أنجز هذا التحقيق بدعم من أريج
الحكومة المصرية تتوسع في إنشاء الطرق والكباري داخل نطاق القاهرة الكبرى، وتتجاهل توصيات دولية بالاستثمار في شبكة النقل الجماعي؛ من أجل تخفيف حدة الزحام المروري بالقاهرة الكبرى، ما تسبب في إهدار ملايين الدولارات من دون معالجة الأزمة، بالإضافة إلى توجيه مشروعات الطرق والكباري لخدمة العاصمة الجديدة فقط.
“بناء المزيد من الطرقات والجسور، لن يحل مشكلة الزحام المروري في القاهرة الكبرى”، هذا ما أكدته دراسة أجراها البنك الدولي، عن زحمة السير في العاصمة المصرية. فلا يمكن لمدينة بحجم القاهرة أن تسير فيها حياة السكان بشكل مناسب، من دون شبكة نقل جماعي فعالة، وهو ما عدّته الدراسة -التي نُشرت في أيار/مايو 2014- ضرورة قصوى، وحذرت من تداعيات سلبية على نوعية الحياة والاقتصاد بسبب الزحام المروري، الذي قُدرت خسائره آنذاك بـثمانية مليارات دولار سنوياً؛ خاصة مع الزيادة السكانية التي تفاقم المشكلة.
وتضم القاهرة الكبرى محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية، ويبلغ عدد سكانها نحو 26 مليون نسمة، وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء؛ ناهيك عن الآلاف من رواد محافظتي القاهرة والجيزة، من مختلف محافظات مصر، الذين يترددون على الوزارات والمصالح الحكومية يومياً، ما يزيد من حالة الاختناق المروري، ويؤدي إلى زيادة الضغط على المحاور والطرق كافة، داخل القاهرة الكبرى.
وبعد مرور ثلاثة أشهر من صدور دراسة البنك الدولي، التي أُجريت بناء على طلب الحكومة المصرية، بدأت وزارتا النقل والإسكان والهيئة الهندسية للقوات المسلحة بتنفيذ خطة شاملة لتطوير وتحديث عناصر منظومة النقل؛ تضمنت المشروع القومي للطرق بتكلفة 175 مليار جنيه (سعر صرف الدولار الواحد مقابل الجنيه حينها يتراوح بين 48 جنيهاً إلى 48.50)، لإنشاء طرق جديدة بطول سبعة آلاف كيلومتر، بالإضافة إلى تطوير عشرة آلاف كيلومتر من شبكة الطرق القديمة؛ بتكلفة مالية بلغت نحو 130 مليار جنيه، بحسب ما أعلنت وزارة النقل في منتصف عام 2024.
“تأكيد وتحذير وضرورة”؛ ثلاثية نصت عليها دراسة البنك الدولي، ووضعتها ضمن الإجراءات اللازمة لمعالجة الزحام المروري بالقاهرة الكبرى؛ فأكدت أن بناء الطرق والكباري لن يحل المشكلة، وحذرت من تفاقمها مع استمرار الزيادة السكانية، وطالبت بضرورة التوسع في شبكة النقل الجماعي، بما يتماشى مع مدينة بحجم القاهرة.
لكنّ أولويات الحكومات المتعاقبة خلال العقد الأخير (2014 – 2024)، كانت عكس ذلك، فشهدت القاهرة توسعات غير مسبوقة في بناء الطرق والكباري؛ ما تسبب في تغيير الخصائص الديموغرافية للمناطق السكانية المتباينة (راقية وفقيرة)، كما أن التوسع في شبكات النقل الجماعي لم يستهدف مناطق العمران القديمة، المكتظة بالسكان، والتي تعاني بالأساس سوء ونقص وسائل النقل الجماعي. في المقابل، حظيت مناطق العمران في الظهير الصحراوي، وتحديداً العاصمة الإدارية وبعض المدن الجديدة، بتوسعات في شبكات النقل الجماعي، بصرف النظر عن جدواها، لخدمة أهداف سياسية ومشروعات حكومية استثمارية.
حظيت محافظات إقليم القاهرة الكبرى بمئات المحاور والطرق والكباري، ضمن المشروع القومي للطرق؛ كان نصيب القاهرة 349 مشروعاً، بتكلفة 37 ملياراً و179 مليون جنيه، وفي الجيزة شُيّد 11 محوراً مرورياً، أما في القليوبية أُنشئت عدة محاور وطرق مرورية؛ أبرزها محور اللواء العصار، ومحور شركات البترول، بخلاف تطوير آلاف الكيلومترات من الطرق والمحاور القديمة، ورفع كفاءتها الاستيعابية في أغلب مناطق الإقليم المركزي.
