ صعوبات في هذا الأمر؛ حيث أنا قادر على الحديث مع المؤمن وتفهمه وتفهّم طريقة تفكيره، وأستطيع تفهم الملحد ونظرته لنفسه والأشياء من حوله. وفي الحقيقة نحتاج الإيمان في الكثير من المواقف في حياتنا، وأحيانًا نكون بحاجة للإلحاد، وأستطيع استخدام منظومة المعتقدات هذه في العمل على مساعدة المريض على التحسن، وفي بعض الحالات يكون الإيمان مفيدًا جدًا عند الكثير من المرضى وخاصةً السرطانات.
وأنا أتكلم مع الفرنسي بالفرنسية ومع العربي بالعربية، أي أتحدث مع العربي بطريقة الفهم العربية وأسلوب النقاش العربي. على سبيل المثال أكثر موضوع يأخذ نقاشًا جدليًا هو المثلية، وهو في الغرب أمر يكاد يكون طبيعيًا، وهو ليس كذلك في المنطقة العربية. لذلك من الأفضل قراءة المنطقتين وتفهمهما وامتلاك القدرة على التبدل من منطقة إلى أخرى، وأنا أتعامل معهم بتأقلم، ويجب علي التعامل بذكاء؛ بحيث أفهم الارتباطات النفسية والعاطفية والدينية التاريخية لكل شخص، بدون إطلاق أي حكم، وبدون إجباره على شيء.
9- هل علم النفس ممتد على مستوى التقاطع في أمر مؤثر مثل السياسة كما يتقاطع مع التوجهات الدينية؟
نعم يوجد علاقة أصيلة بين علم النفس والسياسة، وعلماء النفس حديثًا وحكماء القبيلة قديمًا قد استُخدموا في السياسة والحكم، ودائمًا ما كان الحكام والمسؤولون والزعماء يلجؤون إلى ذلك الشخص الحكيم الذي يستطيع قراءة الأمور بطريقة مختلفة، وعلم النفس مُستخدم بشكل واضح في السياسة؛ خاصةً في أوروبا بعد الحرب الباردة، التي كانت نفسية بدرجة كبيرة، ودائمًا مع تدخل علوم النفس والدراسات والنفسية في السياسة، وغالبًا ما يمتلك السياسيون ميزات نفسية خاصة؛ فليس كل شخص قادرًا على أن يكون سياسيًا؛ فهو يحتاج إلى أساليب معينة، تجري دراستها وتحديد جزء كبير منها في علم النفس.
10- ما أكثر تحدٍ تواجهه في ممارسة الطب النفسي مع الحالات الآتية من المجتمعات العربية؟ وكيف تتعامل معه؟
يوجد مشكلة بارزة عند المراجعين العرب للعيادة النفسية، هي عدم احترام المواعيد، وعندما تحدث مشكلة في المواعيد غالبًا ما يكون المريض عربيًا.
النقطة الثانية أنه ليس لديهم إيمان بالدواء أو بالمرض النفسي، ويتعاملون مع الأشياء بمنطق المصلحة المباشرة، أي لا يوجد لديهم إحساس أنّ المرض موجود، كما يخفون الكثير من الأشياء عن الطبيب وكأنّها عيب أو وصمة، على سبيل المثال يخفون تعرفهم الشخصي وسوابقهم العائلية التي تعتبر ضرورية في عملية تشخيص المرض. عمومًا لا نستطيع الحصول على معلومات دقيقة وكافية من المرضى العرب، ودائمًا ما يحرصون على الإيحاء بأنّ كل الأمور على ما يرام، ويحاولون طمأنتك وطمأنة أنفسهم بطريقة غير مناسبة. ومن أبرز الصعوبات هي أنهم يعتمدون على الدين لحل الكثير من المشاكل، وهذا ما يتعارض مع الطبيعة الطبية لاختصاص الطب النفسي.
11- لاشك في أنّ الواقع العربي إجمالًا سيء، وكثير من البلدان العربية تُعاني، وهناك من يقول إنّ هذا الإنسان العربي في حال تم التعامل معه منذ الطفولة، وإشباع حاجاته وفق هرم ماسلو للاحتياجات، سيكون لدينا أفراد مُشبعون نفسيًا وعاطفيًا وجسديًا، وبالتالي مجتمع أكثر صحة وقوة، هل تتفق مع هذا الكلام؟
أنا لا أتفق مع فكرة الإشباع؛ فالأرض التي تُسقى كثيرًا بالمياه تعطي فواكه بلا طعم، على سبيل المثال أطيب أنواع التين هو الذي يُروى بعلًا، وتكون سقايته قليلة، ولا أعتبر أنّ النتائج تعتمد على ما نقدمه؛ فالنقص ضروري، والحاجة ضرورية، والألم ضروري، حتى يُعطي معنى للحياة، ولا أعتقد أنّ هناك معنى يأتي من الإشباع، معنى الحياة يتكوّن في كثير من الحالات عن طريق النقص والفقدان والاستغناء.
