في قلب مدينة الرياض؛ حيث تلمع الأبراج الشاهقة، وتتألق أضواء الفخامة، هناك حكايات خفية لا تصل إليها عدسات الكاميرات. خلف بريق المدن العصرية، تتداخل حكايات الفقر والبحث المضني عن الكرامة، لتروي قصصًا لأفراد يعيشون على هامش المدينة. يأخذنا فيلم “مندوب الليل” في رحلة جريئة إلى هذا العالم المظلم، ليكشف وجهًا آخر للعاصمة السعودية بعيدًا عن مواسمها البراقة. عبر عدسة المخرج علي الكلثمي، نرى حياة تفيض بالتحديات والصراعات اليومية؛ حيث يتحول البحث عن لقمة العيش إلى صراع للبقاء، وهو الذي استطاع أن ينافس بقوة على جائزة أفضل فيلم في مهرجان زيورخ السينمائي، كما أنه عُرض خلال فعاليات مهرجان “تورنتو” السينمائي، لنرى وجهًا آخر للرياض الساحرة.
بين أروقة الظلام؛ حيث تتقاطع المآسي الشخصية مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي، يقدم الفيلم رؤية سينمائية جريئة ومؤثرة، تسلط الضوء على الفجوة بين ما يُرى وما يُخفى.
والفيلم من بطولة محمد الدوخي ومحمد الطويان ومحمد القرعاوي وسارة طيبة وهاجر الشمري، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج علي الكلثمي، من إنتاج شركة “تلفاز 11″، وتم عرضه مؤخرًا على منصة نتفيلكس العالمية.
تائه بين لوحات الرياض
كشف فيلم “مندوب الليل”، عن محدودي الدخل المتحولين إلى معدومي الدخل في بعض الأوقات، من خلال شاب يكره ما يعمل، محاولًا أن يحافظ على وظيفته من أجل المال.
نرى حالة خاصة من الشباب في المملكة، من الرجال المألوفين المحاولين الضغط على أنفسهم، والتذلل بعض الوقت إلى صاحب العمل للإبقاء عليه، ولكن لا محالة، يتحول الشاب “فهد” إلى صاحب سابقة إجرامية بعد قيامه بالاعتداء على المدير المتسبب في تركه عمله.
من هنا نجد أنفسنا أمام ثلاث لوحات يتم عرضها تباعًا في بداية العمل الفني عن مندوب الليل، وتساؤل حول من يكون طبقًا لما أشارت إليه اللغة العربية في معناها للكلمة، هل هو العامل ليلاً، أم الذي ينبذه أهله؟ أم هو المصاب وصاحب الجرح؟ لنصبح أمام ثلاثة تأويلات مختلفة في نهاية الفيلم .
الرياض بين ضفاف الحارات
عرض الفيلم جانبًا مختلفًا من مدينة الرياض، والتي يعيش أهلها بمنازل صغيرة يظهر من خلاها ضيق العيش، والملابس الرثة والبيوت التي يبدو من هيئة أبوابها الفقر، كانت جلية في عائلة البطل “فهد”، ولم يكن العمل حاجزًا دون الفقر؛ بل إن الفقر يلازمه مرض وعلاج، ولكن مع الافتقار لا توجد الأموال التي تساعد على العلاج في مستشفيات السعودية باهظة الثمن.
ولم يكن المنزل الفقير على تلك الحال فقط؛ بل رأينا أيضًا شقيقة مطلقة تعيش مع والدها وأخيها بابنتها، وذلك لرغبتها بتحقيق ذاتها والحياة والعمل، ومحاولة سد احتياجات طفلتها بعيدًا عن شقيقها غير الناجح.
بالنسبة للشعوب الأخرى، يُختزل المواطن الخليجي عامة غالبًا في صورة الثري الذي يمتلك أكياسًا من الأموال، وكأن لكل فرد في دول الخليج بئر نفط، وسيارة فاخرة، وخيمة تقليدية، وعشرات الخدم. هذا التصور الشائع يعكس صورة نمطية تم تكريسها عبر أفلام هوليوود.
لم يختلف عالم الليل في الرياض عن غيره من العوالم في العديد من الدول؛ سواء أكانت العربية أو الأوربية؛ فالجميع يبحث عن الملذات التي يأوي إليها، والحصول خلسة على ما يريد كل شخص.