بالتزامن مع المشروع القومي للطرق، توسّعت الدولة في تنفيذ مشروع قومي آخر للإسكان. لم يقتصر نصيب القاهرة الكبرى على الظهير الصحراوي الذي تتمدد فيه المدن الجديدة شرقاً وغرباً، بل أُنشئت بنايات جديدة بمناطق العمران القائمة داخل “العاصمة القديمة” وسط القاهرة، فشُيّدت فيها مشروعات سكنية حكومية بالشراكة مع القطاع الخاص، يصل ارتفاع بعض بناياتها إلى 30 طابقاً، كما حدث في أبراج النيل بمنطقة ماسبيرو.
تنخفض هذه الارتفاعات إلى 10 و12 طابقاً في مناطق الفسطاط والمقطم (الأسمرات) والسلام (أهالينا)، وتقل أكثر في القاهرة التاريخية؛ حيث أقيمت تجمعات سكنية فاخرة على أنقاض مناطق سكنية غير آمنة، كما صنفتها تقارير حكومية، كتلك “الكمبوندات” بمنطقتي سور مجرى العيون (كمبوند أرابيسك)، والفسطاط (كمبوند الفسطاط فيو).
بطول 106 كيلومترات، وبتكلفة تجاوزت سبعة مليارات جنيه، طوّرت الحكومة المصرية الطريق الدائري، الذي يربط مناطق العمران القديمة بالقاهرة الكبرى؛ فهَدمت في سبيل ذلك ألفي عقار مجاور للطريق، لتحقيق السيولة المرورية المطلوبة، وهو ما روّجت له الحكومة في مواد مصوّرة لحركة المرور على الطريق الدائري.
سامح منصور، أحد سائقي السيارات الأجرة على الطريق الدائري، يقول إن المشروع خفّف من حدة الازدحام المروري، باستثناء بعض المناطق التي تشهد زحاماً مرورياً في أوقات الذروة؛ لكن في كل الأحوال لا يقارن بزحام ما قبل توسعة الدائري.
ما حدث من توسعة الطرق وشقّ أخرى جديدة داخل القاهرة، قال عنه الدكتور حسن الصادي، أستاذ اقتصاديات التمويل بكلية التجارة جامعة القاهرة، إن الحكومة اختارت البديل الأكثر تكلفة؛ على الرغم من أنه لا يعالج جذور المشكلة، حتى لو تحسن الوضع.
الأمر ذاته حذرت منه دراسة البنك الدولي، التي أرجعت تفاقم مشكلة زحمة السير إلى ارتفاع عدد السكان في القاهرة الكبرى، مع تأكيد أن ضرورة معالجتها ستصبح أكثر إلحاحاً، في ظل استمرار ارتفاع الزيادة السكانية.
الشوارع للسيارات لا البشر
آلاف الكيلومترات من الطرق الجديدة والمطوّرة، رسمت خريطة متباينة لهوية الأحياء والمناطق السكنية المميزة في مدن القاهرة الكبرى وضواحيها؛ سواء كانت مناطق راقية يسكنها الأغنياء، أو مناطق شعبية تتعايش فيها فئات الطبقة المتوسطة، أو أحياء فقيرة تتزاحم داخلها الطبقات الكادحة؛ فالتغيير لم يفرق بينها، لكن تأثر كل منها كان نسبياً ومختلفاً عن الأخرى.
سليمان عبد القادر، المقيم بمنطقة العمرانية جنوب القاهرة، واحد من بين 70 في المئة من المصريين الذين يعتمدون على المواصلات العامة في تحركاتهم وانتقالاتهم اليومية. جاء قبل 20 عاماً من إحدى قرى محافظة قنا بصعيد مصر، التي تبعد عن القاهرة مسافة تتجاوز 500 كيلومتر، للبحث عن عمل في مجال المقاولات.
بعد سبع سنوات من عمله، استطاع سليمان شراء شقة في إحدى البنايات بالقرب من الطريق الدائري، يضيف قائلاً: “أنا بحمد ربنا إن الشقة لم تُطل على الدائري، كانت طالتها التوسعات التي حدثت في محيط الدائري”.
