شكّل عام 1971 نقطة تغير حاسمة في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة، ومنطقة الخليج العربي بشكل عام؛ فبعد سنوات طويلة بقي فيها ساحل الخليج تحت السيادة الغربية، أعلنت بريطانيا عام 1968 عن نيتها فك الارتباط بينها وبين الإمارات العربية، وإنهاء التعاقدات الاستعمارية القديمة التي استمرت قرنًا ونصف القرن تقريبًا، والانسحاب من منطقة الخليج العربي في نهاية عام 1971، وهو ما كان دافعًا حقيقيًا لعودة المشاورات السياسية بين حكام الإمارات الست المتصالحة، لتأسيس وقيام دولة الاتحاد، لتكلل المباحثات بإعلان الاتحاد رسميًا في 2 ديسمبر/ كانون الأول 1971.
وبالنظر إلى السّياق التاريخي لذلك الحدث المفصلي في تاريخ الخليج العربي، وما حمله من دلالات كبيرة وواضحة في مسيرة النهضة الخليجية، والخروج من دائرة النفوذ البريطاني، أراد الشيخ زايد بن سلطان تتويج تلك التغيرات في الجزيرة العربية بحدث يليق بمكانة الاتحاد الوليد، ويوازي خصوصيته التاريخية؛ ليس فقط كحدث مؤسس في المجال الخليجي؛ بل باعتباره حدثًا فارقًا على طريق الاندماج العربي، لذا سعى زايد خلال زيارته التمهيدية للقاهرة دعوة أم كلثوم للغناء في الإمارات العربية لأول مرة، تزامنًا مع قيام دولة الاتحاد، ليس فقط لمكانة أم كلثوم الفنية والتاريخية، ولكن لما يحمله وجودها في تلك اللحظة من رمزية عربية واسعة وشاملة، تمنح الحدث أبعادًا دالّة جديدة، وتصدره إلى قلب الاهتمامات الجماهيرية في العالم العربي.
أم كلثوم بين التصحيح والاتحاد
في 13 من أبريل/ نيسان 1971، زار الشيخ زايد بن سلطان القاهرة لأول مرة، ضمن جولة عربية شملت كلًا من مصر والمغرب بدعوتين من الملك الحسن الثاني والرئيس المصري أنور السادات، وذلك في إطار دعم المشاورات العربية لقيام دولة الاتحاد المرتقبة، والتأكيد على دعم الخليج العربي لقضية الصراع المركزية في منطقة الشرق الأوسط، وبعد أيام قضاها الشيخ زايد في القاهرة أجرى فيها المباحثات السياسية مع الرئيس المصري الجديد، وزار فيها المصانع والمتاحف المصرية، والتقى القبائل العربية المتواجدة في صحاري مصر، أوفد الشيخ زايد مندوبين عنه، هما الشاعر والوزير الإماراتي مانع سعيد العتيبة، والسيد عبد المنعم الملّواني المستشار الصحفي لولي العهد آنذاك الشيخ خليفة بن زايد، لنقل تحية الشيخ زايد للسيدة أم كلثوم، ودعوتها للغناء في إمارة أبو ظبي في عيد جلوسه الخامس، واحتفالًا بقيام دولة الإمارات العربية المتحدة، وقد تلقت أم كلثوم الدعوة شاكرة، وطلبت من مندوبي الشيخ أن ينقلا إليه تحياتها، وأكدت لهما أنها لولا وعكة البرد الطارئة التي ألمت بها لكانت زارته بنفسها في قصر “القبة” الجمهوري؛ حيث نزل ضيفًا على الرئيس السادات، وذلك للترحيب به ومباركة الاتحاد المرتقب وشكره على دعمه للقضية المصرية.
