لو نظرنا بطريقة فوقية ومن الخارج إلى التاريخ البشري وتطوراته، نجد أنه وفي سياق طبيعة الحكم، لطالما عاش الإنسان وفق قوانين براغماتية تُمليها عليه الطبيعة ومتطلبات واقع الحال على الأقل في المرحلة ما قبل الزراعية، إلا أن الإنسان وابتداء من الثورة الزراعية التي تَشكلت فيه الجماعات السُكانية بدأ الإنسان يعتمد على أعراف تطورت على مر الزمن لتصبح قوانين تحكم طبيعة العلاقات فيما بينهم، وبين القوانين الشفاهية والأخرى المكتوبة، وبين تلكم المتفق عليها ونظيرتها التي فُرضت بالقوة طالما وجد الإنسان نفسه أمام حاجة ماسة إلى تجديد هذه القوانين وفقا للمتغيرات الحاصلة ووفقا للمصالح المتجددة.
إلا أن فكرة التدين وتطورها على مَر العصور جعلت الإنسانية أمام توليفة من القوانين الإلزامية الملتصقة بشخص الرب، الشأن الذي تداعى من ذلك تماهي القوانين الدينية مع كيان الإله، وبذلك فإن إنكار التشريعات “القوانين” الربانية هو إنكار لذات الإله ووجوده، وبذلك تنبثق إشكالية الثابت والمتغير في النصوص الدينية ما بين إعمال العقل في قراءة النصوص الدينية وبين الالتزام المطلق بالنص.
في إشكالية التعارض بين النص والعقل
تمر المجتمعات الإسلامية في الآونة الأخيرة وبالخصوص منذ انطلاق ثورات الربيع العربي “تجاوزا” بغمار جدال مستميت حول إشكالية التعارض بين النص والعقل، خصوصا فيما يخص التصور المستقبلي الذي يُعنى ببناء الدول والمؤسسات الحديثة في مرحلة ما بعد الثورات، وتعد التشريعات والقوانين إحدى أهم المرتكزات المُختلف عليها، حيث ترى الأحزاب السياسية الإسلاموية بضرورة التقيد بالنص الديني وعدم تكيفه باعتباره صالحا لكل زمان ومكان لاعتبارات عقائدية محضة، في حين ترى الأحزاب العلمانية ضرورة إعمال العقل في إعادة قراءة الموروث العقدي بغية تجاوز التشريعات الدينية باعتبارها موروثا تاريخيا، والشروع في إعمال العقل في التشريع بدل التقيد بالنص.
في الفصل بين العقيدة والتشريع
يقول رونيه ديكارت: "العقل أعدل قسمة بين الناس"
وللفصل بين العقيدة والتشريع يستوجب في الأساس التمييز بين كليهما:
- العقائد: مجموع عقيدة، والعقيدة هي ما يعتقده الانسان أو مجموعة من الناس، وفعل اعتقد أقل تأكيدًا من الفعل آمن؛ فالإيمان قطعي وجازم لا يشوبه النقص ولا يطاله الشك، بينما فعل الاعتقاد فهو في ذاته دال على النسبية، فاعتقاد المرء بشيء معين، يجعل من ذلك الشيء حقيقة بالنسبة له ولمن يتشاركون معه العقيدة، وما يعزز من نسبية المعتقدات تشعبها وتنوعها، فالمعتقد بالإسلام حقيقة لا يعتقد بغيره من المعتقدات على غرار اليهودية والمسيحية والزرادشتية… كحقائق، وعلى النقيض من ذلك فكل معتقد بغير الإسلام كحقيقة إنما هو ينكر كون العقيدة الاسلامية حقيقة بعينها، وهذا ما يجعل من اعتقاد المسلم أمرا نسبيا بالضرورة.
الحقيقة هي الشيء الذي لا يشوبها النقص ولا تطالها الشكوك، مسلم بها من طرف الجميع
والمقصود بالعقيدة في سياق المقال، هي مجموع الثوابت التي يعتقد بها الإنسان، ففي حالة المسلم، فإن العقيدة تُعنى بثبوت أركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان، والاعتقاد بها يجعل من الإنسان مسلما مؤمنا، الشأن الذي يجعل من التشريع أمرا ثانويا كما سنبين في العنصر الموالي.
- التشريعات: التشريعات هي مجموعة من القوانين التي تنظم العلاقة بين وحدة مجتمعية معينة، تختلف من حيث مصدرها إلى تشريعات ثيوقراطية (دينية) وأخرى مدنية (وضعية)، وتتضمن العديد من الديانات وخاصة السماوية منها على حزم من التشريعات المنصوص عليها في الكتب المقدسة وكتب التراث.
ولكون التشريعات الثيوقراطية منصوصة ضمن سياق زمني وجغرافي محددَيْن، يجعل منها عصية عن التجاوز والتحديث، وبذلك تربو إشكالية التجديد وإعمال العقل في قراءة النصوص، والمقصود في هذا السياق بإعمال العقل في النص المقدس، هي الحفاظ على الثابت في الأديان (المعتقدات؛ والتي تشكل أساس كل دين)، والاجتهاد في تفسير أو تعطيل النصوص التشريعية باعتبارها نصوصا محدودة بعامل الزمان والمكان، أو قراءتها ضمن سياقها التاريخي.