ويضطر يومياً، منذ عام ونصف، إلى عبور الطريق الدائري، من أجل استقلال وسيلة مواصلات؛ بعد هدم السلالم التي كان يستخدمها أهالي المناطق المطلة على الدائري، للصعود إلى الطريق.
حالة سليمان ليست حالة فردية، بل ظاهرة يومية، خاصة في ساعات الذروة الصباحية والمسائية؛ حيث يَعبر العشرات بين الحين والآخر ثماني حارات مرورية وسط السيارات، التي تتزايد سرعتها كلما خفّ الزحام، بسبب قلة الأماكن المخصصة لعبور المشاة، كما وثّقتها الصور في أوقات مختلفة.
ومع المخاطرة بعبور الطريق السريع، يسقط العديد من الضحايا، صادف حدوث ذلك أكثر من مرة شهدها سليمان بنفسه، يضيف قائلاً: “حصلت مرة عربية خبطت واحد في كتفه، وسقط في نص الطريق، لولا ربنا ستر وشلناه”.
تمثل الوفيات بين المشاة ثلث الوفيات الناجمة عن حوادث الطرق في مصر؛ وهو ما يعني أن 700 شخص يلقون حتفهم كل عام أثناء عبورهم الطريق أو الشارع في القاهرة وحدها.
تصميم الطرق يُعدّ الجاني الرئيسي في حوادث المشاة، كما يشير الباحث العمراني يحيى شوكت، مُرجعاً السبب إلى أن الطرق الجديدة تستهدف تسهيل حركة المركبات على حساب المشاة، بالإضافة إلى محدودية أماكن عبور المشاة وإشارات المرور في الطرق الداخلية.
ويقول الباحث يحيى شوكت إن إحصائية للبنك الدولي، أكدت أن 97 في المئة من شوارع مصر تفتقر إلى إشارات المرور، وتنخفض النسبة إلى 78 في المئة بالنسبة لممرات المشاة.
كيف غيّرت شبكة الطرق القاهرة ديمغرافياً؟
التأثير الذي وقع على أسرة سليمان عبدالقادر، لم يقتصر على المعاناة اليومية في عبور الطريق الدائري؛ لأن “محور كمال عامر”، المُشيَّد أمام العقار الذي تقيم فيه أسرته، قد شطر المنطقة إلى نصفين، وفصل بين سكانها الذين تربطهم روابط اجتماعية وإنسانية؛ حيث أصبح الذهاب إلى منزل أهل زوجة سليمان يحتاج إلى وسيلة مواصلات، بعد أن كان يفصلهما شارع ترعة الزمر فقط.
وفي الوقت الذي تنظم فيه خدمة مرورية حركة السير أعلى المحور، لا يخضع شارع ترعة الزمر لأى تنظيم مروري؛ إذ اكتفت الأجهزة التنفيذية بلوحات إرشادية تحدّد اتجاهات المرور، وغالباً لا يلتزم بها سائقو المركبات.
تعاملت الحكومة مع تطوير المناطق المحيطة بالطرق من منظور آخر، فإذا كنت تسير بسيارتك فوق الطريق الدائري، ستلفت انتباهك جداريات فرعونية، تعلو بنايات مُختلفة أشكالها وأطوالها وألوانها، ولافتات إعلانية وشاشات عرض، ترسم الإضاءة شكلاً مميزاً وفريداً لتفاصيلها، كما رصدناها بداية طريق الأتوستراد، وحتى محور المريوطية.
في المقابل، إذا كنت تسير في الطريق أو الاتجاه نفسه، لكن أسفل الدائري، أو تقطن بإحدى المناطق المتراصّة على جانبيه؛ سترى مشهداً مغايراً تماماً، فتلال القمامة وأكوام مخلفات البناء وبرك المياه الراكدة، تمتد على جنبات ووسط الشوارع والطرقات.
مصر الجديدة تتحول إلى ممر للعاصمة الإدارية
وفي مصر الجديدة، حلّت طبقات الأسفلت مكان المساحات الخضراء، في المناطق التي خضعت للتطوير؛ لتتحول الشوارع الهادئة التي لا يتجاوز عرضها حارتين مروريتين، وترسم حدودها الأشجار، إلى طريق حر بعرض خمس حارات مرورية، بعد اقتلاع أشجار الحي “المعمّرة”.
ورغم اعتراض أهالي الحي على ما سمّته الحكومة “تطويراً”، لم تحدث أيّ استجابة أو تغيير لما بدأت الأجهزة الحكومية بتنفيذه، بل تجاهلت كل الأصوات التي طالبت بمراعاة الهوية المعمارية للحي، الذي يتجاوز عمره مئة عام.
