يقول هاروكي موراكامي في روايته "رقص رقص رقص" " نعرف أنك متعب.. متعب وخائف هذا يحدث لكل شخص، ارقص.. يجب أن ترقص، لا تفكر حتى في السبب".
يتخيل الإنسان دائما أنه في حاجة إلى أشياء كبيرة حتى يستطيع أن يواصل حياته، أو هكذا تخدعه المشاعر وتوقعه في فخ الاحتياج الدائم ليظل يركض وراء هدف تلو الآخر دون أن يصل لما يمكن أن يكون بالنسبة له هو النجاة أو الغاية أو”سعادته الخاصة”.
رغم ما يبدو من شاعرية فكرة ” البحث عن السعادة” إلا أنها توقع الإنسان في فخ دائم حول تعريفها، ماهيتها، كيفية تحقيقها، هل يمكن حقا أن ننال تلك الغاية العظمى البعيدة؟
ينظر علم النفس للأمر من زاوية أخرى، ليست زاوية البحث عن السعادة بل من زاوية النقيض؛ يقول عالم النفس جوردون بيترسون: “نحن لا نحتاج إلى السعادة أو للبحث عنها، ما يحتاجه الإنسان حقاً هو خلق معاني كافية لتبرير المعاناة”.
تلك العملية، عملية خلق المعنى، حسب وصف بيترسون في غاية الوضوح والبساطة، كل ما عليك هو أن تخلق روتينا يوميا تلتزم به وتمارسه من خلال هذا الروتين يتخلق معنى كاف لمعاناتك، وأن تقتنع بلا جدوى البحث عن “ما يسمى السعادة”، أولويتك الأولى ليست البحث عن السعادة بل السلام.
العديد من المبدعين والعلماء والأدباء عاشوا حياة قاسية لكنهم عاشوها بالفعل وكانت العجلة الدوارة التي خلقت التوازن المريح في حياتهم هو الروتين بالإضافة للفن أو الشغف الذين وهبوا حياتهم له، سواء كانت الكتابة أو الرسم أو العلم أو حتى الرغبة في التمتع بالحياة. من خلال هذا الروتين اليومي وتلك التفاصيل الصغيرة عاش أغلب المبدعين وخلقوا إبداعهم.
ما الذي نتحدث عنه حين نقول "التفاصيل الصغيرة"؟!
تعويذة الحياة وسحرها تكمن في التفاصيل الصغيرة، رغم ذلك ينشغل الإنسان بالصورة الكبرى وينسى التفاصيل، في البرنامج الوثائقي مسجون في الغربة يروي أحد المسجونين أن الأمر الذي أنقذه في السجن ليست الأحلام الكبرى بل عشقه للجري: “قلت لنفسي أنت تحب أن تفعل ذلك فافعله ببساطة!” ويبدو أن عقله من تلقاء نفسه بعد عملية روتين الجري يومياً قد وجهه تلقائياً إلى المخرج من معاناته ومن سجنه.
وكما أنقذ الجري ذلك السجين أنقذ الجري أيضا الروائي الياباني “هاروكي موراكامي” حتى أنه ألف مقالا يتأمل فيه فعل وروتين الجري الذي حافظ عليه منذ سنين طويلة حيث ساعده التعود على روتين يومي إضافة على الإقلاع عن التدخين، ساعده في التعود على ممارسة الكتابة يوميًّا لمدة أربع أو خمس ساعات يوميا بعد ساعات الجري الصباحية.
يقول موراكامي: “معظم ما أعرفه عن الكتابة تعلمته خلال الجري كل يوم. هذه دروس عملية وبدنية. إلى أي حد يمكنني دفع نفسي؟ ما هو القدر الكافي للراحة، وما القدر الزائد عن الحاجة؟ إلى أي حد يمكنني الاحتفاظ بشيء ما ويظل بصورة لائقة ومتماسكة؟ متى يصير الأمر ضيق الأفق وغير مرن؟ إلى أي مدى يجب علي أن أكون واعيا بالعالم الخارجي، وإلى أي مدى يجب علي أن أركز على عالمي الداخلي؟ إلى أي مدى يمكنني أن أكون واثقا من قدراتي، ومتى يجب أن أشكك بقدراتي؟ لو لم أمارس الجري لمسافات طويلة حين بدأت في كتابة الروايات، لأخذت كتاباتي منحى مختلفًا تماما. كيف؟ صعب علي أن أقول كيف. لكن شيئا ما سيكون مختلفا بكل تأكيد”.
أما حياة العالم “إسحاق نيوتن” فكانت عبارة عن ضربات متلاحقة خاصة طفولته التي قضاها مع عمه. مات والده وفضلت أمه الزواج وظل يتنقل بين بيوت الأقارب فشعر بعدم الانتماء، لكنه وجد نفسه في عملية حساب كميات العلف اللازم للأغنام والأبقار ومساحات حقول القمح ثم حساب تغيرات المسار الدقيق للشمس مع تغير الفصول، كان يعيش معاناة يومية حتى أنه كتب في دفتره المدرسي: “أنا طفل صغير. أنا ضعيف شاحب اللون. لا مكان لي؛ لا في البيت، ولا في قعر الجحيم! فماذا أستطيع أن أفعل؟ ما الذي أنا صالح له؟ لا أستطيع شيئًا غير البكاء”. لكنه تعلم أن يتبع شغفه وأن يخلق معاني كافية لمعاناته حتى أتم رحلته في سلام.
