في جلسة سمر مع بعض الأصدقاء، تحدثنا عن ظاهرة عداء المتشددين ورجال الدين للفن، وصلنا بعد حوار يتسم بالمرونة والتداول، إلى أن هذه الأسباب منحصرة في بعض النقاط أطرحها لحضراتكم مع الشرح، مع إضافة بعض النقاط الأخرى وفقًا للسياق:
أولًا: ينظر المتطرفون إلى الفن وخاصة الأعمال السينمائية والدرامية التي تنقل المشاعر الحقيقية للإنسان، أو التي تُعلق على أو تنتقد بعض القضايا المجتمعية على أنها تحدٍ مباشر لمعتقداتهم؛ حيث يملك المتطرف فكرًا إقصائيًا أحاديًا يرى فيه نقل المشاعر الحقيقية للآخرين على أنها تهديد؛ فهو لا يتناول الرأي الآخر والمشاعر الأخرى على أنها حقيقة تنوع واختلاف، لكنه يراها مصدر تهديد، كذلك فالفن يميل إلى التشكيك في كثير من المعتقدات والموروثات الراسخة وتقديم وجهات نظر بديلة تتعارض مع هذه النُظُم التقليدية، على سبيل المثال، قد يؤدي تصوير الكيانات الإلهية بطريقة يمكن التعامل معها أو معالجة موضوعات محرمة إلى إثارة الغضب بين أولئك الذين يعتبرون مثل هذه التصوير تجديفًا وازدراءً للدين.
ولا يتوقف ذلك على التعرض لفكرة الإله المُجمع عليها بين الأديان، ولكن مجرد التعرض لما يعتبره المتطرف رمزا دينيًا لا يجوز المساس به؛ سواء أكان من أشخاص أو أفكار أو سلوكيات ورثها عن أسلافه، وفي ذلك يستوي الله عند المتطرف السلفي مثلًا بابن تيمية الحراني، وعند المتطرف الشيعي مثلًا بالخوميني أو الشيخ المجلسي؛ فالمساحة الفاصلة بين ما هو إلهي وبشري عند المتشددين ضئيلة للغاية، هي تعدّ نتاجًا طبيعيًا للتشدد والمبالغة وتصوير رأي الأشخاص كقيم مقدسة.
إن مفهوم الانحراف الأخلاقي يستخدمه المتطرفون بشكل متكرر لتشويه سمعة الفن ومبدعيه، ويرى العديد من المتطرفين الدينيين أن الفن يشكل إهانة لعقائدهم، أو شكلًا من أشكال عبادة الأصنام
ثانيًا: إن قدرة الفن على تشكيل الأفكار والسلوكيات تبث الخوف في نفوس المتطرفين، الذين يخشون أن يؤدي ذلك إلى تغيير اجتماعي وسياسي وديني يهدد سلطتهم؛ فالحاصل أن السلطات السياسية والدينية والاجتماعية تنشأ نتيجة لتضافر عدة عوامل؛ منها اقتصادية وفكرية وقناعات وعقائد وأعراف، إلخ، سوف يمثل نقد هذه العوامل أو بعضها أو أحدها تهديدًا لسلطة ونفوذ المتطرف، الذي سيرى هذا السلوك والنقد باعتباره تمردًا سياسيًا أو خروجًا على الدين يتطلب المقاومة، وقد شهد أفلاطون في كتاب الجمهورية أنه في حين أن الفنون قادرة على إلهام السلوك الفاضل؛ فإنها قادرة أيضًا على تعزيز الرذيلة والتمرد ضد المبادئ الدينية، لذا فالفنون من هذا الباب تعد وسيلة كبرى للتغيير، من الصعب تجاهلها عند المتنفذين.
ثالثًا: ينظر المتشددون إلى الفنانين على أنهم منحرفون أخلاقيًا لأسباب متعددة، منها تجاوزهم للحدود المجتمعية وتساؤلهم عن المعايير الأخلاقية المقدسة لديهم، وكذلك لأسباب أخرى مثل تناولهم لموضوعات الجنس أو العنف أو الحزن والسعادة، ومناقشة هذه الموضوعات والمشاعر وفقًا لرؤية كونية أو دينية أو سياسية مختلفة عن السائد؛ فالفن غالبًا ما يعمل كوسيلة للتأمل المجتمعي والشفاء الإنساني، وكثيرًا ما يطرح مشكلات المجتمع ويعرضها بوضوح ومكاشفة، يحرص رجال الدين بالعموم على عدم مناقشتها في العلن، مثل بعض موضوعات السياسة والجنس والدين، وهي الثلاثية الشهيرة المعروفة بالطابو المُحرّم التي يسعى تحالف رجل الدين والسياسي على كتمانها أو مناقشتها وفقًا لمعايير وأساليب خاصة، لا تنقص من نفوذهم السياسي والمجتمعي.