وشهدت دول السعودية تحولات كبيرة على صعيد التطور التكنولوجي والبنية التحتية، مما ساهم في تغيير هذه الصورة النمطية. ورغم هذا الازدهار الاقتصادي، كشف تقرير صادر عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، في 24 من مايو 2023 بعنوان “3.3 مليون مواطن في بلدان مجلس التعاون الخليجي، يعيشون في براثن الفقر”، عن واقع آخر مختلف. ووفقًا للتقرير؛ يعاني الفقرَ واحدٌ من كل سبعة مواطنين في السعودية، وتتصدر السعودية قائمة دول الخليج من حيث نسب الفقر؛ إذ يعيش 13.6% من مواطنيهما تحت خط الفقر. بينما كانت 18.2% عام 2010.
وعن الفيلم، قال الناقد الفني خالد ربيع: “إن فيلم “مندوب الليل”، يعد تجربة مختلفة وناضجة، وهي أقرب إلى التكامل من العديد من الأفلام السعودية التي تم إنتاجها خلال السنوات الماضية”. مُضيفًا لـ”مواطن”: “إن العمل لم يصل إلى منطقة الكمال، ولكنه اتجه إلى الأعمال الجيدة؛ خاصة مع كونها التجربة الأولى للمخرج، بالأفلام الروائية الطويلة، والتي قرر من خلالها أن يغوص في عالم مختلف عن الرياض التي يعرفها الكثير من الناس”.
واستكمل “ربيع”: “إن استخدام الرؤية الليلية في أغلب مشاهد الفيلم، طغى عليه طابع من القتامة التي تعكس العالم الذي يدور به العمل بصورة واقعية، ولعبت الإضاءة دورًا محوريًا في مشهد لقاء فهد مع شقيقته وابنتها في الكرنفال؛ حيث تضفي الألوان الساطعة أجواء مبهجة، قبل أن تنقلب الأحداث إلى اختطاف وعنف وانتقام من العصابة التي سرق منها المشروبات الكحولية. وعلى الرغم من أن “مندوب الليل” ليس فيلم طريق، إلا أنه ينتمي إلى الشارع الحقيقي، مستحضرًا أجواء الواقعية الإيطالية الجديدة التي خرجت بالكاميرا إلى الأزقة والشوارع، لنقل حياة الناس المعتادين”.
الذهاب إلى عالم الليل
لم يختلف عالم الليل في الرياض عن غيره من العوالم في العديد من الدول؛ سواء أكانت العربية أو الأوربية؛ فالجميع يبحث عن الملذات التي يأوي إليها، والحصول خلسة على ما يريد كل شخص. ومع قرارات المملكة العربية السعودية مؤخرًا بافتتاح مكان لبيع الخمور، ولكن للدبلوماسيين الأجانب من غير المسلمين بأرض الرياض، لم تلغ أو تحجب القوانين الصارمة المواطنيين السعوديين عن تجارة الخمور -غير الشرعية-.
وهذا وفقًا لقانون العقوبات بالسعودية ورؤيته لـ 2023، والذي لا تنوي السلطات تغيير أي منه في القريب العاجل، والذي ينقسم ما بين الجلد والقتل والمنع من السفر، حسب السبب في حيازة المواد المخدرة، أو هي المرة الأولى أم لا من القبض على المتهم بحيازته خمور، والتي تختلف أيضًا حول كينونة الحامل للخمر؛ هل هو موظف بجهة حكومية أو خاصة؟
فنجد أن عقوبة مروج الخمر تصل إلى 500 جلدة، بالإضافة إلى مصادرة الأنواع التي يقوم ببيعها داخل المملكة، أما مصنع الخمر فعقوبته تصل إلى الجلد والسجن والغرامة المالية، ومصادرة كل مواد التصنيع المساهمة في الوصول إلى المنتج النهائي من الخمر.
أما شارب الخمر فنجد أن عقوبته تصل إلى 80 جلدة، أو دفع غرامة مالية، أو السجن 9 أشهر والترحيل بالنسبة للوافدين، أما الشخص الذي تم القبض عليه وهو يشرب الخمر، يتم ترحيله وحظره من دخول البلاد لمدة 5 سنوات، جاء هذا وفقًا لما أكده المحامي سعود، آل طالب، لـ”مواطن”.
وهذا ما جعل بطل العمل أيضًا يتجه إلى سرقة وبيع الخمور بشكل سري، حتى لا يلاقي مثل أي من هذه العقوبات. نجد أن العمل يكشف من البداية رحلة الباحثين والمروجين أيضًا للخمور، في بلد تمنع حتى احتساءها ولو برشفة واحدة، ليتعامل البطل مع الراغبين في تناولها، ويعرض طريقة ابتياعها سرًا بعد ترتيب واتصالات ومراقبة الطرق حتى تصل إلى المشتري.
