الأرض والدم، هما الرافدان الأساسيان للهوية الأمازيغية التي تغطي بلدان شمال أفريقيا، فكل من يعيش في أرض “تمازغا” ويناضل من أجلها فهو أمازيغي حتى وإن كان مهاجرا أو من أصول عرقية أخرى، كذلك فإن كل من يتشارك مع الأمازيغ في الدم فهو أمازيغي حتى وإن عاش في أقصى بقاع الأرض، هكذا هي الأمازيغية ثقافة وهوية متسامحة ومنفتحة على ذاتها وعلى الجميع، لكن وعلى رغم من هذا الانفتاح الثقافي والسلام السياسي واللاعنصرية في العرق إلا أن وباء معاداة الأمازيغية وُجد منذ القدم ولا يزال كذلك ينمو وينتشر في أيامنا هذه.
ولقد شهدت الساحة الثقافية والسياسية في العقود القليلة الماضية تناميًا غير مسبوق –بل ومرعب- لمعاداة الأمازيغية، وبخاصة في بلدان شمال أفريقيا، وسوف نحاول من خلال هذا المقال التفكير في هذا الوباء، وأقصد بالتفكير هنا هو محاولة الاقتراب من عمق الظاهرة المفكر فيها وتفكيك عناصرها بغية بلوغ ماهيتها الجوهرية، مبتعدين في ذلك عن التوصيف الظاهر للمسألة.
هل شمال أفريقيا أمازيغية ؟
يكمن انعدام المنطق في محاججة القضية الأمازيغية في الطرح القائل بأن القضية الأمازيغية تحتاج إلى استدلال برهاني على أمازيغية شمال أفريقيا، ولعل هذه المغالطة المنطقية، قد دفعت بقسم من المناضلين من أجل الأمازيغية ليحذوا صوب هذه المحاججة ومحاولة البرهنة على أمازيغية شمال أفريقيا، لنجد الكفة دائما ما تميل للبرهنة التاريخية أو الجينية أو الثقافية صوب أمازيغية شمال أفريقيا.
وأن المنطق السليم في المحاججة –إن كان لها داع في الأساس- يكمن في أنه على الذي يفترض كون شمال أفريقيا غير أمازيغية أن يدعم افتراضاته بدلائل وحجج تثبت ذلك، ومن جهة أخرى فإن هذا الادعاء في حد ذاته يخرج من إطار المحاججة المنطقية إلى منطق التصفية العرقية والاغتيال الثقافي، فإنه من الجنون أن يفترض الإنسان بكون شبه الجزيرة العربية غير عربية، أو أن يفترض بكون الدول الإسكندنافية ليست جرمانية.
إلا أن الغرض من هذا الافتراض ومن هذا الطرح ليس المحاججة المنطقية أو الحوار العقلاني التاريخي، بل هو الاغتيال العرقي عينه والتصفية الثقافية نفسها، وتكشف مثل هذه الافتراضات في عمقها عن أبرز تجليات معاداة الأمازيغية، لكن السؤال الأنسب في هذا السياق هو كيف؟ والسؤال الأكثر عمقا وأهمية يكمن في لماذا؟
في معاداة الأمازيغية
أظن أنه يتعين علينا قبل أن نجيب على السؤال السابق فإنه يتوجب علينا أولا أن نحدد بدقة المفهوم الذي نقصد استدعاءه في ذهن القارئ بتعبير “معاداة”.
إن المعاداة أو ANTI غالبا ما تستعمل مرادفا للعنصرية، والمقصود بالعنصرية هو رفض الآخر بما هو عليه “آخر” مختلف أو متميز، ولقد استخدم هذا المصطلح وبكثرة منذ أواسط القرن التاسع عشر في سياق معاداة السامية في أوروبا، وتعني المعاداة في هذا السياق رفض الآخر المختلف (عرقيا، دينيا، جنسيا…) باعتباره “هو” والتحريض عليه من خلال خطاب الكراهية لاغتياله معنويا أو ماديا، وتجدر الاشارة هنا إلى أن المعاداة في عمقها تعادي وجود “هذا الإنسان أو الجماعة” باعتبارهم موجودين وبذلك فإن أدوات المعاداة (الكراهية والتحريض) تصبو في جوهرها لإزالة هذا المختلف عنه من الوجود.