إن مفهوم الانحراف الأخلاقي يستخدمه المتطرفون بشكل متكرر لتشويه سمعة الفن ومبدعيه، ويرى العديد من المتطرفين الدينيين أن الفن يشكل إهانة لعقائدهم، أو شكلًا من أشكال عبادة الأصنام الحديثة، أو تحديًا للنظام الأخلاقي القائم، ويخلق هذا السرد انقسامًا ثقافيًا يؤدي إلى الرفض الصريح للتعبير الفني بكل ألوانه؛ سواء أكان في السينما والمسرح والدراما، أو من خلال الرسم والنحت والفن التشكيلي، ولذلك ينظر إليه المتطرفون باعتباره تهديدًا وجوديًا كونه يتحدى نظرتهم الجامدة للعالم، ويقدم روايات بديلة تخرق ما حرصوا على نشره وترسيخه في الماضي.
في الحقيقة، إن الحياة الطبيعية للفنانين غالبًا ما يُنظر إلى إليها من خلال الصور النمطية التي تصورهم على أنهم أصحاب لذة وشهوة، لأن العرف قد استقر منذ ظهور الفن المسرحي أواخر القرن 19 ثم السينمائي أوائل القرن 20، أن الوسط الفني من أثرياء ووجهاء المجتمع، وأصحاب حظوة اجتماعية وسياسية واقتصادية مرموقة، جعل هذا من فكرة تصور ذلك الوسط خارج نمط اللذة غير معتاد، مع ذلك فلا تدرك الأغلبية أحوال هؤلاء الفنانين البسيطة والمُعدَمة، نظرًا لتقوقع بعض هذه الفئة الفنية وسط بيئة منعزلة لأسباب مختلفة، منها تصديق تلك النظرة المجتمعية لهم بالنفوذ والحظوة. والعمل وفقًا لهذا التصور، ترسيخ هواجس شكوك بالطمع والاستغلال من وراء تلك العلاقة، ومنها لشعور الفنان بالإبداع الشخصي والذكاء والتفوق الذي يجعله مدركًا لأمراض المجتمع والشخصيات المختلفة التي مثّلها؛ فيفضل الابتعاد عما عايشه في الفن، وكأنه يرى حكمة العيش في عالم موازٍ على أنها أهم لديه من أي علاقة قد تؤدي ولو بنسبة بسيطة إلى الضرر.
كذلك يعيش العديد الفنانين حياة عادية، ويساهمون بشكل إيجابي في مجتمعاتهم، مثل خدمة البسطاء والمرضى والمحتاجين، بالتبرع والإعلانات وخلافه، ويدافعون عن العدالة الاجتماعية؛ سواء أكان في الفن أو في المجال السياسي، ويجسدون قيم الرحمة والتفاهم في إبداعاتهم لهذا الغرض الإنساني، وجعل هذا من الفنان مشروع طاقة اجتماعية هائلة، أوجدت لها حضورًا يوازي أو يفوق رجل الدين، ومن تلك الجزئية فطن المتشددون لجانب آخر من خطورة الفنان على تشددهم، وهو أنه يساهم بأشكال مختلفة في توعية المجتمع بأشكال وأنماط ووسائل هذا التشدد، وسبل معالجته.
ومن الضروري هنا إدراك أن الفنانين غالبًا ما يكونون أفرادًا معتادين يعانون من نفس التعقيدات الأخلاقية التي يعاني منها أي شخص آخر؛ فهم بشر يخطئون ويصيبون، ولديهم مكامن ضعف وقوة مثل أي إنسان، ومن خلال تضخيم هذا الضعف والمبالغة في وصفه ونتائجه على المجتمع، تحدث القطيعة الشعورية بين الفنان والجمهور، لكنها تظل قطيعة على مستوى الدين والفضيلة، لكنها ليست قطيعة على مستوى الترفيه واللذة، وهذا الذي أوجد التناقض والازدواجية المشهورة التي دفعت هؤلاء الذين يسبون الفنانين على مواقع التواصل الاجتماعي، أن يكونوا من جمهور ومريدي نفس الفنان في أعماله السينمائية والغنائية والدرامية.
