إن الإسلام السياسي له تأثير بارز على الوضع الجيوسياسي المعاصر في العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، وهو وضع معقد بقدر ما هو غني يتسم بالاختلافات عميقة الجذور التاريخية والعقائدية والاجتماعية والسياسية، بين الجماعات السنية والشيعية، ولذلك فالتمييز بين جماعات الإسلام السياسي السُنّي والشيعي يشكل أساسًا لفهم هذه الحركات السياسية من جانب، وطبيعة مجتمعهم من جانب آخر، وطبيعة صراعاتهم من جانب مختلف.
ويخطئ عدد من المحللين في الاستشراف والتنبؤ بحاضر ومستقبل هذه الجماعات، بناءً على حاضر ومستقبل جماعة أخرى مختلفة في المذهب، برغم أن الفروقات بين المذهبين السني والشيعي كبيرة للغاية، ولها دور أساسي في تشكيل وعي هذه الجماعات وتطورها في الزمكان، ووضعها الاجتماعي والسياسي في منطقة مضطربة هي الأكثر اضطرابًا في العالم، والهدف من فهم هذه الاختلافات بين الإسلاميين السياسيين ليس انتصارًا أو مدحًا أو ذمًا؛ بل هو من صميم العمل الثقافي التي عكف عليه بعض المثقفين بجهود فردية، لكن لم تتناولها مراكز الدراسات أو صنع القرار بجهد كافٍ نظرًا لحالة الاحتقان المذهبي الإسلامي في العقود الأخيرة، وتسببها في صنع حواجز فكرية وأخلاقية وسياسية ودينية بين المسلمين، هي التي تمنع الخوض في مثل هذه التحليلات بالدرجة الأولى.
السياق التاريخي
نشأ الانقسام بين السنة والشيعة من نزاع حول الخلافة الشرعية للنبي محمد -عليه السلام- بعد وفاته في عام 632م، حيث يؤيد المسلمون السنة الذين يشكلون ما يقرب من 85٪ من سكان العالم الإسلامي فكرة انتخاب الزعيم أو الخليفة من مجلس حل وعقد، ضمن آليات شورى ضيقة وليست واسعة بالمعنى الديمقراطي الحديث، والعديد من الرؤى السنية ترى وجوب انتخاب هذا الخليفة ضمن نطاق عشائري من قريش؛ في حين يعتقد المسلمون الشيعة الذين يشكلون حوالي 15٪ تقريبًا من العالم الإسلامي، أن الزعامة يجب أن تظل في أيدي بني هاشم عائلة النبي فقط، وليس من كل عوائل قريش، وتحديدًا من خلال نسل ابن عمه وصهره علي بن أبي طالب، وتحديدًا من نسل الإمام الحسين حيث خرجت فكرة الأئمة الاثني عشر التي يعتنقها المسلمون الشيعة الاثنا عشرية حتى اليوم.
حدثت بعض المعارك المؤسسة للانقسام السني الشيعي، أبرزها معركة صفين عام (657م) بين أنصار علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وتُمثل هذه المعركة إحدى أقدم المواجهات الإسلامية وأهمها في تشكيل الانقسام الديني بين المسلمين، تبعتها معركة كربلاء (680م) التي نتج عنها استشهاد الإمام الحسين بن علي أبي طالب على أيدي جنود الخليفة الأموي يزيد بن معاوية. والحسين له أهمية خاصة لدى المسلمين الشيعة، وله آثار عميقة على الهوية الشيعية والنشاط السياسي الإسلامي بالمجمل؛ حيث تشكل مكانته الاجتماعية والأدبية والدينية -باعتباره حفيدًا للنبي وابنًا للإمام علي وأمه فاطمة الزهراء- موقعًا هامًا للغاية في الفكر الإسلامي.
تلعب الاختلافات بين الإسلام السياسي السني والشيعي دورًا أساسيًا في السياسة الإقليمية؛ فكثيرًا ما تتشكل التحالفات والعداوات على أسس طائفية
تبعت هذه المعارك أحداث صغرى وحروب ليست بالكبيرة أو المؤثرة في التاريخ الإسلامي؛ حيث شهدت بعض هذه الحروب ظهور حركات (التوّابين والمختار الثقفي)، ثم ظهرت الثورة العباسية بميول شيعية سرعان ما اندثرت بعد حرب النفس الزكية والخليفة العباسي المنصور، ومنعًا للاستطراد فقد شرحنا وألقينا الضوء على تلك المواجهات في شروح سابقة للمذاهب الشيعية، كالإمامية والزيدية والإسماعيلية.
