هل بالإمكان فعلا أن يتحول الوحش إلى حمامة سلام؟! وننتهي منه مرة وللأبد؟ أم أن الوحش الذي نواجهه هو وحش “الهايدرا” تلك الأفعى العملاقة ذات الرؤوس المتعددة التي واجهها البطل الأسطوري هرقل، والذي كلما قطع لها رأسا نبت له رأس جديد؟!
هل بالإمكان أيضا، أن نتخيل أن الولايات المتحدة الأمريكية، سلمت ميليشيا طالبان الإرهابية طبق أفغانستان لوحدهم، حتى يتحكموا بمصير أكثر من 37 مليون إنسان لمجرد أن الولايات المتحدة الأمريكية قررت الانسحاب من أفغانستان بعد أكثر من عشرين عاما على تواجدهم العسكري، وصرف العديد من المليارات الدولارية والأنفس البشرية، والتحديات العالمية؟ أم أن دوائر الاستخبارات الغربية والإسرائيلية والأوروبية هي وحدها من تعلم الحقيقة وخفايا الأمور، بينما حكام العرب والمسلمين وشعوبهم مثل الأطرش بالزفة؟
لقد قيل الكثير في التغريدات والمقالات التي تحلل وتفكر وتستشف وتتنبأ، وبعضها يخربط، حول جدوى وقيمة، أو هزيمة وانكسار الولايات المتحدة في أفغانستان. ولكن كما أسلفت، فغالبية هذه التحليلات لا تخرج عن تمنيات أو رؤى قاصرة أو إستراتيجية أجندات، خصوصا إذا علمنا أن من يحيط أفغانستان، هم إيران من الغرب، والصين من الشرق، وباكستان (حاضنة طالبان السرية) من الجنوب، وطاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان من الشمال، وهذا لعمري فخ كبير، وأزمات قادمة، وتهديدات كبيرة لدول يتم التخطيط لإزعاجها، وصراع القوى والنفوذ وإسقاط الخصوم، وتغييرات لمصادر الطاقة ومرور النفط ورسم الشكل الجديد للخريطة الدولية.
فماذا نفهم من هذا الانسحاب؟ وكيف تم؟ ولماذا؟ ومن هي ميليشيا طالبان؟ وكيف وصلوا إلى السلطة بهذه السرعة برعاية أمريكية، وقبول ضمني غربي على تواجدهم؟ بل وحتى تصويرهم وكأنهم حمامة سلام سوف تحكم بالديمقراطية والعدالة والمساواة؟ لاشك انها أسئلة محيرة، وتساؤلات مربكة، ووقائع لا مفر لنا إلا بمواجهتها والاستعداد لما بعدها وإلا لأصابنا العته والبلادة والخراب.
وحتى نفهم الانسحاب، علينا أن نقرأ طالبان. طالبان هي حركة قومية إسلامية سياسية سنية، وتعنى كلمة طالبان بمعنى “طلبة”. وقد تأسست على يد الملا محمد عمر، قليل الظهور والتصوير، في سبتمبر 1994، وتوفي في 29 يوليو 2015. وقد انتشر فكر الحركة بعد نهاية التدخل السوفييتي في أفغانستان عام 1978، وأصبح واضحا ومؤثرا للعيان بعد انتهاء الحرب الأهلية في أفغانستان في العام 1996.
كان من أهم أهداف طالبان، هو الحلم الأسطوري لجميع تيارات الإسلام السياسي (السنية والشيعية)، وهو إعادة منهج الخلافة الإسلامية وتطبيق الحدود وغزو البلدان وفرض الجزية على الكفار وأهل الكتاب. وقد فعلت طالبان ومارست في سبيل ذلك العديد من الفظائع الوحشية والقتل الممنهج والتعذيب الدائم باسم تطبيق الشريعة الإسلامية، حتى دخلت كابل في 27 سبتمبر 1996 وأنشأت إمارة أفغانستان الإسلامية، حتى سقوطها بعد التدخل العسكري الأمريكي لأفغانستان في أكتوبر 2001 على خلفية اتهام طالبان بتدريب الإرهابيين وحماية أسامة بن لادن.