والسياق الذي نستدعيه من خلال هذا المصطلح في سياق معاداة الأمازيغية هو ما يشمل الأول؛ رفض الأخر (الأمازيغي) لأنه هو (أمازيغي)، وكذلك عدم الاعتراف بوجود هذا الآخر على الرغم من وجوده، وبذلك فإن معاداة الأمازيغية تتجاوز معاداة السامية في كون معاداة الأمازيغية ترفض حتى الاعتراف بوجود هذا الشعب، فالخطاب المستخدم في سياق معاداة الأمازيغية ينطلق من افتراضات تقوم على رفض الاقرار بوجود الأمازيغ وهذا ما ترتب عنه السؤال سالف الذكر (ما دليل وجود الأمازيغ؟) من خلال إنكار نسبة الأرض (شمال أفريقيا) للأمازيغ على الرغم من أن الهوية تقوم في أحد أقسامها على الأرض كما هي تقوم كذلك على الدم وفي ذلك يفترض خطاب المعاداة انعدام وجود الدم الأمازيغي الصافي.
معاداة الأمازيغية لماذا؟ وكيف؟
قد يبدو سؤال “لماذا معاداة السامية؟” غريبًا نوعا ما أو أنه سؤال ميتافيزيقي كالسؤال عن لماذا يوجد الموجود؟ إلا أنه وفي واقع الأمر سؤال جائز، فعندما يطرح سؤال من قبيل “لماذا معاداة السامية؟”، قد يحصل السائل على حزمة من الأجوبة على سبيل الاعتبارات الدينية وخاصة المسيحية منها في أوربا أو ما يتعلق بالرجل الأوروبي الأبيض المتسامي الذي سادت فكرته في ذلك الوقت كالرجل الآري.
ولكي نجيب عن هذا السؤال في الحالة الأمازيغية، لابد أوّلًا من أن نحدد مصدر هذا العداء، وفي ذلك لابد من العودة إلى جذور الصراع الذي تخوضه الأمازيغية مع الآخر، وفي ذلك أيضا لابد من الفصل ما بين الاستعمار والمعاداة، فإن كان الاستعمار في طياته يحمل شيئًا من المعاداة إلا أنه يختلف عنها؛ ذلك لكون الهدف الأخير للمعاداة هي الاغتيال الثقافي والوجودي لشعب معين في حين أن الاستعمار يطمح للسيطرة على ارادة الشعوب واستغلالها.
لقد شهدت بلدان شمال أفريقيا موجات متتالية من الاستعمار على مر التاريخ حتى قيام الدول الحديثة، وأن الخوض في غمار هذه الاستعمارات لا يسعه هذا المقال، إلا أن معاداة الأمازيغية بدأت مع قيام الدول الحديثة بشمال أفريقيا وذلك من خلال مستويين اثنين:
المستوى الخارجي: لقد عملت دول الشرق الأوسط من خلال القومية العربية وحركة الإخوان المسلمين على الحفاظ على تركة دولة الخلافة، أو محاولة إعادة دول الخلافة من خلال الحفاظ على تبعية جميع الأقاليم والدول التي تم غزوها (فتحها) من قبل دولة الخلافة، وفي سبيل بلوغ ذلك وخاصة في حالة شمال أفريقيا كانت الهوية الأمازيغية عائقًا دون تحقيق هدفها، وبذلك قامت بترويج خطاب القومية العربية وتصديره لبلدان شمال أفريقيا من خلال ما يعرف بسياسات التعريب والتي تبنتها في بادئ الأمر جامعة الدول العربية، ثم دول شمال أفريقيا وذلك لاغتيال الثقافة الأمازيغية من خلال تجميد منابعها على غرار اللغة والعادات والتقاليد… وفي سبيل تحقيق ذلك عملت على أن تستبدل بها قسرا الهوية العربية من خلال مؤسستي التربية والإعلام، وإلى جانب ذلك عملت حركات الإخوان المسلمين والسلفيين على شيطنة وتكفير الدعوى للأمازيغية باعتبارها موروثا وثنيا وأن العروبة والعربية من الإسلام فمن يعترض على العروبة والعربية فهو يعترض على الإسلام وعلى الرب، ولأغراض بلوغ ذلك بات على هذه الحركات، وخصوصا القومية العربية والإخوان المسلمين، اعْتُمدت أدوات المعاداة المتمثلة في إنتاج خطاب الكراهية والتحريض ضد الأمازيغية في المجمل وعلى كل من يتشبث بأمازيغيته.
