لا تخلو أي لغة من مفردات السُباب والشتائم، فلطالما كانت هذه الألفاظ موجودة و متأصلة في ثقافاتنا على اختلافاتها، فنحن كبشر نملك خاصية اللغة التي تعمل بدورها كأداة تعبيرية عن الحالة النفسية التي نود إيضاحها عبر الكلمات فنمدح تارة و نذم تارة أخرى ونقوم بالتعبير عن آرائنا بلغة منمقة وجمل مرتبة بعض الأحيان ونعبر عما يجول في خواطرنا بأقذع الألفاظ والشتائم في أحيان أخرى، إذ إن الشتم والسباب جزء من التعبير عن الغضب ووسيلة للتنفيس عن الكبت والمخاوف إضافة إلى كونها وسيلة محاربة.
لماذا نلجأ للسُباب؟
وجدت أثناء بحثي عن موضوع مفردات الشتائم بأنها طريقة مشابهة للبكاء؛ فهي طريقة علاجية مثله تماما إلا أنها الوجه القوي للبكاء، فعندما تلعن شيئا أو شخصا وكأنك تدعي بذلك أنك بخير وتفوقه قوة، كقولك بأن شيئا غير مبارك سوف يحل بهذا الشيء أو الشخص.
ولهذا السلوك رابط ديني تم اكتشافه عبر التاريخ، فمثلا لابد أنك سمعت عن لعنة الفراعنة، حيث تم اكتشاف جملة على قبر (توت غنخ آمون) تقول التالي: (سيضرب الموت بجناحيه كل من يعكر صفو الملك)، ناهيك عن اللعنات المذكورة في الكتب المقدسة حيث لعن الله (قايين).
واللعنة ما هي إلا إعلان عن سوء الحظ وانقطاع البركة عن هذا الشخص الملعون. ويحدث هذا الشيء -اللعنة أقصد- عند معارضة شخص لجماعة أو إرادة واحدة تتمثل في ملك أو دكتاتور وقد يمتد الامتثال لهذه السلطة حتى بعد الموت كما هو مكتوب على قبر عنخ آمون، أما عن المطلوب من ذلك الترهيب فهو إبقاء الأفراد تحت السمع والطاعة وليكون الفرد تام التهذيب عليه ذلك وإلا فستحل عليه اللعنات.
تطور السُباب عبر التاريخ
وطأة هذه الفكرة بقيت سائدة مع تطور الأمم من الحضارات القديمة حتى اليوم ولكنها تطورت كما تطور كل شيء، ومن ضمن ذلك اللغة. وعلى الرغم من أن العناصر النفسية قابلة للتغيير إلا أن بعضها باق ما بقينا وقد تختلف تجلياتها فقط من عصر إلى آخر؛ فبداية السُباب والشتائم كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدين والإله كونه السلطة العليا والأكثر تخويفا للشعوب، ثم حدث تطور من استخدام (لعنك الله) أو (لتحترق في الجحيم) إلى استخدام الفضلات في اللعن والشتم وأعنى هنا الفضلات البشرية التي تحولت في أغلب اللغات إلى لفظة مستخدمة لإهانة الشخص المراد شتمه وصارت شائعة أكثر من طلب لعنة الله أو لعن إله الشخص المقابل ولربما حدث ذلك بسبب تطور الوعي واختلاف عناصر ومعايير التخويف والترهيب عبر الزمن.
ويذكر بعض المحللين النفسيين بأنها كلمة تشعرك بالراحة لمجرد لفظها، فكما ذكرت سابقا بأن التلفظ بهذه المفردات يعطيك شعورا بالتفوق ويمكّنك من تحمل الألم ولربما استخدام الألفاظ النابية يمكّنك أيضا من السيطرة على شعورك بشكل من الأشكال، ولست متأكدة هنا من المنطق العلمي لهذا الأمر إذ إن الاختلافات النفسية بين فرد وآخر متباينة جدا ولا نستطيع الجزم بذلك إلا أننا نعلم بأن هذا الأمر يحدث عند الاضطراب والاضطراب بدوره يولد الغضب، والتلفظ بالألفاظ النابية تجلٍّ لهذا الغضب البشري.