إذن لم تكن طالبان، سوى مفرخة جديدة من تيارات الإسلام السياسي، ولم يكن جنودها سوى أفراد مؤدلجين على القتل والتعذيب وتطبيق الحدود، ولم تكن أطماعها تتجاوز إقامة الشكل التقليدي للخلافة الإسلامية، مع بقاء كل أشكال الجهل والتخلف والعنف والفساد بلا حلول. فلا يهم لمن يحمل عقلية الخلافة الإسلامية، أي مقدار من التنمية والتحضر والإنسانية والعلم والفن والحياة. فالغالبية منهم مستعد للموت والتفخيخ وقتل الأبرياء من أجل ضمان الدخول السريع إلى الجنة. لم تكن طالبان سوى حلم الشباب العربي البائس في عودة زمن الصحابة والأنبياء، في التخلص من تجليات الاستبداد العربي في العائلة والمدرسة والمسجد والحكم، في تعزيز المواطنة والعدالة والمساواة والحريات. لكن الحقيقة الصادمة، بأن طالبان لم تكن سوى امتداد عبثي من الفوضى الدينية التاريخية، وفشل دعوات الإصلاح الديني، وغياب مشاريع الحداثة والعلمانية والرفاه الاقتصادي للمواطن العربي. في الحقيقة، لم تكن طالبان سوى حجر دومينو تم استغلاله بجدارة في تهديد الدول، وفي فرض الشروط، وفي تفجير الأبرياء، وفي التخطيط بعيد المدى لمواجهة المد الصيني وإزعاج روسيا. في الحقيقة، لم تكن طالبان سوى خيال مآته يتم استخدامه كل مرة، بأشكال مختلفة وأدوار متعددة متى ما اقتضت الحاجة لمن يحرك المشهد السياسي في آسيا، وهو قابع في الغرب أو في الشرق.
رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يصرح "سنعمل مع طالبان اذا لزم الامر لإيجاد حل لمشكلات أفغانستان، وأضاف بأنه يجب الحكم عليهم من خلال أفعالهم وليس أقوالهم
بمقدار ما كان انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان محيرا نوعا ما، بقدر ما كانت قدرة طالبان على احتلال أفغانستان غامضة أيضا، رغم وجود جيش أفغاني كبير، بل وتم تدريبه بعناية مع تواجد أسلحة حديثة أمريكية، إلا أن وصول مليشيات طالبان إلى العاصمة كان بفترة وجيزة، تدل على وجود مخططات سابقة وتفاهمات قد جرت وانتهت. مما يدعونا إلى إطلاق حزمة كبيرة من التساؤلات المستحقة: هل كانت الولايات المتحدة الأمريكية لها غايات أخرى في أفغانستان، غير قتل بن لادن وتصفية الإرهابيين؟ هناك أيضا تقارير تتحدث عن مصادر طاقة، وعن تشكيل تحالف جديد لمواجهة دول أصبحت تؤرق التواجد الأمريكي. كما يقال إن رحيل القوات الاميركية، ما هو إلا اتفاق مسبق بينها وبين ميليشيا طالبان لحماية المصالح الأمريكية. كما أن العديد من التحليلات تشير إلى ضلوع دول خليجية في دعم ميليشيا طالبان لاستخدامهم كعصا إرهابية داخل بعض الدول الخليجية.
لكن ما هو الأغرب حقيقة، هو تصريحات بعض الدول الأوروبية، وعلى لسان زعمائها بالنية الصادقة للتفاهم مع طالبان. فها هو رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يصرح “سنعمل مع طالبان اذا لزم الامر لإيجاد حل لمشكلات أفغانستان، وأضاف بأنه يجب الحكم عليهم من خلال أفعالهم وليس أقوالهم”.. هكذا، تخيل عزيزي القارئ، وحتى أصدمك أكثر، اقرأ ما تقوله السيدة ميركل ونقلته الجزيرة “طالبان تحكم أفغانستان، وعلينا إجراء محادثات معها”.