لم تكن أم كلثوم في تلك المرحلة من حياتها في أفضل حالاتها الغنائية والنفسية؛ فبعد أن عادت تجر أحزانها خلفها من الاتحاد السوفيتي مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 1970 بعد وفاة جمال عبد الناصر المفاجئة، ظلت شهورًا عدة في ظلام نفسي دامس، وصراعات داخلية ترجمتها الصحافة الفنية في عنوانيها الرئيسة، وظل السؤال عن مستقبلها الفني مُحلّقًا فوق الصُحف فترة ليست بالقصيرة، ويتجاذب إجابته رغبتها الداخلية في الاعتزال الفني، وتشبث الجماهير العربية ببقائها على الساحة الغنائية من أجل دعم معركة التحرير المنتظرة، والتي مدتها أم كلثوم بكل سبل العون منذ بداية نشاطها الوطني بعد الهزيمة، وبداية جولاتها من أجل دعم المجهود الحربي، كانت أم كلثوم التي جاوزت السبعين عامًا بقليل تشعر أن العصر الجديد في مصر لم يعد عصرها، وأن المركزية الناصرية التي تركها القائد الغائب من ورائه، توشك رياح التغير السياسي أن تقتلعها من جذورها، وربما كان وقوف أم كلثوم لأول مرة بعد وفاة عبد الناصر على مسرحها التاريخي ليلة 7 من يناير/ كانون الثاني 1971 وبكائها الطويل في نهاية وصلتها الأولى، رسالة حقيقية للنظام السياسي الجديد، وتأكيد على انتمائها الكامل لذلك العهد القديم، وتلك المرحلة التي أغلقتها مصر بالدموع في يوم وداع ناصر، لذا يمكن قراءة حجة المرض ووعكة البرد التي أبدتها أم كلثوم عند زيارة الشيخ زايد للقاهرة، كنوع من التمهل في استقراء الواقع، ورغبتها في فهم مستقبل علاقاتها الشخصية مع النظام المصري الجديد، خصوصًا مع شيوع الخلافات العميقة بين السادات ورجال عبد الناصر، وهو ما تأكد فعليًا بعد زيارة الشيخ زايد بشهر واحد تقريبًا، حين قام السادات بانقلابه السياسي المعروف باسم “ثورة التصحيح” في 15 من مايو/أيار 1971، وأقصى رجال عبد الناصر عن المشهد السياسي والعسكري، وأعاد ترتيب أوراق نظامه السياسي فيما يخدم مصالحه السياسية ويمكنه من السلطة فعليًا.
أراد الشيخ زايد بن سلطان تتويج تلك التغيرات في الجزيرة العربية بحدث يليق بمكانة الاتحاد الوليد، ويوازي خصوصيته التاريخية؛ ليس فقط كحدث مؤسس في المجال الخليجي؛ بل باعتباره حدثًا فارقًا على طريق الاندماج العربي، لذا سعى إلى دعوة أم كلثوم للغناء في الإمارات العربية لأول مرة، تزامنًا مع قيام دولة الاتحاد.
John Doe Tweet
وعلى الرغم من كل ما أحدثته ثورة التصحيح من تغيرات عميقة في بنية النظام السياسي والاجتماعي في مصر، وتَحييد معظم الصراعات الداخلية التي كان من شأنها أن تقوض نظام السادات، ظلت أم كلثوم متشبثة بالعهد القديم ورجاله، لا تفوت فرصة واحدة للحديث عن ناصر ومشروعه وأحلامه، وتكتب في كل ذكرى بعضًا من ذكرياتها عنه ومعه، وهو ما أدركه نظام السادات جيدًا، وحاول التأقلم معه وإيجاد بديل يملأ الفراغ الذي سيحدثه غياب أم كلثوم الجسدي والفني، وكذلك السعي لتصدير زوجة الرئيس كواجهة نسائية مصرية جديدة، بديلًا عن أم كلثوم التي تقف على الضفة الأخرى من النظام الساداتي وتطلعاته.