بعيداً عن السياق..متعة الدهشة الأولى
إذا كانت إمكانية واستمرارية الرقص في رواية “موراكامي” هى المنقذ أو السبب الكافي لتبرير للمعاناة كما جاء على لسان الشخص المقنع الذي يؤكد للبطل ضرورة الاستسلام لخطوات الرقص دون تفكير ودون التركيز في شعور الخوف أو الإرهاق من الرحلة.
الرقص الحر أو الارتجال والجري وراء الدهشة الأولى بلا سياق محدد هى أنشودة وأغنية "زوربا اليوناني" وتعويذته السحرية ضد معاناة الحياة.
فالروتين الذي حرص على اتباعه -إذا اتبعنا وصفة بيترسون- هو حمله لآلة السيناتوري على ظهره وحفاظه على التحليق في سماء الفراغ مستمتعًا بخيالاته الجميلة وحريته وفضائه اللامحدود، سفرياته وإعجابه بذاته التي تسحره وتعلق الآخرين بوجوده لأن وجوده ما بين لحظة وأخرى ليس أكيدا.
فزوربا دائم البحث عن متعة جديدة، عن شخص جديد، مغامرة أخرى تؤكد شعور الاستمتاع بالحياة، فهذه اللحظات المجمعة هي ترياقه الحقيقي ضد معاناة الحياة اليومية وليس بالضرورة أن نسميها “سعادة”.
كان اختيار”زوربا” هو أن يبتعد عن السياق أو”الروتين المحدد” الذي نصح به عالم النفس “بيترسون” والذي كان منهجًا دائمًا للعديد من المشاهير والكتاب، فاستخدمه الكثيرون للحفاظ على “سياق” النجاح ولخلق معان يبررون بها معاناتهم مثل “بيتهوفن” الذي كان يحافظ على المشي يوميًّا بعد الغداء ومعه قلم وورقة لتسجيل أي فكرة أو خاطرة، فضلاً عن جلوسه في القبو للتدريب لساعات طويلة.
كان المشي بمثابة الملجأ أو المنقذ أيضاً لدى الكثير من المبدعين لتهدئة العقل والأفكار مثل تشايكوفسكي وإريك ساتي وغيرهم وقد يكون ذلك هو بالضبط ما كان يحاول قوله “بيترسون” وهو يضع أولوية الشعور “بالسلام” كهدف أفضل من البحث عن “السعادة”.
ما بين اللاطمأنينة والحلم.. روتين الفراغ والسكون لدى فرناندو بيسوا
كانت حياة الشاعر والمترجم والفيلسوف البرتغالي “فرناندو بيسوا” يلزمها العديد من المعاني كي تبرر معاناتها، فقد عاش حياة انعزالية يتخللها الكثير من الأوقات الصعبة والوحدة والكثير من الأحلام، كان لدى “بيسوا” روتين يومي يحافظ عليه بشدة وهو ترجمته للرسائل وجلوسه في مكتبه رغم تنقلاته وترحاله تبعاً لظروف حياته القاسية.
كان يكتفي بالعيش بصفة “المترجم” أما بيسوا “الشاعر” أو “الكاتب” فهي صفات لم يهتم بها رغم تدفق إبداعه وأحلامه التي يصفها كثيرًا في يومياته. كان يفضل “بيسوا” الحُلم والكتابة عن العيش الفعلي في الحياة.
يقول بيسوا في يومياته: "دائما سعيت إلى أن أكون متفرجا على الحياة بدون أن أتورط فيها".
فربما يكون “بيسوا” هو الجانب المظلم من عدمية “زوربا”، غير أنه استخدم خياله في عيش حيوات أخرى كثيرة. قدم بيسوا أشعاره بـ 72 اسما وشخصية متخيلة، عاش خلالها يوميات مختلفة، فهي بمثابة أقران سريين له اشتهر من بينهم ثلاث شخصيات هم ألبرتو كاييرو، و ريكاردو ريس وألفارو دي كامبوس. إضافة إلى الأشعار التي قدمها باسمه الرسمي.
وكان يتبع دهشة الشعر ودهشة الإبداع كتفاصيل أساسية تساعده على مواصلة الحياة فيقول في يومياته: “الشعر دهشة وحيرة، مثل كائن سقط من السماء ثم تأكد أثناء سقوطه ذاهلاً من سقطته.”
وقد سجل في هذا الكتاب “يوميات” عن ترجمة “المهدى خريف” روتين كل يوم يمكن اختصار روتين أغلب تلك الأيام في الترجمة أو الكتابة والدراسة والقراءة والاستمتاع بالهدوء والغراف.
إن كنت تحاول البحث عن السعادة، فتوقف! وابدأ في خلق روتينك اليومي. لن تفيدك الثرثرة مع صديق حين تشعر بالتعب أو الخوف، ولا حتى البحث عن إجابات شافية لحيرتك عبر جوجل أو يوتيوب، كل ما تبحث عنه خارجك لن ينتج سوى المزيد من الحيرة، عليك أن تصنع رقصتك الخاصة من “قائمة التفاصيل الصغيرة” ثم فقط استمر في الرقص، واتبع نصيحة الرجل صاحب موراكامي المقنع: “إذا توقفت قدماك فسوف نتعطل نحن، فسوف تتعطل أنت/ لذا لا تفكر في شيء مهما بدا ذلك حمقا، يجب أن تواصل الخطى.. يجب أن تُمرّن جسمك، يجب أن تحلحل ما قمت بربطه، يجب أن تستخدم كل ما لديك، نعلم أنك متعب، متعب وخائف، هذا ما يحدث لكل شخص.. حسنا، فقط لا تدع قدميك تتوقفان.”