هنا، لا يصرح زعماء الغرب وأوروبا بمثل هذه التصريحات المتشابهة، وخصوصا حول ميليشيا إرهابية، اكتوى بنارها ومفخخاتها شعوبهم ومجتمعاتهم، إلا بمحادثات وموافقات مسبقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، بل وأكاد أجزم، بأن أوروبا ودول غربية كثيرة بصدد الاعتراف بطالبان، والتعامل السياسي والدبلوماسي معها، لأهداف لم يعلن عنها حتى اللحظة، ولم تظهر إلى العلن حتى اليوم.
لقد أثار انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان الدهشة على الجميع، وعلى النخب السياسية والفكرية، فإذا عرفنا أن خطط الولايات المتحدة الأمريكية، منذ فترة حكم ترامب، كان التلويح بخروج القوات الأمريكية من المناطق الخطرة، فخروجهم هذا، وقبل العراق، إنما يعطى دلالة على انتهاء المهمة القتالية في أفغانستان، وعلى نهاية عصر الحروب البرية والعسكرية، وعلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى ترميم الداخل أكثر من مساعدة أهل الخارج.
منذ فترة حكم ترامب، كان التلويح بخروج القوات الأمريكية من المناطق الخطرة، فخروجهم هذا، وقبل العراق، إنما يعطى دلالة على انتهاء المهمة القتالية في أفغانستان، وعلى نهاية عصر الحروب البرية والعسكرية للولايات المتحدة الأمريكية
بينما أثارت النخب الفكرية أكثر من اتهام للولايات المتحدة الأمريكية، وخداعها للشعوب المستضعفة بجلب الديمقراطية والحريات إليهم. كما أثار بعضهم إلى مدى هشاشة جيش الولايات المتحدة الأمريكية وقدرة ميليشيا جبلية غير مسلحة ولا مدربة جيدا، على هزيمة الجيش الأول في العالم. وأرى هنا، بصفة المطلع، بأن الكثير من الأحداث غير معلنة، وأن العديد من القراءات غير متاحة، وأن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان، لا يمكن فهمه إلا من زاويتين لا ثالث لهما:
- إما انسحاب رسمي سياسي بناء على معطيات قومية وأمنية، ورغبة داخلية يتحمل مسؤوليتها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية،
- وإما أن هناك صفقة سرية لا نعلم عنها شيئا إلا ما خرج إلى وسائل الإعلام.
ولمن يتساءل في النهاية، وماذا عن حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية والمرأة، التي صدعت بها رؤوسنا الثقافة الأمريكية والحداثة الغربية والحضارة الإنسانية؟ هنا أقول لمن يتساءل عن مثل تلك الأقاويل، بأن الشعب، أي شعب في العالم، إذا استكان لفترة طويلة لحكم الاستبداد والتخلف والوصاية، ورغب في القمع وتساهل مع الفساد ورضي بالجهل، فليست هناك قوة على وجه الأرض يمكن أن تساعده أو تزيل عنه شبح الاستبداد. فلا أمريكا ولا إسرائيل ولا أوروبا، بمقدورهم مساعدة العرب والمسلمين، إذا لم يرغب هؤلاء أولا بمساعدة أنفسهم، والثورة على ثقافتهم وقيودهم، والتخلص من جور الحكام وسلطة رجال الدين.
في النهاية، الطالبانية حالة إسلامية إرهابية لا تختلف عن مثيلاتها في مختلف المذاهب والأديان. هي تتواجد في عقول متزمتة متوحشة، وتتغلغل في هياكل الدول بفضل الدعم السخي من قبل تجار الدين والفقهاء، ومن قبل الحكومات التي تجد في التطرف فرصة عظيمة لتشتيت انتباه الجماهير عن قضايا الديمقراطية والحريات.
تظل طالبان حالة دينية نفسية يتعلق بها العقل العربي المسلم، لأنها امتداد لتاريخه ومعتقداته وأحلامه. فعندما رجعت طالبان إلى السلطة، لم نتفاجأ بأن هناك العديد والكثير ممن رحب وهلل لطالبان وحكمهم، ممن رأى بصيص الأمل في هؤلاء القوم الذين لم يتوانوا عن رجم المرأة وقطع الايادي وتفجير الأبرياء. فأي مستقبل تحمله لنا طالبان في القريب؟ ومن فتحت الولايات المتحدة الأمريكية الباب له ليكتوي بنيران إرهاب طالبان؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب وحده ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.