ويبدو أن الشيخ زايد بن سلطان كان يعي جيدًا وبفطنة شديدة أن أم كلثوم ربما تحتاج لبعض الوقت لفهم مستقبلها الفني، ورسم خريطة جديدة لشبكة علاقاتها السياسية في مصر؛ خصوصًا مع استمرار الرياح العاتية التي كانت تهب بانتظام في مواجهة رجال العصر السابق، لذا وبعد أن هدأت عاصفة “التصحيح”، عاد الشيخ زايد وجدد دعوته بعد أربعة أشهر من الدعوة الأولى، حين أوفد عبد المنعم الملّواني في أغسطس/آب 1971 إلى القاهرة، حاملًا رسالة رسمية لأم كلثوم كُتبت بلغة راقية، تحمل معاني بينة لتقدير وإجلال شخصها وفنها، قال فيها: “حضرة السيدة الفاضلة كوكب الشرق أم كلثوم المحترمة، بعد التحية:
إنّه لمن دواعي سرورنا دعوة سيدة الغناء العربي الأولى لزيارة أبو ظبي، للاطلاع على معالمها عن كثب، ومشاهدة ما حققته من إنجازات خلال فترة وجيزة، كما أنّه سيكون مبعث فرح وسُرور لما أن نمتع الأذن بسماع الصوت الشجي والنغم الجميل، آملين أن يتاح لكم الوقت للقيام بهذه الزيارة، وذلك بمناسبة العيد الوطني لبلادنا، متمنين لكم موفور الصحة، سائلين الله أن يوفقكم ويرعاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.
وبعد أيام قليلة من تلقي أم كلثوم الدعوة رسميًا، نشرت الصحافة العربية نبأ قبولها دعوة حاكم أبو ظبي، والمشاركة في احتفالات عيد الجلوس، والذي تأجل من أغسطس 1971 بسبب نشاط الشيخ زايد الدبلوماسي في المنطقة العربية ورحلته العلاجية لأوروبا في صيف 1971، لتبدأ في الثامن والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 1971.
الرحلة الأخيرة والحلم الأخير.
في كتابه الهام “أم كلثوم في أبو ظبي”، يطرح الكاتب والأديب الإماراتي محمد المُرّ رؤية توثيقية دقيقة لتلك الزيارة المؤسسة والفارقة في سجل العلاقات الثنائية بين دولة الإمارات العربية المتحدة والجمهورية المصرية، وذلك من خلال تتبع أدق التفاصيل الواردة عن الزيارة في أرشيف الصحف الإماراتية، وقد حاولت جاهدًا في كتاب “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي”، الإضافة إلى ما سجله “المرّ” في كتابه، والبحث عن تفاصيل أخرى للزيارة في الأرشيف المصري، وفي شهادات من رافق أم كلثوم في تلك الجولة الخارجية من الصحفيين والكُتاب، على أمل اكتمال السردية التوثيقية لرحلة أم كلثوم الفنية الأخيرةً؛ فتطالعنا جريدة “الأهرام” المصرية في عددها الصادر يوم 28 من نوفمبر 1971 عن حالة التأهب التي كانت تعيشها إمارة أبو ظبي استعدادًا لحفلتي أم كلثوم؛ خصوصًا بعد أن تكفلت وزارة الدفاع بتكلفة إنشاء مسرح خاص يستطيع استيعاب الأعداد الغفيرة التي ستحضر ذلك المهرجان الشعبي، وقد عملت جميع الوزارات والدوائر الحكومية في أبو ظبي على تسهيل عملية إعداد المسرح، وتجهيزه بالمعدات اللازمة لنقل الحفل تلفزيونيًا على الهواء مباشرة، وهو ما جعل العمل في ذلك المسرح يستمر على مدار شهر كامل، ضوعف العمل فيه لإنجاز كافة التفاصيل، ولم يسلم المسرح للجنة المشرفة على الزيارة إلا قبل 4 ساعات تقريبًا من رفع الستار عن السيدة أم كلثوم، التي كانت قد وصلت إلى ساحل الخليج العربي يوم الجمعة 26 من نوفمبر 1971، واستقبلها في المطار بعثة حكومية رسمية رافقتها حتى مقر إقامتها التي اختارته في فندق “العين بالاس”، الواقع بالقرب من كورنيش مدينة أبو ظبي.