النقص هو صانع الفرادة، لذلك فإن جوهر التربية هي التي تهتم بــ “النقص”، و تشجع على استمراره بدون أن يكون عبئًا على الطفل، تمامًا كما يهتم البناؤون بالنوافذ التي تكون أكثر مناطق الجدران هشاشة و أقلها حماية، وبالمقابل هي أكثر الأماكن قربًا.. هي الروح.
الموهبة هي مسيرة إحساس بالنقص لا تُحتَمل، وتسعى نحو اكتمال وهمي؛ بل النقص حقيقة، أما الكمال فهو وهم، والطفل الموهوب بالموسيقى مثلًا هو الذي يكتشف نقصه ويشعر به ولا يحتمل وجوده، فيحتمل كل جهد حتى يمشي تلك المسيرة. جدارة الأهل إذن هي في تشجيع الطفل على استشعار نقصه، لا في إكمال نقصهم.
الإنسان بين الشرق والغرب
12- ذكرتَ مرةً أنّ الإنسان الغربي لا يتفوق على نظيره العربيّ، والفرق هو على مستوى تنظيم الأفراد وإدارتهم، عليه. فما الإيجابيات والسلبيات من الناحية النفسية في أوروبا (على الإنسان الأوربي)؟
من سلبيات الثقافة الغربية على المواطن الغربي، هو التكسير المنظم للبنية النفسية الأساسية التي يخرج منها الإنسان؛ وهي العائلة، هناك تدمير منظم وهادئ ويمر بسلاسة عبر تدمير كل القيم التي تجعل الفرد ينتمي؛ حيث يريد تحويل كل فرد إلى منتج، الانتماء الوحيد هو للبنك والرغبة المباشرة والمتعة.
أما إيجابيات الإنسان الغربي، فهو النظام والانضباط في كل مجالات الحياة، لدرجة أنه مدمن على النظام والقانون بكل معنى الكلمة؛ حيث يطبق القوانين دون أي تفكير، ويتعامل معها كمقدسات، تمامًا مثلما يتعامل المتدين مع الدين والتشريعات الدينية.
وقد تطور الغرب لأن الدين قبِلَ بوجود الفلسفة كشريك لابد منه لتطوير الدين والمجتمع في آن، وكفّ عن معاملتها كعدوّ بل استثمرها أفضل استثمار .أما استمرار اعتبار الفلسفة تهديدًا للدين؛ فسيجعل الدين في حالة دائمة من الدفاع عن الذات، وبالتالي فقدان التوازن والبقاء عند ردود الأفعال بدون الذهاب نحو الفعل.
13- من الإيجابيات الموجودة في أوروبا؛ ما الأشياء التي يمكن أن تفيدنا في مجتمعاتنا العربية، مع إجراء بعض التعديلات طبعًا؟
أعتقد أنّ كل مجتمع له خصوصيته، ولا نستطيع أن نستورد ثقافة أو شكل حياة ونطبقها على مجتمع آخر، ولا تستطيع استيراد جزء من هذه الثقافة، لأنّ الأشياء مترابطة مع بعضها البعض؛ فلا نستطيع أخذ نمط اجتماعي بمعزل عن الحياة الدينية الروحية، ولا نستطيع استيراد نمط اقتصادي بمعزل عن الأشياء النفسية؛ فإما أن نأخذ النظام كاملًا أو لا نأخذ منه شيئًا.
أما في المجتمعات المُتشابهة؛ فهي قادرة على تبادل الأفكار وأنماط الاقتصاد والحياة الاجتماعية والاستفادة من تجارب بعضها، على سبيل المثال ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، تتبادل الكثير من الأشياء فيما بينها، لأنها حولت الفرد إلى شخص لامنتمٍ، تستطيع التحكم به، أما عندما يكون في المجتمعات انتماءات روحية واجتماعية ونفسية كما في بلداننا العربية والبلدان الأخرى التي تشبهها؛ فمن المستحيل أن تأخذ أشياء من الغرب إلى الشرق أو بالعكس.
14- هل ترى أنّ نشر مبادئ التنوير في المجتمعات العربية، قد يخفف من المشاكل النفسية للفرد؟ أو أنه فقط يغير من أعراضها وتظاهراتها؟
لكل مجتمع خصوصية، وأنا مع احترام خصوصية المجتمعات، دون أن نستورد أشياء من المجتمعات الغربية، ونحاول فرضها على مجتمعاتنا الشرقية، أنا مع أن نُحافظ على ثقافتنا الشرقية، ولستُ ضد الثقافة الغربية، إنما ضد رغبة الاحتلال الموجودة لديها وفرض مبادئها وأفكارها على العالم وثقافاته المتنوعة، لذلك أعتقد أنّ الأمراض النفسية قد تزداد في حال فرض أفكار ومبادئ غير متناسبة مع مجتمعاتنا وقدراتنا وشخصيتنا. أنا مع فكرة أنّ مبادئ التنوير التي تتناسب مع المجتمع إلى حد ما حيث لا تؤذي، أما في حال تعارضها بشكل واضح ستضر وتؤذي.