رابعًا: غالبًا ما يسير الفن والفلسفة جنبًا إلى جنب، ليست الفلسفة بمعنى النظير المعقد والمسطور في الكتب، لكن الفلسفة بمعنى التبسيط، لأن وظيفة الفنان الأولى هي في تبسيط تلك المفاهيم المعقدة، وتقديمها للمشاهد في وجبة سريعة الهضم، ومن جانب آخر فالمناقشات المحيطة بالوجود والأخلاقيات والطبيعة البشرية، تشكل محورًا أساسيًا للاستقصاء الفلسفي، والذي ينعكس غالبًا في التعبير الفني؛ حيث يشعر المتطرفون بالتهديد من هذا التقارب باعتباره إعلاءً من قيم العقل والحريات؛ فهم يعطون الأولوية للدوغما الجامدة مقابل الاستفسارات الدقيقة التي يتيحها الفن، على سبيل المثال يشجع الفن التجريدي المشاهدين على الانخراط في أفكار ومشاعر معقدة تبتعد عن السرديات الروحية التقليدية، والتي يمكن اعتبارها تمردًا على القيم الدينية الراسخة.
يعزز الفن قيم الحريات والفردانية والاستقلال الشخصي؛ ففي عالم تسوده الأيديولوجيات الدينية والجماعية والطاعة للعقيدة، يمكن اعتبار الطبيعة الفردية للتعبير الفني منحرفة أخلاقيًا وكافرة دينيًا
فالفن التجريدي غير ممثل فقط بالفن التشكيلي والرسم والنحت، إنه جزء أساسي وأداة مشهورة في التمثيل الدرامي والسينمائي والمسرحي، وفي هذا الفن يميل الممثل للتفكير بطريقة مختلفة عن السائد، ويطرح أسئلة غريبة وغير مألوفة، لذا فمن الطبيعي أن يصطدم الفنان؛ ليس فقط برجال الدين أو المتشددين، ولكن بذوي الفكر المحافظ عمومًا، وهؤلاء يمثلون أغلبية الفئات البسيطة والمهمشة؛ خصوصًا التي تسكن وتعيش في الريف، باعتبارها أكثر المجتمعات عزلة عن التطور المعرفي، وفي بعض الأحيان تسيطر ثقافة الريف المحافظة؛ حيث يضطر حينها الفنان للامتثال إلى هذه الثقافة، وهو الذي أوجد فكرة (الرقابة على الأعمال والمصنفات الفنية منذ القدم”
وفي مقالي على الحوار المتمدن قبل عامين، تعرضت فيه لهذه الجزئية؛ حيث قلت: “ما زالت الفنون خاضعة بشكل كبير لأخلاق المجتمع، وبالخصوص الطبقة الدنيا، وهو الذي دفع المختصين لضبط الفنون عبر محاكم خاصة، هي (الرقابة والنقابة) تكون بعيدة عن أدوات التشريع والمحاكم المدنية الأخرى، والهدف من تلك المحاكم الخاصة، هو أن لا يخضع الفنان لمحاكمة قاضٍ غير متخصص، وهو شئ جيد بالطبع، لكن الضابط الأخلاقي الذي ما زال يحكم تلك الرقابة، لم يميز بعدُ بين أخلاق الريف والمدينة، أو بين أخلاق المثقفين والجهلة، أو بين أخلاق وعلم الفلاسفة وبين تكفير وتشدد رجال الدين؛ فماهية الأخلاق المنوط بها حكم الفنون ما زالت مجهولة، وبالتالي فالجملة الشائعة “لابد أن يلتزم الفنان بقيم المجتمع” غير صحيحة علميًا، ولم تُحرر بعد لنعلم أي قيم مقصودة هذه، ولأي أخلاق تنتمي”.
خامسًا: الفن يعزز قيم الحريات والفردانية والاستقلال الشخصي؛ ففي عالم تسوده الأيديولوجيات الدينية والجماعية والطاعة للعقيدة، يمكن اعتبار الطبيعة الفردية للتعبير الفني منحرفة أخلاقيًا وكافرة دينيًا، وكثيرًا ما يستكشف الفنانون الحقائق الشخصية التي قد تتعارض مع المعتقدات المجتمعية، أو تزيد من تعقيدها؛ فالفنان هو إنسان طبيعي، لكنه صادق في النهاية بغرض التعبير عن فنه، والإنسان الطبيعي يفكر بحرية ويكسر العديد من القيود عندما يستقل ماديًا واجتماعيًا وسياسيًا، ذلك لأن طبيعة المجتمع الإنساني تدفع عناصر للتقليد والانقياد، وبالتالي أي عزلة عن ذلك المجتمع هي في ذاتها تمرد على هذا التقليد والانقياد، وترسخ من قيم الفردانية والحرية الشخصية التي يراها المتشدد من أعدى أعدائه.