ولكن مع لدغات الفقر، يضطر البطل إلى القيام بالعديد من الجرائم، والتي جاء أولها سرقة مخزن سري للخمور، يعقب ذلك بيعها لعدد من الأغنياء سرًا، والتي لأجلها تختلف معاملة الناس له بشكل كبير؛ حيث إنه مروج لأكثر الأشياء صعوبة في الحصول عليها.
يفتح بيع الخمور خلسة عالمًا آخر من عوالم الرياض المخفية، وهو السهرات لأبناء الأكابر وأصحاب الأموال، والتي تكون غالبًا بأماكن سرية، ولكن بها كل ما لذ وطاب من أغانٍ ورقص وخمور، والتي تكون أيضًا بعيدًا عن أعين الدولة، لنجد أن الجانب السفلي من المملكة يختلف عن العلوي كليًا وجزئيًا.
وكانت المملكة تسمح بتناول المشروبات الكحولية قبل نحو 70 عامًا؛ حيث لم يكن بيع الخمور محظورًا قانونيًا آنذاك. لكن الأمور تغيّرت جذريًا في عام 1952 بعد حادثة وقعت في جدة عام 1951، حين أطلق أمير سعودي النار على نائب القنصل البريطاني خلال إحدى المناسبات، بسبب رفض الأخير تقديم مشروب آخر له. دفعت هذه الحادثة الملك عبد العزيز، بعد عام واحد، إلى فرض حظر كامل على بيع وتناول المشروبات الكحولية، كما أُدين الأمير بتهمة القتل.
وعلى الرغم من استمرار الحظر القانوني على المشروبات الكحولية، يجد العديد من محبي الكحول وسائل للحصول على مبتغاهم؛ فالبعض يلجأ إلى السفر لدول خليجية مجاورة تسمح ببيع وتناول الخمور، بينما يعتمد آخرون على السوق السوداء داخل المملكة مثلما صور الفيلم؛ حيث تُباع المشروبات الكحولية المهربة بأسعار تتفاوت بشكل كبير، تبدأ من عشرات الدولارات وتصل إلى آلاف منها حسب نوعها وجودتها.
الجمعيات تتحمل جزءًا من أعباء الدولة
مع تطرق فيلم “مندوب الليل”، للحالة الصحية لمحدودي الدخل، نجد أن امتيازات وأموال المملكة لا تصل إلى هؤلاء الأفراد بشكل يعطيهم حد الكفاية. ليلجأ محدودو الدخل إلى الجمعيات التي تتحمل جزءًا من أعباء الدولة تجاه الحياة الصحية للمواطنين، بسبب ارتفاع أسعار العلاج والدواء، ليقف المريض منتظرًا للدور في تلقي العلاج عن طريق هذه الجمعيات، والتي تمتلئ أدراجها بالحالات التي تنتظر العلاج. ومع محاكاة الفيلم لأرض الواقع، نجد أن هناك عدم تغطية الدولة لكافة الأعباء الطبية، وتحميل جزء على كاهل المواطن، رغم تحديد ميزانية وصلت إلى 87 مليون ريال سعودي، يتم توزيعها بطرق مختلفة على البرامج والمشاريع والخدمات الصحية.
مواضيع ذات صلة
حيث تقسم البلاد إلى 13 منطقة و20 مديرية صحية، وتتمتع كل مديرية باستقلال نسبي في إدارة شؤونها الصحية، ولكن الأمر لم يكن في المادة فقط، بل في سياسات البيروقراطية وتحديد الإداريات تمنع المواطنين من أخذ مستحقاتهم من العلاج وانتظار الدور في عمليات وما شابه، وقد تم الوعد بتغييره في رؤية الدولة 2030.
ويظل البطل تائهًا في الأرض لا يعرف له مكانًا يؤويه بعيدًا عن المحرمات والقانون والفقر سوى الشارع، منوهًا في نهاية العمل إلى أن هذا هو حال المواطن السعودي محدود الدخل. بين أروقة الظلام؛ حيث تتقاطع المآسي الشخصية مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي، يقدم الفيلم رؤية سينمائية جريئة ومؤثرة، تسلط الضوء على الفجوة بين ما يُرى وما يُخفى.
الفيلم ليس مجرد عمل درامي وحسب؛ بل هو شهادة على واقع يعيشه العديد من محدودي الدخل في الرياض؛ حيث تتصارع الأحلام مع قيود الفقر، والقيم مع الحاجة. مع نهايته، يتركنا الفيلم أمام تساؤلات عميقة حول العدالة الاجتماعية والمصير المشترك، ليثبت أن وراء القشرة اللامعة لأي مدينة، هناك دومًا حقائق إنسانية تحتاج إلى الكشف والفهم.