وفي العصر العباسي اندلع العديد من المواجهات الطائفية بين السنة والشيعة، أبرزها حروب البويهيين والسلاجقة، والفاطميين والعباسيين والأيوبيين، وصولاً للحرب العثمانية الصفوية، التي ظلت قرونًا وزمنًا طويلاً، هي فترة بقاء الأسرة الصفوية في إيران (1501-1736)، وهي الحرب المؤثرة في وجدان جماعات الإسلاميين السني والشيعي في وعينا الحاضر؛ حيث تعد مركزية إيران ومرجعيتها الروحية عامل قبول ورفض في كلتا الحالتين، وغالبًا ما يعزو المحللون فكرة الصراع السني الشيعي المعاصر، أو الاختلاف المذهبي الحاصل بين إيران والعرب، إلى دور هذه الحرب الصفوية العثمانية بالأساس، ولا يميل المحللون لاستدعاء ما هو أقدم؛ حيث يمثل استدعاء معارك صفين وكربلاء –كمثال– غطاء ومشروعية لحدوث هذا الخلاف باعتباره إسلاميًا داخليًا، وليس بين الإسلام والكفر مثلما تعتقد بعض هذه الجماعات التي تسارع في نزع صفة الإسلام عن خصومها.
لذلك فالتاريخ له دور أساسي في تشكيل هذا الانقسام الإسلامي، ومن هذا السياق التاريخي تسعى الجماعات السنية مثل جماعة الإخوان المسلمين، إلى دمج المبادئ الإسلامية كالشورى والمبايعة في إطار ديمقراطي، وليس اعترافًا بالديمقراطية بشكلها الحديث الذي يتطلب العودة لحكم الشعب لنفسه، والاعتراف بالمواطنة وحقوق الإنسان، وعدم إيمان الدولة بالفروق العقائدية بين المواطنين، من ناحية أخرى تدعو الحركات السلفية بشتى أنواعها (الحركية والجهادية والعلمية) للعودة إلى ما تعتبره أنقى أشكال الإسلام وعصر السلف الصالح بالقرون الثلاثة الأولى بعد وفاة النبي، وبالتالي رفض أي شكل ديمقراطي، والاحتكام فقط لخيارات أهل الحل والعقد، والتي هي عند خصوم الإسلام السياسي سلطة كهنوت عُليا تحكم الدولة وفقًا للتقليد الكنائسي القديم.
بينما تسعى الجماعات الشيعية مثل الحشد الشعبي العراقي وحزب الله في لبنان إلى إنشاء نموذج سياسي أقرب للنظام الإيراني؛ حيث يتولى الزعماء الدينيون السلطة السياسية، مما أدى إلى ظهور شكل فريد وحديث من أشكال الحكم يسمى ولاية الفقيه، وهو النظام الذي أسسته الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 بقيادة آية الله الخميني، برغم أن الوضعين العراقي واللبناني لا يسمحان بهذا النموذج؛ حيث يتمتع نسيج كلا الشعبين بالتنوع الديني والعرقي الكبير، وصراعات دينية وقومية حديثة أدت لحُكم هذين البلدين بنظام المحاصصة الطائفية، وهو الذي يعني توزيع السلطات الثلاث (الرئاسة والحكومة والبرلمان) بين القوى الدينية النافذة، والتي تشكل أغلبية الجموع.
توزيع الجماعات وشرح مبادئها
تعتبر حركة الإخوان المسلمين السنية هي أحد فروع الحركة السلفية المعاصرة، مثلما وصفها إمامها المؤسس حسن البنا، بأن الإخوان دعوة سلفية، ومن الممكن فهم هذا الادعاء وفقًا لتعريف السلفية بأنها تعني الالتزام الصارم بالنصوص الإسلامية المبكرة، والعودة إلى الممارسات الأصلية للإيمان في القرون الثلاثة الأولى، وهو ما اصطلح عليه السلفيون المعاصرون بعبارة “فهم السلف الصالح”.
خرجت من تحت هذه العبارة أفهام مختلفة للسلف الصالح؛ فعلى مدار عقود، آمن الإخوان المسلمون وحركة حماس ونظراؤهم في تونس (حركة النهضة) والمغرب (حزب العدالة والتنمية) بالديمقراطية، ودخلوا الانتخابات بمنافسة صريحة على السلطة وفقًا لمرجعية “مدنية إسلامية”، وحسب خصومهم؛ فتلك المرجعية للإخوان كانت تؤمن فقط بالديمقراطية كسلم للوصول إلى الحكم، ثم إلغاء الديمقراطية والأحزاب في عصر التمكين، وهو ما بدا واضحًا في فترة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي؛ حيث امتازت فترته الرئاسية التي امتدت على مدار عام بأساليب دكتاتورية وإقصائية للإجهاز على المنافسين.