عاشت الإمارات يوم 28 من نوفمبر1971 كرنفالًا شعبيًا خالصًا؛ فبعد مراسم رسمية للاحتفال بعيد الجلوس الخامس، بدأت في تمام التاسعة والنصف من صباح ذلك اليوم، كانت هي الإشارة الأولى لبداية مرحلة جديدة في تاريخ تلك المنطقة، وبناء نظام سياسي جديد، وإعادة صياغة الأسس الاجتماعية والسياسية في دولة الإمارات، بما يتفق مع إجراءات الوحدة بين الإمارات المتصالحة، بدأت التحضيرات الشعبية والرسمية لحفل أم كلثوم الأول على ساحل الخليج، وهو ما نقلته الصحافة الإماراتية، التي حاولت قدر الإمكان ربط قدوم أم كلثوم إلى إمارة أبو ظبي بتلك اللحظة الفارقة في تشكّل الدولة الناشئة؛ فكتبت الأقلام الإماراتية ما وراء ذلك الحدث الفني ورمزيته الكبرى؛ إذ ترتبط أم كلثوم في المخيّلة العربية بصعود القومية العربية ومضامينها الثقافية والفكرية، والتوحد بشكل استثنائي حول مشروع فني بعيدًا عن النزاعات الأيدلوجية التي فككت حلم الوحدة العربية، وجعلته يخضع للتفسيرات ولسياسة التنازع، لذا حقق صوت أم كلثوم في انطلاق الاتحاد الإماراتي ما كان يرجوه الشيخ زايد؛ فالاتحاد ليس فقط معناه التوحد تحت كيان سياسي اعتباري، ولكن صوت أم كلثوم قادر على ترسيخ معاني الوحدة والتآلف بين التناقضات المختلفة داخل المنطقة الخليجية، أو حتى على مستوى العالم العربي؛ فعندما تُضبط لأول مرة جميع مؤشرات الراديو في الشرق على موجات إذاعة أبو ظبي، وعندما يرتحل لأول مرة صوتها فوق الأرض العربية نابعًا من دولة عربية ظلت سنوات بعيدة عن المشهد الثقافي العربي، يضفي ذلك على الوحدة الإحساس الكُليّ والشامل بكل جزئية سياسية، ويؤكد الرغبة في دمج ذلك الكيان الناشئ في مجتمعه العربي القريب والبعيد.
وهو ما استوعبته أيضًا أم كلثوم؛ فحاولت قدر الإمكان أن تكون على قدر الحدث الكبير؛ فعقب وصولها إلى إلى أبو ظبي وجهت كلثوم رسالة نشرتها صحيفة “الاتحاد” الإماراتية على صفحاتها الأولى، شكرت فيها السيدة أم كلثوم الحكومة والشعب الإماراتي على حفاوة الاستقبال التي شاهدتها منذ أن وطأت أرض الإمارة، وأكدت سعادتها أنها جاءت إلى أبو ظبي في مناسبة عيد الجلوس والاستعداد للإعلان عن قيام دولة الاتحاد، التي وصفتها أم كلثوم في رسالتها بأنها ستضيف إلى الأمة العربية رصيدًا جديدًا من القوة والدعم، وختمت الرسالة بالدعاء للعرب بالعزة والنصر؛ بل إنها حاولت في كافة لقاءاتها أن تضفي على وجودها بعدًا اجتماعيًا وتسأل على حال المرأة الإماراتية ومستوى تعليمها.
يروي الكاتب عبد الفتاح الفيشاوي -وهو الشاهد على تلك الرحلة- أن السيدة أم كلثوم بين وصلتي الحفلة الأولى فوجئت بعدد كبير من سيدات المجتمع الإماراتي مازلن يرتدين الحجاب المعروف باسم “البرقع”؛ فدخلت معهنّ في نقاش حول جدوى هذا النوع من الحجاب، ودور المرأة القادم في دولة الاتحاد، ويذكر في مقاله في مجلة “الكواكب” الصادرة يوم 14 من ديسمبر 1971، أن النساء بمجرد أن أنهت أم كلثوم حديثها معهن خلعت أكثر من 100 سيدة حجابهن اقتناعًا بحديثها؛ بل إن أم كلثوم قد أثارت موضوع تعليم المرأة الإماراتية وخروجها للعمل مع الشيخة فاطمة بنت مبارك زوجة الشيخ زايد؛ حيث دار الحديث بينهما على مائدة عشاء كبرى نظمها الديوان الأميري، ودعا لها 200 شخصية نسائية من سيدات أبو ظبي والدول العربية، وزوجات الدبلوماسيين في الإمارات، وقد طالبت أم كلثوم الشيخة فاطمة بتخصيص أكبر قدر ممكن من الرعاية لتعليم البنات وتوفير المساحة لهن للخروج للعمل والاختلاط.