ورغم أن الكود المصرى لأعمال الطرق الحضرية والخلوية ينص على “عدم تشجيع مدّ الطريق داخل المناطق السكنية، واتخاذ الإجراءات الهندسية لتقليل تلوث الهواء والضوضاء بها”، فإن أعمال توسعة الشوارع وإنشاء الكباري والطرق الجديدة، كانت سبباً في إزالة أكثر من 96 فداناً من المساحات الخضراء، بحي مصر الجديدة.
يقول الدكتور على عبد الرؤوف، المتخصص في التخطيط والعمران، إن شوارع مصر الجديدة كانت أشبه بأماكن مفتوحة، يقصدها المشاة من قاطني الحي الراقي وسكان غيره من المناطق الأخرى في القاهرة الكبرى، موضحاً أن ما تسميه الحكومة ومؤسساتها تطويراً، قد مزّق القاهرة وأحياءها، وجعل مصر الجديدة ممرات مرورية، تربط منطقة وسط البلد، “قلب العاصمة القديمة القاهرة”، بالعاصمة الإدارية الجديدة.
ووجّه الرئيس السيسي رسالة إلى منتقدي مشروعات الطرق قائلاً: “حاسبوا الدكتور مصطفي مدبولي، المسؤول عن وضع خطط التطوير العمراني لمصر”، في إشارة إلى الفترة التي تولّى فيها “مدبولي” هيئة التخطيط العمراني.
الشوارع والطرق.. خلط دائم
فرّق برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في المنطقة العربية “موئل الأمم المتحدة”، بين طبيعة الشوارع والطرق: “الشوارع روابط داخل المدن، بينما الطرق تربط بين المدن”.
وتوضح الباحثتان هبـة قرشـي، ونـدى عبـد الحـي، ماهية الطرق والشوارع، ومواصفات كل منها؛ فالطرق تربط بين وجهتين محددتين من بلدة أو مدينة لأخرى، وعادة ما تُصنّف وطنية أو إقليمية، وتشير إلى بنية أساسية مادية. أما الشوارع، فتشير إلـى الطـرق العامـة داخـل البلـدات والمـدن، وفق الورقة البحثية التي نُشرت بعنوان “طرق تشمل الجميع.. إعادة النظر في تصميم شوارعنا”.
فـي الفتـرة مـن 2003 إلـى 2013، كان متوسط عـرض الشـوارع فـي القاهـرة 9.5 متـر، وفقاً لأطلس التوسع العمراني، ووفق الدراسة التي أجراها مشروع حلول للسياسات البديلة، فإن هـذا الرقـم أكبر نسبياً من المدن الأكثر نمواً، مثل لندن (7.54 متـر)، وأعلى مـن المتوسط العالمي (7.4 متـر).
ووفق الباحثتين، فإن الشارع “المثالي” يُعدّ كياناً عاماً مشتركاً، يناسب مختلف المستخدمين في بنائه وتنظيمه ووظائفه، ولا يقتصر على حركة السيارات فقط.
"المـدن التـي فشلت فـي إدمـاج الوظائـف المتعددة للشـوارع، تميـل إلـى تسـجيل مسـتويات أقـل فـي تطويـر البنيـة الأساسيـة والإنتاجية وجــودة الحيــاة".
برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (موئل الأمم المتحدة)
عملية توسعة الطرق شرق القاهرة، وإنشاء محاور جديدة، ألغت وظيفة الشوارع التي تمّ تطويرها داخل حي مصر الجديدة؛ حيث تحولت إلى محاور مرورية وطرق حرة من دون تقاطعات، ولم تراعِ طبيعة المنطقة السكنية وحركة قاطنيها، لتخالف ما ينص عليه برنامج الأمم المتحدة عن طبيعة الشوارع داخل المدن.