من ناحية أخرى ظهرت جماعات داعش والقاعدة، وهما جماعتان متطرفتان ترفضان الأيديولوجيتين الشيعية والعلمانية في الحكم، وتدعوان إلى تفسير عبارة “فهم السلف الصالح” بأنه يعني الجهاد والحرب وفرض الإسلام على الشعوب المختلفة، وبالتالي فالديمقراطية التي مارسها الإخوان هي مخالفة صريحة للسلف الصالح، ويمكن الاستزادة من ذلك وفهم الفروق بين تلك الحركات بقراءة كتاب دكتور “أيمن الظواهري” زعيم القاعدة السابق بعنوان “كشف الزور والبهتان في حلف الكهنة والسلطان“.
أما بالنسبة للجماعات الشيعية؛ فحزب الله هو منظمة سياسية مسلحة من لبنان ذات التزام أيديولوجي قوي بالإسلام الشيعي، وبرغم رفعها شارات التبعية لولاية الفقيه، إلا أنها لم تسع لذلك بعد في لبنان، وتعمل كما هي وفق إطار ديموقراطي في المحاصصة اللبنانية الممتدة منذ عام 1989، وقوات الحشد الشعبي كذلك، هي مجموعات شبه عسكرية في العراق تشكلت لمحاربة تنظيمات داعش والقاعدة منذ اشتعال الفتنة الطائفية العراقية بين عامي 2014- 2017، والحشد الشعبي هو مجموعة كتائب وأحزاب متحالفة أيديولوجيًا مع إيران، وهي جزء من العملية الديمقراطية العراقية ومن قوات الجيش العراقي المعترف به محليًا، لذلك فالحكومة العراقية معترفة بالحشد الشعبي كتنظيم وطني، بينما يعتبره خصوم إيران تنظيمًا إرهابيًا.
أما بالنسبة لجماعة الحوثيين أو أنصار الله في اليمن؛ فهي تختلف كثيرًا عن شعارات ومبادئ حزب الله والحشد؛ حيث يقوم الحوثي على مبادئ مختلطة تجمع ما بين القومية والدين بكافة تفرعاتها؛ فمن الجانب القومي العشائري يرفع الحوثيون مبادئ القومية العربية، وأنهم جزء من العرب؛ بل هم أصل العرب، باعتبار أن أهل اليمن هم العرب الأقحاح العاربة من ولد قحطان، ومن الجانب القومي الإسلامي يرفع الحوثيون مبادئ حكم الشريعة الإسلامية، والتي وفقًا لمذهبهم الزيدي هي خليط من اجتهادات معظم المذاهب الإسلامية؛ حيث يعد المذهب الزيدي المنتمي له الحوثيون هو أقرب المذاهب السنية للشيعة، وأقرب المذاهب الشيعية للسنة، ويأخذون كثيرًا من المعتزلة باعتبار الزيدية هي أقرب المذاهب الإسلامية للمعتزلة.
إلا أن دعم إيران للحوثيين وضع الحوثي في موضع جبهة إيران سياسيًا، وبرغم نفي زعماء الحوثيين هذه التبعية وتفسيرها بأنها تعاون وتحالف، إلا أن هذا الشكل من التعاون جرى تفسيره بشكل عدائي ضد المملكة العربية السعودية، وهي من أكبر وأهم دول العالم السني، ولأن التبعية مختلف عليها ظهرت تفسيرات ترى أن هذه العلاقة تحالف من دون اصطفاف، وتفسيرات أخرى بأن إيران فقدت قدرتها بالسيطرة على الحوثيين، وقد اجتهد بعض المحللين في رصد هذه الفوارق بين الجماعات الشيعية؛ فقال بعضهم إن الحوثي ليس كحزب الله، في إشارة إلى اختلافات جذرية وفرعية بين التجربتين، وخصوصية كل تجربة عن أخرى تعطيها ثقلاً سياسيًا واجتماعيًا في الإطار الإقليمي.