وعلى هذا فإن التطرف لا ينشأ فقط من الخوف من الفن؛ بل أيضًا من الرغبة في الحفاظ على السيطرة على الفكر الفردي، واعتبار كل من يفكر بشكل خارج عن القطيع أو عن الأغلبية، مشروعًا سياسيًا ودينيًا منافسًا، أو خصمًا يهدد حضورًا ومكاسب حصلها هذا المتطرف التي جراء سيطرة وشيوع الفكر المحافظ، الذي اعتبره الحليف الرئيس وحصان طروادة الشهير والقوي لأي تنظيمات متطرفة
والفنانون بطبيعتهم يتحدون الأعراف والمعايير المجتمعية؛ فهم يمتلكون القدرة الفريدة على انتقاد الوضع الراهن، وغالبًا ما يصورون الحقائق غير المريحة والمقلقة، أو التي تسبب اضطرابًا نفسيًا لدى أصحاب الفكر الأحادي من خلال وسائل مختلفة، وهذا من شأنه أن يثير الغضب أو الازدراء لدى أولئك الذين يستفيدون من الحفاظ على التسلسل الهرمي الاجتماعي التقليدي؛ فالمتطرف في كثير من الأحيان يحرض على ترسيخ وإشاعة هوية جماعية، توحد أتباعهم من خلال المعتقدات والممارسات والطقوس الاجتماعية والدينية المشتركة، وهذه الطبيعة للفنانين يمكنها زعزعة هذه الوحدة، من خلال تقديم وجهات نظر متنوعة تشمل مجموعة واسعة من التجارب الإنسانية.
إن صورة رابعة العدوية المزيفة التي صنعها أحد مؤلفي الدراما الدينية ما زالت تسيطر على الفنانين، وهي حياة نصفها الأول متعة وشهوانية ولهو، ونصفها الأخير عبادة وذكر وصلاة
على سبيل المثال يمكن للأفلام التي تصور معاناة المجتمعات المهمشة اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا أن تعمل على تضخيم أصوات أولئك الذين يتم إسكاتهم لأسباب دينية، وهي الرؤية القديمة الناقدية لتحالف السلطة مع رجال الدين، ومن أبرز تلك الأعمال فيلم “الزوجة الثانية” لسعاد حسني سنة 1967، والفن عمومًا مليء بهذا الإسقاط الناقد لذلك التحالف الذي كان سببًا أصيلًا في الثورة الفرنسية بين عامي 1789- 1799، ويعني ذلك أن ظهور هذه الروايات وإثبات صحتها يمكن أن يثير مشاعر عدم الكفاءة بين المتطرفين، ومن ثم تصويرهم أو تصوير رموزهم وشيوخهم كأشرار على شاكلة شيخ الجامع الذي أجاد في تشخيصه الفنان المبدع “حسن البارودي”.
سادسًا: تعمل الفنون على تعزيز الاقتصاد بشكل كبير من خلال خلق فرص العمل وتعزيز السياحة الثقافية، ووفقًا للموقع الرسمي للحكومة الأمريكية في تقرير لها في مارس 2024؛ فالفنون تساهم بأكثر من 1100 مليار دولار سنويًا في الاقتصاد الأمريكي، مما يعني أن الفن ليس مجرد إبداع؛ بل هو صناعة أيضًا لها دخل ثابت ومستقر بعيدًا عن أيدي ونفوذ الساسة ورجال الدين، الذين يفضلون السيطرة على مصادر الثروة لضمان ولاء الجماهير؛ فعندما ينظر المتطرفون الدينيون إلى الفنانين باعتبارهم منحرفين أخلاقيًا؛ فإنهم يُقوّضون القيمة الاقتصادية للفن، وغالبًا ما يكون ذلك بهدف الترويج لأسلوب حياة متقشف فريد يتجنب المادية، رغم أن حياة رجل الدين الطبيعية ليست متقشفة في الغالب، وأكثر المشاهير منهم يتقاضون أجورًا مرتفعة.