وتنقل مجلة “درع الوطن” التابعة لوزارة الدفاع الإماراتية بعضًا من الكلمات التي صرحت بها الشخصيات العامة في دولة الإمارات تقديرًا لأم كلثوم؛ فيقول رئيس المجلس الاستشاري في أبو ظبي الشيخ سلطان بن سرور الظاهري: “لقد أشجتنا كوكب الشرق وزادت أفراحنا فرحة”. في حين وجه رجل الأعمال عبد العزيز بن ربيع تحية لولي العهد الشيخ خليفة وقال: “تحية لسمو وزير الدفاع؛ فقد استطعنا بفضله أن تحقق ثلاثة مكاسب في وقت واحد؛ نحتفل بزايد، ونتبرع للمجهود الحربي، ونشاهد أم كلثوم”. وأخيرًا قال الأديب والصحفي الفلسطيني عبد الله الشيتي: “تحقق الاستقلال، وارتفع علم الاتحاد، وغنّت أم كلثوم، ولا يسعنا إلا أن نحني الرؤوس إجلالًا”. وفي مقابل ذلك حاولت الكاتبة الكبيرة سكينة فؤاد والتي رافقت أم كلثوم في تلك الرحلة جمع أكبر قدر ممكن من الرسائل التي كتبتها الجماهير العربية تحية لأم كلثوم؛ فكتب إماراتيون وكويتيون وباكستانيون ومصريون، وسوريون رسائل إلى أم كلثوم، كان من ضمنها ما كتبه المؤرخ الأردني أديب مروة الذي قال: “تهنئة إلى مصر بهذه السيدة العظيمة، وأعترف أنكِ من أهم العوامل الموحدة بين العرب من المحيط للخليج؛ فلم أنزل بلدًا عربيًا إلا وجدت إجماعًا على الإعجاب بكِ، وتقديرًا لا حدود حولكِ”.
وربما يحمل المشهد الأول في تاريخ دولة الإمارات المتحدة وحضور أم كلثوم يوم الاتحاد المزيد من الحفاوة والتقدير لشخصها؛ فبعد أن قدمت أم كلثوم حفلين تاريخيين على مسرح وزارة الدفاع، ذهب ريعهما للمجهود الحربي المصري، وقابلت الشيخ زايد في قصر المنهل وشكرها على دورها وجهودها كامرأة عصامية شقت طريقها وحدها، وحققت ما لم تحققه السياسة بين الشعوب العربية، طلبت القيادة السياسية من اللجنة المشرفة على الزيارة من أم كلثوم تمديد بقائها في ساحل الخليج حتى تشهد مع أبناء الخليج العربي اليوم التاريخي ورفع علم الاتحاد الإماراتي في 2 من ديسمبر 1971، وهو ما قبلته أم كلثوم بكل ترحاب، وبالفعل في صباح ذلك اليوم توجهت مع وفدها المرافق إلى قصر “المنهل”؛ حيث أمر الشيخ خليفة بن زايد برفع علم الاتحاد الإماراتي، وبعد أن انتهت مراسم رفع العلم، تقدمت أم كلثوم وصافحت الشيخ خليفة وقالت له مهنئة: “عقبال علم الوحدة العربية الكبرى”.