ومعنى ما سبق أن الحوثيين يشبهون كثيرًا التيار الصدري في العراق بقيادة مقتدى الصدر؛ حيث يجمع الصدريون بين العشيرة والدين، مع مركزية الفرد المعاصر والإمام الذي يجمع بين فقه الدين والدنيا، مع التركيز على القومية العربية، والقومية الشيعية الشعبوية والعدالة الاجتماعية، وتراوحت نشاطاته بين المشاركة السياسية والمقاومة المسلحة ضد النفوذ الأجنبي، والسياسات الطائفية؛ سواء أكانت بالفعل أو رد الفعل، وهذه هي نقطة الخلاف الكبرى بين الحوثي وحزب الله؛ حيث لا يؤمن الحوثي بولاية الفقيه، ويرى أن مبدأ المقاومة يتجلى في جوهره بطرد النفوذ الأجنبي في بلاده بالمقام الأول، وطرد النفوذ الأجنبي من الوطن العربي في المقام الثاني.
وتلعب الاختلافات بين الإسلام السياسي السني والشيعي أيضًا دورًا أساسيًا في السياسة الإقليمية؛ فكثيرًا ما تتشكل التحالفات والعداوات على أسس طائفية؛ ما يؤدي إلى صراعات مثل المملكة العربية السعودية (السنية) ضد إيران (الشيعية)، وهما قوتان إقليميتان مهيمنتان، كانت حرب اليمن أو عاصفة الحزم أحد أبرز تجلياتها، والتي اشتعلت منذ عام 2015 حتى اليوم، وغالبًا ما تكونان على خلاف في صراعات مختلفة في الشرق الأوسط، جرى الاتفاق بينهما منذ عام ونيف برعاية صينية، إضافة للحرب الأهلية في سوريا، وهي تفاعل معقد بين فصائل سنية وشيعية وصراع أهلي مذهبي وديني حدث منذ عام 2011 ومستمر حتى اليوم بفعل عدة عوامل؛ منها حصول نظام بشار الأسد على دعم طوائف العلويين والشيعة، إضافة للدعم من إيران وحزب الله، إضافة لحصول جماعات السنة على دعم دول الخليج أبرزهم السعودية وقطر.
مقارنة فكرية لاهوتية
في حين أن كلتا الطائفتين تشتركان في المعتقدات الأساسية الإسلامية؛ مثل التوحيد والنبوة والميعاد والبعث والجنة والنار..إلخ؛ فإن تفسيراتهما تختلف بفعل السياسة، ثم امتد ذلك لطريقة تناول النصوص الدينية نفسها؛ حيث تمثل سلطة النص عند الإسلام السني مرجعية القرآن والسنة بوصفهما (تقاليد النبي)، في حين أن يدمج الإسلام الشيعي تعاليم الأئمة، ومنها مفهوم الإمامة وعصمتهم في العقيدة الشيعية، وهي عقائد تعتبر الأئمة الاثني عشر قادة معصومين من الخطأ يتمتعون بالهداية الإلهية، بينما يعتبر أهل السنة قادة الخلافة قابلين للخطأ نظريًا، لكن فعليًا ومع رسوخ مفاهيم مثل “حراسة الدين والعقيدة” وإسقاطها على السياسة، حصل الخليفة على سلطة إلهية تجعله حارسًا للدين والعقيدة، وبالتالي لا يمكن مراجعته أو محاسبته.
وقد تقررت هذه المفاهيم في كتب السياسة الشرعية السنية؛ مثل “الأحكام السلطانية” للماوردي وأبي يعلى الفراء الحنبلي، وكتب السياسة الشرعية لابن تيمية الحراني وابن قيم الجوزية، ثم صارت هذه المفاهيم جزءًا لا يتجزأ من معتقدات الإسلام السني الحديث، وهي تشبه إلى حد كبير معتقد عصمة الإمام ونطقه بالحق الإلهي عند جماعات الشيعة، وقد ترجمها العديد من كبار ورموز الإسلام السياسي السني مثل سيد قطب وأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي في مصطلح جديد، وهو “الحاكمية”.
ومن خلال هذا التقرير حصل سيد قطب والمودودي والندوي عند جماعات السنة، على المكانة نفسها التي حصل عليها آية الله الخميني، باختلاف بسيط؛ حيث دمج المفكرون الشيعة المعاصرون أمثال علي شريعتي ومحمد باقر الصدر المبادئ الإسلامية مع العدالة الاجتماعية وعلم اللاهوت، مؤكدين على المقاومة ضد الظلم واستدعاء ثورة الحسين كرمز ومصدر إلهام دائم، جعل من جماعات الشيعة أكثر تمردًا على الوضع السائد من جماعات السنة التي تميل في معظمها لمبدأ “طاعة الحاكم”، الذي أقرته مبادئ كتب السياسة الشرعية السنية، باعتبار أن الخروج على الحاكم يماثل في مضمونه الخروج على الدين، باعتبار ما سوف يؤدي إليه ذلك الخروج من فوضى مدمرة وقتل عبثي وحشي، كان ينتبه إليه فقهاء السياسة الشرعية السنية.