ومن خلال الاقتصاد، يلعب الفنانون دورًا حيويًا في إشعال المناقشات وتحفيز التقدم الاقتصادي والارتقاء المادي الذي يؤثر على الحواس؛ فيدفع الإنسان للتفكير بطريقة نقدية، نظرًا للتعارض بين ما يراه الإنسان في الحس، وبين معتقداته وظنونه، وهي الفكرة التي ناقشها فلاسفة اليسار فيما يسمى بـ “المادية الجدلية” أو “البناء التحتي والبناء الفوقي”، لذلك فإن هذا التهديد المستمر للهيمنة المالية للفنانين يدفع المتطرفين إلى ازدراء الفن، ووصفهم بالمنحرفين أخلاقيًا لنزع الشرعية عن نفوذهم، أّذكر في هذا السياق حملة تحجيب الفنانات المصريات ودفعهن لاعتزال الفن، حيث كان لها أبعاد مختلفة، لكن أبرز تلك الأبعاد هي تقديم المتدين بصورة (الراهب) المعتزل لمتع الدنيا والمجتمع، حتى إن هذه الصورة كانت حاضرة بوضوح في أسباب اعتزال بعض الفنانات، أشهرهن شادية وسهير البابلي، وغيرهن.
إن صورة رابعة العدوية المزيفة التي صنعها أحد مؤلفي الدراما الدينية ما زالت تسيطر على الفنانين، وهي حياة نصفها الأول متعة وشهوانية ولهو، ونصفها الأخير عبادة وذكر وصلاة؛ فتكون النتيجة ملائكة يحملون رابعة إلى السماء في مشهد يراه الآلاف، وربما لا يعلم هؤلاء الفنانون أن قصة رابعة العدوية ليست هكذا، وأن رابعة التي رأوها في الأفلام هي خيال مؤلف، ولم توجد في الواقع، ربما لا يعلم البعض أيضًا أن تلك الصورة المزيفة، أحسن الإسلاميون استغلالها لتدمير الفنون بالمطلق، وإقناع المئات من الفنانين بالاعتزال في مشهد كارثي على العقل والثقافة، وبصفتي صديقا لبعض الفنانين، أشهد أن الوسط الفني ليس بهذا القُبح المصطنع، وأن هذا الوسط مختلف تمامًا، ويغلب عليه الطابع المحافظ في العلاقات، وأن المتحررين منهم يضعون مسافات بينهم وبين غير أولي الثقة والمعارف السطحية.
يعمل الفن في كثير من الأحيان كصوت للمعارضة السياسية، أو أداة قوية للنقد الاجتماعي والسياسي، من هنا يخشى المتطرفون الدينيون الفنانين، لأنهم يدركون قدرة الفن على حشد المجتمعات والدعوة إلى التغيير
كذلك فالعديد من الفنانين يعتمدون على التمويل من الرعاة أو المنح الحكومية والنقابية، وهو نموذج اقتصادي قد يتعارض مع الإيديولوجية المتطرفة التي تفضل سيطرتها على كل عمليات التمويل، باعتبارها خصمًا أو منافسًا لتمويلهم، على سبيل المثال؛ عندما يحصل الفنانون على التقدير فإنهم غالبًا ما يصبحون شخصيات عامة مؤثرة وسريعة الوصول للجمهور، بالتالي يمارسون نفوذًا قويًا وحضورًا اجتماعيًا مؤثرًا، هو المفهوم الذي يقاومه العديد من المتطرفين باعتباره تهديدًا مباشرًا لتفوقهم الإيديولوجي، أو في بعض الأحيان تأتي فكرة المقاومة من الداعمين للتشدد نظرًا لاتصافهم بالفكر الإقصائي، ورؤية أي تمويل بعيدًا عن تحكمهم في مصدر خطر مباشر، وما المتشدد أو رجل الدين هنا إلا موظف.
هذا سر من أسرار هجوم المتشددين على الفن؛ فالذي حفزهم لذلك هو الجانب الاقتصادي؛ فيُقدمون على تصوير الوسط الفني بهذا القبح المادي للترغيب والدعوة لهجرانه، وفي المجتمعات التي تهيمن عليها الصناعات التقليدية كمصر والوطن العربي، يمكن النظر إلى الفن باعتباره منافسًا وليس مكملًا لتلك الصناعات، ويهدد صعود الصناعات الإبداعية بتعطيل هياكل السلطة القائمة، وهي سلطة مزدوجة يجتمع فيها رأس المال مع السلطة مع المعبد، مما يخلق مناخًا من المقاومة بين أولئك الذين يستثمرون في الحفاظ على الوضع الراهن؛ حيث يندفع هذا الثلاثي لمكافحة نتائج الفنون بشتى أنواعها، وقد تتجلى بعض مظاهر تلك المقاومة في اللجان الإلكترونية المدفوعة التي ينفق عليها بعض الأثرياء بالاستعانة مع رجل دين متشدد يكره الفنون، وبالتعاون مع سياسي محافظ يعطي غطاءً سياسيًا وقانونيًا لتلك الأعمال.