المستوى الداخلي: من تجليات سياسة التعريب وخطاب المعاداة الذي تبنته بالأخص جماعات الإسلام السياسي هو تشكل جماعات ليست بالقليلة فاقدة للهوية واللغة الأمازيغية (لهجاتها) وهم من يعرفون بـ”الناطقين بالعربية” (Les arabophone) والذين يعتبرون أن أصولهم عربية ومن ضمن هذه الجماعة من يتبنى العداء للأمازيغية والأمازيغ، ولعل ذلك يعزى إلى:
- أن هذه الجماعة ومن خلال اعتقادهم بكونهم عربا، فمن شأن الهوية الأمازيغية أن تصورهم على أنهم غرباء عن الأرض والوطن، وبكونهم مهاجرين أو غزاة للأرض وهذا ما يدفع شريحة كبيرة منهم وبطريقة لا شعوريا إلى معاداة الأمازيغية وتبني خطاب الكراهية والتحريض ضدهم.
- أن هذه الجماعات ومن خلال إدراكهم بكونهم في الأصل أمازيغ وأنهم فقط متحدثون باللغة العربية (arabophone) فهذا يدفعهم بطريقة لاشعورية إلى مهاجمة الأمازيغية ومعاداتها لا لشيء سوى لإثبات عروبتهم والانتصار لمنطق القومية العربية وخطاب الإسلام السياسي.
أما فيما يخص “كيف يتم معاداة الأمازيغية؟” فإن جميع حركات المعاداة هي في الأصل تعتمد على ذات الوسائل منها:
- إنتاج خطاب الكراهية ضد الأمازيغ،
- التحريض على الحركات الأمازيغية باعتبارها حركات زبونية لجهات أجنبية،
- تكفير الأمازيغ،
- الاغتيال الأخلاقي؛ أي تصوير الأمازيغ بوصفهم منحلين أخلاقيا،
- تصوير الأمازيغ بوصفهم شعوبًا من درجة أقل بالمقارنة مع الشعوب العربية.
أمام موجات متنامية لمعاداة الأمازيغية، تقف الشعوب الأمازيغية وثقافتهم أمام حافة الانهيار والاندثار، وأمام موجات من الاغتيال المعنوي وخطاب الكراهية والتحريض، وهذا ما يستدعي على المناضلين من أجل الأمازيغية ثقافة ولغة وعلى كل مناضل من أجل الديمقراطية والتنوع والإنسانية أن يتكاتفوا من أجل سن قوانين محلية ودولية من شأنها الحد من هذا الوباء المتنامي، كذلك فإن المعالجة الفكرية والإعلامية من خلال التوعية التي من شأنها إحداث الفارق على أرض الواقع، فالمعاداة لا تخدم سوى المعاداة، وما واقع العداء ما بين جماعات القومية العربية والإخوان المسلمين بين بعضهم وفي ما بين كل واحدة منهما أصدق برهان على ذلك.
الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب وحده ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.