لماذا تتزايد حوادث الطرق رغم التطوير؟
رغم تطوير البنية التحتية للطرق خلال العشر سنوات الماضية، التي كانت سبباً في تقدم مصر مئة مركز في الترتيب العالمي لمؤشر جودة الطرق، بحسب مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، فإن معدل حوادث الطرق لا يزال مرتفعاً؛ فسجلت أعداد المصابين في حوادث الطرق زيادة تقدر بنحو 27 في المئة، خلال عام 2023، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
تسلسل زمني لحوادث الطرق خلال العقد الأخير (2024-2014)
يظهر تحليل البيانات الحكومية أن عامي 2019 و2023، كانا الأكبر في عدد ضحايا حوادث الطرق، خلال الأعوام العشرة الماضية، وتصدرت أعداد الوفيات عامي 2021 و2022 خلال الفترة ذاتها، وتوقف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن تضمين عدد حوادث الطرق بالنشرة السنوية منذ عام 2020، بعد ارتفاع العدد عام 2019، الذي سُجلت فيه تسعة آلاف و992 حادثة، ووصل عدد ضحاياها (إصابات ووفيات) إلى 86 ألفاً و628 ضحية. المزيد من التفاصيل والحكايات عن ضحايا حوادث الطرق في تحقيق “ممرَّات موت شرقي القاهرة“.
ويرجع سبب ارتفاع عدد الحوادث، إلى وجود قصور في إدارة المرور وغياب معايير الأمان لعبور المشاة، التي تُعدّ أحد أسباب أزمة السير وحوادث الطرق، وفق البنك الدولي.
توسعة شبكة الطرق في القاهرة أسهمت في وجود سيولة مرورية، أدت إلى زيادة السرعة على الطرق؛ وتسبّبت في مزيد من الحوادث وارتفاع أعداد الضحايا، ما دفع النائب العام المصري، إلى توجيه أعضاء النيابة العامة لـما وصفه بـ “الـمجابهة الفعّالة” لجرائم تجاوز الحد الأقصى للسرعة في حوادث الطرق.
التوسع في النقل الجماعي والتجمعات السكانية.. يخدم من؟
“الاستثمار، ثم الاستثمار، والاستثمار ليس في الطرق الحضرية، لكن في شبكة النقل الجماعي”، هكذا كُتبت التوصية الأخيرة في دراسة البنك الدولي، التي أكدت أن تسيير الأعمال في إقليم القاهرة الكبرى، لا يمكن أن يتمّ من دون شبكة نقل جماعي موثوق فيها، مضيفة أن بناء المزيد من الطرق والجسور لن يحل المشكلة.
ودعمت الدراسة توصياتها بتجارب دولية في عدة مدن وعواصم؛ منها مدن “لوس أنجلوس” وهيوستن” الأمريكيتان، و”الرياض” السعودية التي أنشئت بها طرق جديدة، بهدف القضاء على الزحام المروري، لكنها اضطرت مؤخراً إلى بناء شبكات وسائل نقل عام لحل الأزمة.
وبخلاف المدن العربية والعالمية التي ذكرتها دراسة البنك الدولي، لجأت عدة دول إلى تحويل الطرق والمحاور المرورية إلى شوارع للمشاة.
تعتمد مصر على شبكة نقل جماعي عام، قوامها ثمانية آلاف و800 مركبة مملوكة لهيئات وشركات النقل العام، و88 كيلومتراً من خطوط المترو، يوجد منها ثلاثة آلاف و440 مركبة في القاهرة، حتى عام 2021، بحسب نشرة إحصاءات النقل العام للركاب، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. لكنّ هذه الشبكة لا تحقق احتياجات إقليم القاهرة الكبرى، وفقاً للدراسة التي أجراها البنك الدولي.
ماذا تغير في النقل الجماعي بعد عشر سنوات من توصيات البنك الدولي؟
بدأت الحكومة بتطوير شبكة النقل الجماعي بالقاهرة، ضمن الخطة الشاملة لتطوير قطاع النقل، بتكلفة مالية تقدر بتريليوني جنيه، خلال الفترة من 2014 إلى 2024.
ورغم أن دراسات الجهات الدولية المانحة، والمؤسسات المصرية، أكدت ضرورة التوسع والاستثمار في النقل الجماعي؛ من أجل حل أزمة السير في القاهرة الكبرى، فإن الحكومة المصرية سعت للتوسع في النقل العام، من أجل عاصمتها الإدارية الجديدة في المقام الأول، وليس من أجل القاهرة الكبرى وقاطنيها وحل أزمتها المزمنة.
القطار و المونوريل من أجل 10 في المئة من سكان القاهرة الكبرى
في أواخر 2019، بدأت وزارة النقل في مشروع مونوريل القاهرة الكبرى، بتكلفة تقدر بأربعة مليارات و500 مليون دولار أميركي. المشروع عبارة عن خطين لقطار كهربائي؛ الأول مونوريل العاصمة الإدارية، ويستغرق تنفيذه 34 شهراً، والثاني مونوريل 6 أكتوبر، ويستغرق تنفيذه 42 شهراً، بهدف الربط بين القاهرة والمناطق العمرانية الجديدة، التي لا تتجاوز الوحدات السكنية الموجودة بها 15 في المئة فقط، مقارنة بعدد الوحدات بالقاهرة الكبرى، وفقاً لإحصائيات مرصد العمران.