سابعًا: يعمل الفن في كثير من الأحيان كصوت للمعارضة السياسية، أو أداة قوية للنقد الاجتماعي والسياسي، من هنا يخشى المتطرفون الدينيون الفنانين، لأنهم يدركون قدرة الفن على حشد المجتمعات والدعوة إلى التغيير، وقد تؤدي قوة السينما والمسرح والأدب في إثارة الفكر النقدي وإلهام العمل إلى تقويض السيطرة الاستبدادية، مما يؤدي إلى العداء الشديد تجاه الأفراد المبدعين.
وعلى مر التاريخ كان الفنانون بمثابة أدوات للمقاومة السياسية؛ فمن مسرحيات برتولت بريشت التي انتقدت المناخ الاجتماعي والسياسي في عصره، إلى الحركات الفنية المعاصرة التي تدافع عن حقوق الإنسان (أفلام البريء، واحنا بتوع الأتوبيس نموذج)، كانت الأبعاد السياسية للفن واسعة النطاق، وكثيرًا ما تفسر الإيديولوجيات المتطرفة هذه المعارضة باعتبارها تحديًا مباشرًا لسلطتها؛ فتصف الفنانين بأنهم مخربون أو خطرون نظرًا لدفاع المتطرف عادة عن القيم السائدة والسلطة المهيمنة وميوله المشهورة، للاصطفاف مع الأقوياء وذوي النفوذ، حتى لو كان محسوبًا على المعارضة؛ فهو يصطف مع معارض قوي ونافذ وليس مع ضعيف أو مُهمّش.
إن الحكومات أو الجماعات التي تعطي الأولوية للسيطرة على الحرية، قد تلجأ إلى الرقابة والدعاية، وتشويه سمعة الفنانين لقمع المعارضة، ذلك سلوك مشهور لتلك الحكومات، وبعض من هذه السلطات عن طريق وسائل تجسسية وأمنية يحكمون قبضتهم على العديد من الفنانين، باستغلال أخطائهم وقصورهم البشري، وهذا تفسير لبعض حوادث الابتزاز الجنسي الذي يتعرض له العديد من الفنانين، مما يساهم في ترسيخ وإشاعة فكرة انحراف الفنان خلقيًا، وهي فكرة تحقق هدفين للمتطرف: فهي تُضفي الشرعية على القمع أولًا، ثم يصرف انتباه الناس عن القضايا الأساسية التي تدور حولهم. ثانيًا، وهي التي عرفها الشعب المصري بعبارة “بُصّ العصفورة”، وهي عبارة تعني صرف الانتباه عن حدث حقيقي أو جاد، لحدث آخر متوهم أو تافه، بغرض إشغال الجمهور بعيدًا عن الحديث في مشكلاته.
ثامنًا: وهي الرؤية النفسية؛ فإن التشهير الشديد بالفنانين يرمز إلى مخاوف نفسية أوسع نطاقًا تحيط بالاختلاف وعدم المطابقة، وكثيرًا ما يدعو التطرف إلى نزع الصفة الإنسانية عن الآخر، وهي الطريقة التي تصور الفنانين باعتبارهم تهديدًا للأخلاقيات والقيم الفاضلة، مما يعني أن العداء تجاه الفنانين ليس خارجيًا أو ماديًا فحسب؛ بل هو يعكس في كثير من الأحيان صراعات نفسية أعمق متأصلة في المتطرفين أنفسهم، وقد يعاني العديد من الأفراد الذين يتبنون معتقدات متطرفة من صراع مع هويتهم؛ فيستخدمون وجهات النظر المتطرفة كغطاء لانعدام الأمن لديهم، وهي وسيلة مشهورة للتطرف، برفع الهوية كدعاية أو بروباجاندا يقنع بها المجتمع بخطورة الفنان على دينه أو أعرافه وتقاليده.
والغرض الأساسي بتصوير الفنان على أنه يمثل خطرًا على الهوية، هو اعتباره من (الغرباء)، وبالتالي يخضع لكل عوامل تناول الغرباء في العرف التقليدي؛ فالثابت أن البشر يميلون للخوف وعدم الثقة في الغرباء، بينما يميلون للارتياح والثقة في الأقارب والجيران والمعارف، هنا يتسبب العامل النفسي في رفع نداء الهوية في المبالغة في وصف خطورة الفنان، باعتباره جزءًا من خطر الغرباء بشكل عام، وهي معضلة أساسية في النفس البشرية تتعلق بالخوف من المجهول، وعلاوة على ذلك ومن خلال تصنيف الفنانين باعتبارهم غرباء، يزرع المتطرفون رواية “نحن ضدهم”، التي تعزز تماسك المجموعة والشعور بالهدف، ويؤدي هذا التشجيع على الانقسام إلى تشتيت انتباه هذه المجموعة عن الانخراط في التعامل مع نقاط ضعفهم، مما يعزز عزيمتهم ويزيد من إدامة العداء تجاه الفن.