كانت تلك العبارة في نهاية المطاف بمثابة الحلم الأخير التي جاهرت به السيدة أم كلثوم في آخر رحلة فنية خارجية؛ فبعد خمس سنوات قضتها في زيارة البلاد العربية من أجل حملتها غير المسبوقة لدعم الدولة المصرية، ورغم التقدير الذي حظيت به أم كلثوم في تلك الرحلة الفنية الأخيرة، وما حققه وجودها من متعة فنية وقيمة تاريخية، أضافت دلالة كبرى على مفهوم الاتحاد الإماراتي، لم تعد “السّت” إلى الخليج العربي مرة أخرى، ولم تغادر مصر في رحلة فنية جديدة؛ بل ظلت في القاهرة تغني شهرًا وتسكت شهورًا، وتواجه أمراض شيخوختها القاسية، والتغير السياسي الجارف الذي جعلها تتراجع خطوة للوراء.
الزيارة في الذاكرة.
ربما كان لصدور كتاب “أم كلثوم في أبوظبي” عام 2018 عن مؤسسة “الأرشيف الوطني”، وبعد ما يقرب من سبعة وأربعين عامًا من الرحلة، معنى ودلالة واضحة لما مثلته تلك الزيارة من أهمية كبرى في نشوء الدولة الاتحادية، وتقديم أوراق اعتمادها كدولة شقيقة في المحيط العربي؛ خصوصًا إذا نظرنا لعناوين سائر المجلدات الصادرة عن دائرة الأرشيف والمكتبة الوطنية، والتي جاء معظمها ملتصقًا كليًا بتاريخ الإمارات ومدنها وسيرة بعض قادتها، لذا حاولت القيادات السياسية في الإمارات المتحدة التعامل مع ذلك المشروع التوثيقي الرسمي على أنه جزء من تخليد جهود الشيخ المؤسس، في جعل الإمارات مركزًا عربيًا وثقاقيًا منذ لحظة الميلاد.
وبعد أيام قليلة من صدور المجلد، استلم حكام الإمارات المختلفة نسخًا من الكتاب الهام، والتقطوا الصور التذكارية معه، وجدولت فعاليات نقاشية خصيصًا في برامج الأنشطة الثقافية في الإمارات من أجل الحفاوة به وطرحه للعامة، على أنه جزءٌ من الذاكرة الوطنية الإماراتية؛ فالكتاب لا يؤرخ فقط لتلك الزيارة التاريخية والهامة باعتبارها حدثًا فنيًا دام لفترة وجيزة في تاريخ الإمارات، لكنه قدم الزيارة على أنها محطة متجددة في سجل تلك العلاقة التاريخية والوثيقة بين الدولة المصرية والدولة الإماراتية؛ فصوت أم كلثوم قيمة عربية شاملة ما زالت تحتفظ بقداستها، رغم الزوابع الانعزالية وتراجع الشعارات والأيدولوجيات المختلفة التي حاولت إيجاد المشترك بين أبناء المنطقة العربية، وهو ما ترجم فعليًا في احتفالية مرور 50 عامًا على بداية العلاقات الدبلوماسية بين مصر والإمارات؛ إذ اعتبر حفل أم كلثوم في نوفمبر 1971 هو الحدث الرئيسي والمركزي في تشكل وجه العلاقة الرسمية بين البلدين، ولم يغب عن أي احتفال قام؛ سواءً في مصر أو في الإمارات بمناسبة اليوبيل الذهبي للعلاقات بين البلدين صوتها وأغانيها، وتصدير حفلها باعتباره البيان الثقافي الأول لتدشين العلاقة الرسمية، والرسالة الأولى التي بعثت بها مصر إلى الإمارات لمباركة لميلاد الاتحاد، وهو ما أدركته جيدًا دولة الإمارات العربية؛ فداومت التأكيد على أن حضور أم كلثوم لتلك البقعة العربية كانت تميمة الحظ الكبرى، وتتويجًا لجهود زايد في طريق الاتحاد بمفهومه الواسع، ونهاية سعيدة لجولات أم كلثوم الخارجية العربية في أعوام تخطي المحنة والسعي للنصر.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
Temp mail I like the efforts you have put in this, regards for all the great content.