وفي سياق النص الديني السماوي (الإنجيل والقرآن)، نجد تحديثا متواصلا للتشريع، رغم ثبات العقيدة (التوحيد)، فلقد عمل العهد الجديد على تقويض وإعادة تحوير العديد من التشريعات التي تضمنها العهد القديم، بذات المنطق عمل القرآن على الحفاظ على الثابت في الموروث السماوي (العقيدة)، وتحييد التشريعات الموسوية (تشريعات النبي موسى)، ولعل الدارس في قضايا الإسلام، يجد من فكرة الناسخ والمنسوخ شكلا من أشكال التحديث والتجديد في النص الديني التشريعي، فمعظم الأحكام التشريعية في القرآن إما تم نسخها أو إعادة ضبطها وفق متطلبات الواقع.
الدول الإسلامية وأزمة التجديد
من أهم الإشكاليات التي تواجهها الدول الإسلامية وبالأخص الثيوقراطية منها هي:
- تعارض النص الديني مع ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
- عجز النصوص الدينية التشريعية على تقنين مستجدات العصر.
وانطلاقا من الاشكاليتين السابقتين تعيش الدول الإسلامية فوضى تشريعية، فقسم من تشريعاتها مستمد من نص الشريعة وغالبيتها يتنافى مع حقوق الإنسان على غرار قانون الأسرة والميراث، وأمام إشكالية عجز النص الديني على تقنين مستجدات العصر، فهذه الدول مُرغمة أن تعتمد على حزمة أخرى من التشريعات الوضعية، والتي تتنافى هي بدورها مع فلسفة النص الديني، وبفعل فوضى التشريع، تواجه هذه الدول إشكاليات فرعية فيما يخص تصور طبيعة الدولة ومؤسساتها، وكذا طبيعة العلاقة ما بين الإنسان والدولة.
وأمام هذه الإشكاليات ظهرت العديد من المدارس الفكرية التي حاولت إعمال العقل في النص الديني، لأغراض فصل العقيدة عن التشريع، وهي عديدة، نأخذ منها المعتزلة بوصفها مدرسة منبثقة من داخل التراث الديني الإسلامي، والعلمانية كحركة خارج السياق الديني، وهما على التوالي:
- المعتزلة: فرقة اسلامية كلامية ظهرت بالبصرة في أواخر العصر الأموي، الشأن الذي يجعلها من الناحية التاريخية أقدم من نظيرتها التي تفيد باستحالة فصل الشريعة عن العقيدة، إذ إنها نشأت في بداية القرن الثاني للهجرة، وقد تفيد تسميتها من الناحية الدلالية إلى حد ما على اعتزال أصحاب الفرقة للنقل والسمع، إذ تعد من أقدم المدارس الفكرية التي دعت إلى إعمال العقل في النص الديني وتقديم المصلحة على النص.
إذا تعارضت المصلحة مع النص، غلبت المصلحة على النص لأن النص ثابت والمصلحة متغيرة.
والأرجح في ذلك قصدا بتقديم المصلحة على “النص” النصوص التشريعية، كون العقيدة ثابتة، ولا تتعارض مع المصلحة المتغيرة للمجتمع سواء من منطق الجغرافيا أو الزمن، على نقيض النصوص التشريعية التي أثبت واقع الحال أنها غير صالحة لكل زمان ومكان الشأن الذي يجعل من المعتزلة من أوائل الفرق التي دَعت للفصل بين العقيدة والتشريع، والظاهر أن المجتمعات الإسلامية بحاجة لأفكار هذه الفرقة في عصرنا الحالي أكثر من أي وقت مضى، ونظرا لكونها فرقة إسلامية نشأت في ظل سياق ديني إسلامي، يمكن أن يخفف ويلين من تصلب الرأي اليميني للأحزاب الإسلاموية في استحالة ذلك، كونها (المعتزلة) إطارا مغايرا للطرح الثاني “العلمانية” من ناحية السياق والنشأة، على الرغم من قلة الفوارق فيما بينهما.
- العلمانية: “العلم-انية” أي إعمال العقل في تسيير شؤون الدولة، والعلم هو نتاج استخدام العقل في تدبر الأشياء من خلال مناهج فكرية تعمل على ضبط تفكير الإنسان وإبعاده عن الذاتية وتعزيز الحس الموضوعي بعيدا عن المشاعر والأحاسيس والمعتقدات.
طالت العلمانية مجموعة من الانتقادات اللاذعة في دول العالم الإسلامي، نظرا لكونها دولًا مغالية في تديُنها، فرأت في تحييد المعتقدات عن الدولة أمرا ينافي أصل الدين، وبذلك شُوهت العلمانية بتواطؤ الجماعات الإسلاموية باعتبارها فكرا معاد للدين، وأنها فكرة إلحادية غربية.
إلا أن منطق العلمانية لا يختلف كثيرا عن منطق المعتزلة إذ ترى العلمانية؛ أن الدولة كيان مادي، لا تَسري عليه قواعد التدين الروحانية، الشأن الذي يجعل من تحييد المعتقد عنها خدمة للدولة والمعتقد في الوقت ذاته، الدولة يجب أن تُحكم وفق قوانين وضعية “إعمال العقل” تجعل من جميع المواطنين متساوين أمام الدولة وقوانينها، مع حرية المُواطن في الاعتقاد “التدين” وممارسة شعائره أيا كَانت بكل حرية وتحت حماية القانون.