لذلك فهناك وحدة شيعية وجدانية داخل المذهب الاثني عشري نظرًا لوحدة المصدر، وهو ما يفسر عدم اختلاف الجماعات الشيعية السياسية بنفس الشكل الذي يعاني منه نظراؤهم من السن
ويظهر هذا التأثير من خلال الطقوس؛ حيث تميل الطقوس السنية للعمل الجماعي المؤيد للإمام والسلطة، مثل الصلاة الجماعية وتعظيم مبدأ الإجماع الفقهي والمجتمعي، مما يعزز رأي الأغلبية ويجعله أكثر رسوخًا، ولأن السنة في معظم أدوارهم التاريخية كانوا حكامًا للعالم الإسلامي؛ فحصلت الشخصية السنية على ميول سلطوية، وميراث من خلاله نظروا لكل معارض سياسي وديني على أنه دعاية للفوضى والتخريب، وتهديد صريح للاستقرار.
بينما تميل الطقوس الشيعية للتمرد والرفض، مثل إحياء ذكرى عاشوراء وأحداثها بالتفصيل؛ حيث تعمل هذه الطقوس على تعميق الشعور بالشهادة والظلم الناجم عن المظالم التاريخية، مما يؤثر على الهوية السياسية المتجذرة في المقاومة، واعتبار أن فكرة المقاومة هي التي تليق بالمسلم لا فكرة السلطة والهيمنة، وقد تجلى ذلك المعتقد في قول آية الله علي خامنئي: “لا ينبغي للباحث عن الحقيقة أن يتردد أبدًا في الوقوف إلى جانب العدالة، بغض النظر عن الرجل أو المجموعة التي تنتمي إليها”. وقد ساعد على رسوخ ذلك عند جماعات الشيعة، ميراث الإيرانيين وتاريخهم الذي كانوا فيه بصورة المقاوم للهيمنة السنية ممثلة في دولتهم الصفوية ضد العثمانيين، وللهيمنة الرومية المسيحية ممثلة في دولتهم الساسانية ضد الإمبراطورية البيزنطية القديمة، وحاليًا في دولتهم إيران ضد الهيمنة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة.
مقارنة فلسفية
أما عند الجماعات السنية فمصادر الدين أربعة؛ هي القرآن والسنة والإجماع والقياس، ومن خلالها يجري استنباط الأحكام الشرعية والعقائدية والسياسية والفقهية، ومن خلال ذلك يجري تفسير هذه المصادر بأربعة مذاهب فقهية رئيسية: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، والتي تختلف في مناهجها بشكل كبير في الفقه، ولكنها تعتمد في مجملها على القرآن والسنة كنصوص أساسية وفقًا لفهمهم النسبي لتلك النصوص.
هذا المنهج السني خلق شرخًا ليس بسيطًا بين الجماعات السنية المختلفة، لأن تفسير السنة لم يعد محصورًا في مذهب واحد أو فقيه واحد؛ بل في مجموعة نصوص وتأويلات ورؤى تخضع للتأثير السياسي والاجتماعي الثابت في نصوص الحديث والتفسير باعتبارها الشارحة والمهيمنة على نصوص القرآن وفقًا لجمهور السنة، لكن تظل معظم هذه التأويلات خاضعة (للنزعة السلطوية السنية) التي ميزت مذهب السنة منذ حكم الخلفاء الأربعة في القرن السابع مرورًا بالفتنة الكبرى وعام الجماعة، حتى سقوط الدولة العثمانية في القرن الـ 20، وهذه النزعة السلطوية هي مصدر غضب السنة (عوام وفقهاء وقادة) من أي ظهور شيعي باعتباره مصدر تهديد، أو بعبارة أخرى؛ فالهيمنة السنية تخشى من أي تنافس شيعيًا ينزع منها تلك الهيمنة الموروثة طوال قرون، وفي حال أي ظهور شيعي نلحظ عنفًا كبيرًا وصراعًا لتثبيت الوضع القائم وعدم تغييره.