إنشاء المونوريل في المدن الجديدة والتوسعات العمرانية في شرق وغرب القاهرة، جاء مخالفاً للأسس التي أعلنتها وزارة النقل، من ملائمته للشوارع الضيقة والمزدحمة التي تتسم بالانحناءات، وهو ما لم يتوفر في المناطق التي نُفّذ فيها المشروع، بحسب ما انتهت إليه ورقة بحثية صادرة عن مشروع الحلول للسياسات البديلة، التابع للجامعة الأمريكية.
وأرجعت الورقة البحثية ذلك إلى أن الأحياء السكنية الجديدة، التي يمر بها المونوريل، تتميز بشوارع واسعة، بما فيها مدينة نصر. وأشارت إلى خطورة أن تتسبّب سرعة الرياح والرمال العالية بالتأثير على كفاءة التشغيل، في هذه المناطق.
يوضح الفيديو الشوارع والتوسعات العمرانية الصحراوية التي يمر بها المونوريل
القطار الكهربائي الخفيف، الذي يدخل عامه الثالث، وخط المونوريل الأول الذي تمّ تشغيله تجريبياً، تمهيداً للتشغيل الفعلي، يخدمان بصفة أساسية العاصمة الإدارية، والمدن الموجودة في محيطها شرق القاهرة.
وعلى الرغم من أن سكان “المدن الجديدة” لا يتجاوز عددهم عشرة في المئة، من سكان القاهرة الكبرى (نحو 26 مليون نسمة)؛ لا يخدم القطار الكهربائي أو المونوريل مناطقها وضواحيها، بالإضافة إلى أن مناطق القاهرة الكبرى (من دون التوسعات العمرانية الجديدة) تُعدّ الأفضل والأنسب لتنفيذ مشروع مثل المونوريل، وفقاً للاشتراطات التي أعلنتها وزارة النقل، من الكثافة السكانية المرتفعة، والشوارع الضيقة والطرق المزدحمة.
مشروع الأتوبيس الترددي السريع BRT، الذي يخدم مناطق القاهرة الكبرى الأصلية قبل التوسعات العمرانية، كان يفترض أن يدخل الخدمة في كانون الثاني/يناير 2023، لكن لم يتمّ الانتهاء من أعمال الإنشاءات الخاصة به حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.
بالإضافة إلى أن أعمال الخط الرابع، من شبكة مترو أنفاق القاهرة، ما زالت في مراحلها الإنشائية الأولى، رغم تقديم دولة اليابان قرضاً ميسراً للحكومة المصرية، قيمته 32 ملياراً و717 مليون ين ياباني في آذار/مارس 2012.
اعتمدت الحكومة المصرية، في تمويل مشروعات النقل، على القروض الميسّرة، خلال العقد الأخير (2014- 2024)، واستفادت من التمويلات الدولية الخاصة بقطاع النقل المستدام، من خلال مشروع للتمويل والاستثمار في مجالات المناخ والتنمية الخضراء، في قطاعات المياه والغذاء والطاقة”نوفي”.
الأتوبيس الترددي السريع والخط الرابع للمترو والخط الخامس، الذي أُلغي تنفيذه، والخط السادس -الذي لم يدخل مرحلة التنفيذ- ضمن شبكة مترو أنفاق القاهرة الكبرى؛ هي مشروعات نقل مستدامة، تخدم مناطق ذات كثافة سكانية مرتفعة في أنحاء القاهرة الكبرى، لو أُعطيت لها الأولية -كما أوصت دراسة البنك الدولي عن أزمة السير في القاهرة- لأصبحت جزءاً من الحل المستدام لأزمة السير في القاهرة الكبرى.
لكنّ الحكومة المصرية، ممثلة في وزارة النقل، أعلنت في تموز/يوليو 2024، عزمها إنشاء ألف كوبري ونفق جديد، بتكلفة 140 مليار جنيه؛ رغم التحذيرات التي لم تتوقف من مؤسسات دولية ومحلية، التي علق عليها الرئيس السيسي قائلاً: “بتقولوا الطرق لازمتها إيه.. حاسبوا الدكتور مصطفى مدبولي، كان ماسك التخطيط العمراني”.