ومن نفس المنظور النفسي يشير الهجوم على الفنانين إلى قضية أكثر شمولًا؛ فالمتطرفون غالبًا ما يعانون من عدم القدرة على التوفيق بين معتقداتهم الشخصية والدينية، وبين تعقيدات التجارب الإنسانية؛ حيث يعرض الفنانون من خلال أعمالهم تلك التعقيدات الكامنة في الأعماق العاطفية والنفسية للإنسان؛ فيفرضون مواجهة مع مشاعر التعاطف والحب والحزن، وهو ما نسميه في اللغة الدارجة (بالمكاشفة والوضوح)؛ فالفنان هنا ما هو إلا موظف يقوم بنقل حقيقة الشعور الإنساني ومعتقداته الكامنة إلى الواقع، ليحدث الاحتكاك والصدام بين الأمرين، وهو احتكاك وصدام غير محمود لدى المتشددين والفكر المحافظ بشكل عام.
والمأثور عن فريدريك نيتشه مقولته الشهيرة “لدينا الفن كي لا نموت من الحقيقة”، وهي تعني في مضمونها قدرة الفن على تجسيد الواقع دون كذب وأوهام، بالتالي فالحقيقة الصادمة سوف تصبح أقل تأثيرًا مع الفن، لكنها قد تكون مميتة ومدمرة بغير الفن، إن هذا الاقتباس يجسد التوتر بين الحقيقة غير المفلترة، وتصورات العقائد الباطنية والعقلية والروحية؛ فالفن يعمل في كثير من الأحيان في ظلال رمادية؛ فسيكتشف التجارب الإنسانية التي تتحدى الأحكام الأخلاقية الثنائية، التي تضع الأمور بين خيارين لا ثالث لهما، والمشهورة بنظرية الأبيض والأسود، وهذا التعقيد يهدد المتطرفين الذين يفضلون رؤية عالمية مبسطة خالية من الغموض أو التحدي، بالتالي فإن نفورهم من الفن فلسفي للغاية، ويرتبط برغبتهم في الحفاظ على السيطرة الأخلاقية على أتباعهم الذين يميلون لتقديس كل غامض، والهرب والفُكاك من كل بسيط.
أما الجمهور عند رجال الدين فهو متلقٍ وليس عنصرًا مشتركًا؛ فهو لا دور له على الإطلاق سوى الطاعة والاستماع، ولا توجد لديه فرصة للظهور والتأثير حتى لو كان يملك موهبة الفقه والكتابة
تاسعًا وأخيرًا: الفن بكل أنواعه هو قوة هائلة لتبسيط الأفكار والمعتقدات والنظريات للناس، وإشراكهم فيها ليس مجرد مستمعين؛ بل (كمُتعلّمين) يمكنهم التأثير أيضًا بنفس الدرجة والحجم، وهو تبسيط مختلف عن النقطة السابقة، لأنه يتعلق بشرح المفاهيم المعقدة الواقعية التي تتداخل مع حياة الناس، وتتفاعل مع أسلوب حياتهم بشكل أساسي، بينما تبسيط المتطرف السابق يعني الاختزال، وهو سلوك مشهور عند المتشدد في تناوله للأمور النظرية كالعقائد والموروثات التاريخية؛ فالمتطرف يميل للاختزال والتبسيط ليهرب من الدقة العلمية ونتائجها التي تتطلب طرح أسئلة وانتقادات مشروعة، وقد عبر عنها المتطرفون بعبارات كثيرة، أبرزها “أميتوا الباطل بالسكوت” و ” من تمنطق فقد تزندق”، وغيرها.
أما هذا التبسيط الفني فهو ليس نظريًا؛ بل عملي متداخل في كل شؤون الحياة تقريبًا، مما أوجد اختلافًا في الجمهور، لأن الجمهور عند الفنان ليس هو الجمهور عند رجال الدين؛ فالجمهور عند الفنان هو عنصر أساسي مشترك في التعليم والتأثير، ولديه فرصة عملية للظهور والحضور ما دام يملك موهبة الخطابة والإلقاء والتمثيل والكتابة، الخ، لذلك فالفن قائم على التبسيط والشرح أساسًا، ودور الممثلين الرئيسي هو سرد القصص لإيصال الحقائق، والناس بالعموم لديها قوة خيال أعظم من قوة التفكير، لذلك يميل الجمهور للفهم بالقصص أكثر من الفهم بالشروح الفلسفية والفقهية المعقدة.