ويمكن ملاحظة تأثير هذه النزعة السلطوية عند السنة في سرعة انشقاق وافتراق جماعات الإسلام السياسي السني؛ حيث يعتقد كل منهم بأحقيته في احتكار المذهب السني والحديث باسمه طبقًا للمرويات الشهيرة، أبرزها حديث “افترقت أمتي إلى 73 فرقة كلها في النار عدا واحدة”، وقد ساهم غياب العقل النقدي عند السنة بالخصوص، والمسلمين بالعموم في قبول هذا الحديث وإسقاطه على كل مختلف بالرأي، ومن ثم صار أي اختلاف –ولو بسيط– بين الإسلام السياسي السني يجري تفسيره وفقًا لمركزية هذا الحديث والمعتقدات المرتبطة به، مثل الولاء والبراء وأحكام الردة ودور الحرب وغيرها.
على جانب آخر أعطى هذا الافتراق ميزة لجماعات الإسلام السياسي السني؛ فغالبًا ما يتماشى هذا الافتراق -الذي يجري تناوله كحالة افتراضية وفقًا لسياق براجماتي- مع فهم أكثر تعددية للحكم، ومن ثم تميل بعض الجماعات السنية إلى الديمقراطية والنشاط السياسي الحديث، كما هو الحال في بلدان مثل تونس والمغرب وتركيا ومصر قبل ثورة يونيو 2013؛ حيث تستمد هذه الأحزاب السياسية مبادئها من الإسلام، ولكنها تعمل في إطار ديمقراطي وفقًا لتفسير معين يجيز لهم العمل الديمقراطي مع مرجعية دينية، وقد نشط في هذا المضمار مفكرو وفقهاء الإخوان المسلمين حتى عام 2011 بتقديم مشروع الجماعة بعبارة “دولة مدنية بمرجعية إسلامية”، لأنه وبعد هذا التاريخ اختلف الإخوان بشكل كبير، وانقلبوا على الشق الأول المدني لصالح إبراز الشق الثاني الإسلامي بتصرف يوحي بالتعارض بين الاثنين، وهو الأمر الذي أدى لانقلاب الدولة المصرية عليهم بالتوازي مع قربهم الشديد من الجهاديين.
أما جماعات الإسلام السياسي الشيعي فعلى النقيض من ذلك؛ حيث يضع الشيعة ثقلًا كبيرًا على سلطة الأئمة من آل البيت، ويرى اللاهوت الشيعي هؤلاء الأئمة الاثني عشر كمرشدين معصومين من الخطأ، وهم الأحق بالتقليد من المذاهب، لذلك فهناك وحدة شيعية وجدانية داخل المذهب الاثني عشري نظرًا لوحدة المصدر، وهو ما يفسر عدم اختلاف الجماعات الشيعية السياسية بنفس الشكل الذي يعاني منه نظراؤهم من السنة.
إضافة لعدم مركزية نصوص الحديث والتفاسير في المذهب الشيعي؛ فهم يقلدون الإمام الحي واجتهادات الحوزة العلمية أكثر من الفقهاء الأموات، وفي ظل إيمان الحوزة بالأئمة وعصمتهم، يجري الحديث دائمًا عن معتقد واحد صادر من الأئمة بخط واحد ومنهج واحد، هو الذي أسس لاحقًا لظهور المذهب الأصولي الشيعي كرد فعل وإنكار وتمرد على المذهب الإخباري الشيعي؛ ففي حين يؤمن الثاني بحجية تلك النصوص الحديثية ويراها ممثلة لمذهب آل البيت، يرى الأول –الأصوليون– بأن الاجتهاد في المرتبة الأولى وفقًا لثنائية “العقل والنص”، وهي منهجية قريبة من فكر الأشاعرة السني مع زيادات شيعية بحجية الاجتهاد المعاصر ووجوب تقليد الأحياء، خلافًا للفكر الأشعري الذي يضع –كسائر السنة– وجوب التقليد من الأقدم إلى الأحدث، والقول بأفضلية أهل القرون الثلاثة الأولى.
وهذه النقطة الخلافية الكبيرة بين السنة والشيعة تُرجمت في عقائد الإسلاميين من كلا المذهبين؛ فإسلاميو السنة يقلدون الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وكبار مجتهدي المذهب، وهؤلاء ماتوا منذ قرون، بينما إسلاميو الشيعة يقلدون فقهاء الحوزة العلمية في تفسيراتهم لمذهب آل البيت الموروث بالتواتر النصي والعملي، لذا فإسلاميو السنة يعانون من فراغ معرفي كبير ناتج عن عدم صلاحية مشروعهم السياسي القائم على تقليد الأموات القدماء للعصر الحديث، وعدم مناسبة هذا المشروع للتحديات والأوضاع الجديدة، بينما إسلاميو الشيعة فلديهم قبول للوضع الجديد بمجرد القول بوجوب تقليد الحي، الذي يعني قابلية أفكار هذا الإمام الحي لمستجدات العصر والتصرف وفقًا لهذه المستجدات، دون النظر لمناهج القدماء.
أضيف أن الفكر الشيعي يُركز على العدالة ودور الإمام باعتباره سلطة أخلاقية وروحية في المقام الأول، وهو ما يؤدي إلى موقف سياسي موحد نلحظه في التعاون والتحالف الوثيق بين جماعات الإسلام السياسي الشيعي، مثلما هو الحال في لبنان والعراق وسوريا وإيران، ويشكل التركيز الفلسفي الشيعي على العدالة وتشكيل حركات تتحدى الأنظمة الكبرى المهيمنة، مما يوفر ضرورة أخلاقية للنشاط السياسي وإعطاء مشروعية دينية أخلاقية مزدوجة لتطوير هذا النشاط، وفي سياق آخر ترجمته لعمل مقاوم ضد الهيمنة الأجنبية في الشرق الأوسط.
إن فهم الاختلافات بين الجماعات الإسلامية السياسية السنية والشيعية، وتوضيح الفروقات بينهم أمر ضروري للغاية، بغرض فهم أكثر دقة للمشهد السياسي المعاصر
وأسلوبهم في تطبيق ذلك في تبني إطار أكثر ثيوقراطية خلافًا لجماعات السنة؛ فعلى سبيل المثال أسست الثورة الإيرانية عام 1979 نموذجًا للحكم يُعرف باسم ولاية الفقيه، والذي يؤكد على السلطة الدينية والحكم الديني لإمام فقيه لديه رتبة من الحوزة العلمية، وهذا التشابك بين السياسة والزعامة الدينية هو الذي أسس عقلية الإسلاميين الشيعة في كثير من البلدان، كالحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان، مع حفظ الفوارق المذكورة سابقًا بتصرف هذه الأحزاب وفقًا للمحاصصة الطائفية في بلدانهم، نظرًا للتنوع الديني والعرقي والسياسي الكبير واختلاف بيئة مجتمعهم عن البيئة الإيرانية.
إضافة للتأثير الإيراني على تلك الجماعات الشيعية التي ورثت عقلية الفرس والساسانيين القدماء في تحدي القوى العظمى المهيمنة؛ فالإيرانيون متأثرون بعقيدة “الظلام والنور”، وهي الثنائية المميزة للفكر الزرادشتي؛ حيث وبانبثاق النورعن الظلام، واعتبار أن النور إصلاح والظلام سائد مطلوب تغييره، رأينا إيران قدمت نفسها في صورة المكافح للسائد الأقوى منذ العصرين الإخميني والساساني، مرورًا بالصفوي حتى ولاية الفقيه؛ فالفرس كانوا يقاومون هيمنة وإمبريالية الروم وتوجههم الاستيطاني، ورأينا ذلك أنه وفي ظل تنافس الفرس مع الروم في عديد من البلدان –كمصر–، لم يلحظ توجهًا استيطانيًا فارسيًا، لكن هذا الاستيطان ثابت في تاريخ الاحتلال الروماني لمصر.
مع تأثيرات عقائدية شيعية كثورة الحسين، رأينا أن الإسلام السياسي الشيعي وضع أعداءه بوضوح، وهم القوى العظمى المهيمنة على العالم تأثرًا بالفكر الإيراني، إضافة للقوى السنية الأموية التي ظلمت الحسين في السابق وآل بيته في اللاحق، وأبرز هذه القوى الأموية حاليًا هم الوهابيون، الذين يراهم الشيعة ورثة الفكر الناصبي الأموي الذي عادى وقتل أتباع آل البيت منذ اغتيال الإمام علي بن أبي طالب، ومن خلال هذا المعتقد الشيعي لم ترفع جماعات إسلامهم السياسي دولة الشريعة كهدف وغاية؛ إنما يربطون هذه الدولة بظهور المهدي الغائب، والذين يقولون بولاية الفقيه يربطون هذه الدولة بتوافق وطني أو ظهور شيعي يحقق لهم أغلبية شعبية كاسحة.
على جانب آخر، أدت هذه الوحدة الشيعية لمشكلة يعاني منها إسلاميو الشيعة، لكنها غير موجودة عند بعض السنة؛ حيث وبرغم ديناميكية الشيعة في تقليد الحي، لكنهم يدخلون البرلمانات الحديثة ويؤمنون بالدساتير والعملية الديمقراطية، وفي ذات الوقت يقولون بحجية تقليد الأئمة الذين لم يعرفوا هذا الشكل من الممارسة السياسية؛ فحدث فراغ كبير أنتج معظم إصلاحيي الشيعة في العصر الحديث، الذين رأوا في جزئية تقليد الأئمة والقول بعصمتهم شرخًا كبيرًا في مذهب آل البيت سوف يعاني منه الشيعة على مستوى الدولة.