أما الجمهور عند رجال الدين فهو متلقٍ وليس عنصرًا مشتركًا؛ فهو لا دور له على الإطلاق سوى الطاعة والاستماع، ولا توجد لديه فرصة للظهور والتأثير حتى لو كان يملك موهبة الفقه والكتابة، لذلك دور رجل الدين غالبًا ما يكون عكس الفنان؛ فإذا كان الفن قائمًا على التبسيط؛ فرجل الدين يقوم على (التعقيد)؛ فيُكثر من الشفرات والألغاز وإقناع الناس بعجزهم عن الفهم، وأن الحلول كلها عند الشيخ ومفاتيح وأسرار الكون جميعها، ومن أبرز نتائج هذه السلوكيات لرجل الدين ظاهرة الأسئلة التافهة والغريبة في برامج الفتوى على الفضائيات، وهي ظاهرة ملحوظة تعبر عن نجاح رجل الدين في إشعار جمهوره بالعجز عن الفهم، أو اكتسابه الثقة بأي شكل.
وبالمناسبة: فالجمهور لا يرفض هذه الصورة لرجل الدين؛ بل يقبلها وفقًا لقناعة مسبقة، بأن كل ما هو غامض وملغز ومشفر هو مقدس؛ فلو فهم الجمهور ماذا يقول الشيخ سيسقط من نظره، لأن الجزء الأكبر وراء تقديس العامة لرجل الدين (أنهم لا يفهمونه)، ومن ثم تظل حاجة المجتمع لرجل الدين أبدية، كحاجة المريض إلى الطبيب، وحاجة الجائع للطعام، إلخ؛ فتكون للشيخ سلطة العلم وشفرات المجهول وألغاز الحاضر والمستقبل، لأن العامة لو فهموا هذا الملغز يُصبح بإمكانهم الاعتراض عليه ونقد المادة العلمية التي يقدمها، وهي نتيجة يهرب منها رجل الدين بشكل عام، نظرًا لطبيعته وميله الشعوري الغريزي للاحتكار وكراهية النقد.
إن قوة الممثل الكبرى تتمثل فى أن لديه القدرة على إيصال الحقائق (بالأمثال والتشبيهات والقصص)، وأن المؤلف الدرامي والسينمائي والمسرحي ما هو إلا رسام يصنع (رسومًا توضيحية)، كأنه شرح لقاعدة علمية في مجرد (كروكي بالقلم الرصاص)، وقديمًا كان القصاصون في التاريخ العربي والإسلامي لديهم قدرة اجتماعية هائلة من هذه الزاوية، حتى صارت لهم قدسية رجال الدين والفقهاء، رغم كونهم مجرد قصاصين دون علم، لكن مجرد إيصال فكرتهم بالقصص ومداعبة خيال الناس بالعواطف حصلوا على الشهرة.
الفنان الآن يقوم بنفس الدور الذي يقوم به القَصاص قديمًا، لكنه الآن أكثر تطورًا وأقوى بكثير من قصاصي التاريخ لأسباب مختلفة، منها التطور العلمي والحداثي من جهة، وتطور نظم الاتصالات والسفر من جهة أخرى؛ فالفنان يقدم علومًا للمجتمع وأفكارًا لم يعرفها من قبل، ويبسط له طرق تفكير مختلفة لم يتعوّد عليها، وفوق ذلك يشرح له عقائد وأديانًا وثقافات شعوب بطريقة مختلفة عن طريقة تقديم الفقهاء والشيوخ، كل ذلك بطريقة تمثيل هذه القصص واقعيًا في السينما والدراما والمسرح؛ فتضيق المساحة بين الواقع والخيال عند الناس؛ فتصير أي فكرة خرافية يمكن دحضها وكشف كذبها بسهولة.
لذا، كان الفن وسيظل عدوّا للمتشددين، وهدفًا لرجال الدين يعملون على تشويهه باستمرار، كأنه باختصار شديد: هو البديل الثقافي والفكري (الواقعي) لكتب التاريخ، والمنافس الأكثر تأثيرًا للشيوخ في السيطرة على المجتمع، ومخاطبة عقولهم وعواطفهم بطريقة مبسطة وحيوية.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.