بينما عند بعض جماعات السنة فالديمقراطية لديهم جائزة لكونها شكلاً من أشكال الشورى، وحجية رأي الجمهور في اختيار قادته بالمبايعة، بينما هذا الحق غير متوفر للشيعي لكون الإمام القائد منصوص عليه في الدين، ولا مبايعة له على الإطلاق، وقد أدت هذه المفارقة لضعف بعض جماعات الإسلام السياسي الشيعي بترويج خطابين مختلفين، الأول للجمهور الشيعي يلتزمون فيه بدعوة آل البيت، والثاني لغير الشيعة على مستوى الدولة والعالم يلتزمون فيه بمقررات الدولة الحديثة والانتخاب والفصل بين السلطات؛ فصارت أي مادة دينية لدى جماعات الشيعة يروجون فيها للثيوقراطية مطعنًا لدى خصومهم، وفرصة للتشهير إذا لزم الأمر.
خاتمة
إن فهم الاختلافات بين الجماعات الإسلامية السياسية السنية والشيعية، وتوضيح الفروقات بينهم أمر ضروري للغاية، بغرض فهم أكثر دقة للمشهد السياسي المعاصر، ومع استمرار تطور هذه الجماعات والأحداث المفصلية؛ فإن الحكم على حاضر ومستقبل أي منهم لا يخضع بالقياس على حاضر ومستقبل الآخر؛ فلا يمكن الحكم على مستقبل حزب الله مثلاً بناء على مستقبل الإخوان أو داعش والعكس صحيح؛ فطريقة تناول كل منهم للدين والسياسة والمجتمع مختلفة، ومن ثم حاضرهم ومستقبلهم كذلك مختلف.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
سياق غير مكتمل وبالتالي نتيجته غير دقيقه
لا كامل إلا الله سبحانه ..
لا أخفيك لقد عززت في نفسي ثقة ب سلامة سابق تشخيصنا لنوع وسبب المرض الذي تعانيه الأمة اليوم ..
ألا وهو ثلاثي أبليس ومرضى القلوب (الزيغ) ومن مردو على النفاق الذي عانى منه نبينا محمد صلوات الله عليه في عهده ثم ما نتج عن ذلك التحالف (تحالف الشر) عقب وفاته صلوات ربي عليه بتعطيل وصيته بولاية الإمام علي
هذا لب المشكله اذا علمته فقد عرفت العلاج
من زاويه أخرى وبمناسبة حديثك عن انواع السياسه التي اعتمدتها من سميتهم طرفي الصراع ما بين مقاوم وسلطوي نعود قليلا للنظر و بقليل تأمل لحياة النبي رسولا وقائد ستجد أنه أنتهج سياسة التطوير السلطوي العادل والمقاومة بطبيعة الحال المقاوم لذلك الثلاثي معا مرجعه في ذلك كتاب الله وواقع الحال لذلك استقر حال الأمة في عهده نسبيا حتى يوم الرزيه بدأت بالظهور.
نستنتج من ذلك أن لا علاج لهذه الأمة إلا من خلال دولة تنهج بتلك السياسه
وبقليل تأمل في لما جاء في وصية النبي يوم غدير خم ليوم ما بعد وفاته ندرك ما أدركة النبي بنفسه بأنه لم يفهم تلك السياسة ويستوعبها ويحيط بواقع حال الدولة الإسلامية في ذلك الوقت سوى الإمام علي والمنتجبين من أصحابه لهذا كانت وصية النبي صلوات الله عليه
ما بعده من فتن وما حصل من تعطيل لكتاب الله ماهو الا حاصل وثمرة جهد ذينك الثلاثي المستمر مع تعديل بسيط تشكل بمرور الازمنه المتعاقبة وهو تطور عملهم وتوسعه ليشمل إستعانة إبليس بجند وأعوان مع زيادة في براعة وقدرات المنافقين ورسوخ عقيدة مرضى القلوب في أذهان العامة .
Sky Scarlet Good post! We will be linking to this particularly great post on our site. Keep up the great writing
SocialMediaGirls There is definately a lot to find out about this subject. I like all the points you made
you are truly a just right webmaster The site loading speed is incredible It kind of feels that youre doing any distinctive trick In addition The contents are masterwork you have done a great activity in this matter