أعضاء المرأة الجنسية كلفظ للإهانة
بعد تطور الشتائم واستخدام ألفاظ اللعنة من لعنة اﻹله إلى لعنات مرتبطة بالقاذورات والتغوط بغية إهانة الشخص بتخيل ذاته مملوءا بالغائط أو بتناول هذه الفضلات مثلا، ظهرت لدى الشعوب نزعة قوية لاستخدام الأعضاء الجنسية للسباب والشتائم وظهر هذا الميل موجها نحو المرأة على وجه الخصوص، فمثلما كان تابو الملك مهما جدا بالنسبة للرعية فإن تابو الأخت والأم صار مهما جدا بالنسبة للأفراد في عصرنا هذا وندرك جيدا بأن تابو الملك والكاهن أبقى على امتيازاتهم، ومن أجل تحطيم هذه التابوهات لاحظنا استخدام الألفاظ ذات الدلالات الجنسية لكسر التابوه.
مواجهة السلطة من خلال عضو المرأة
في المظاهرات اللبنانية السابقة استخدم المحتجون والمتظاهرون الألفاظ والشتائم الجنسية لمجابهة فساد السلطة، وتحديدا الشتائم المرتبطة بالعضو الجنسي الأنثوي. وهذه ليست مصادفة أو رواسب لغوية عالقة في وعينا الجمعي، بل إنها ما حالت إليه قصة تطور الشتائم حتى صارت هذه الشتيمة هي الأكثر شيوعا؛ كاستخدام عضو المرأة كأداة إهانة للطرف المقابل وكأنهم بذلك يقولون أنت لست منا أنت ابن امرأة (عاهرة) منبوذة وبذلك تكون منبوذا أيضا.
صار عضو المرأة الجنسي هو الأضحية التي تتناولها الألسن بهدف الإقصاء والنبذ ويحدث ذلك بموافقة الجميع على أنه عمل بطولي ينم عن قوة وانتصار، ففعل وطء أم الحاكم مثلا تصرف ينم عن نجاسة ويراد به الإهانة إذ إن النساء المرتبطات بكيان شخص ما يمثلن شرفه وهذه الفكرة ما هي إلا فكرة سارية مثلها مثل الأعراف الأخرى حتى الآن، بل ويبدو بأن الشتم باستخدام عضو المرأة أمر باعث على الفرح والسرور لكلا الجنسين!
وباعتبار أن هذه الأصوات الثورية التي تطالب بحقوقها بعد انشقاقها عن الجوقة (النظام) تقوم بعمل بطولي من خلال نضالها فلا بد أن تكون أكثر وعيا إلى استخدام ألفاظها، ولكنني أعلم يقينا تاما بأن هذا أمر بالغ الصعوبة إذ إننا تعودنا على التعبير عن غضبنا من خلال استخدام الألفاظ ذاتها فمثلا لم ننشأ على شتم شخص كأن نقول له قذر أو أرعن أو صفيق وأحمق، بل نتوجه فورا إلى شتم أمه أو أخته دون أدنى ذرة تفكير.
وكي لا نظلم الجميع فقد ظهر توجه آخر مناهض لهذا السلوك من خلال الحراك النسوي في عدة ثورات ومظاهرات في عمّان وبيروت، إلا أن الصوت الأعلى للشتم باستخدام العضو الجنسي للمرأة كان هو سيد المشهد أو لنقل سيدة على الأقل! إذ إن العضو يخص النساء.
أصل الكلمة ودلالاتها النفسية
ماذا قد يفيدنا معرفة جذر الكلمة و تتبع سياقها التاريخي؟
أجاب على هذا السؤال الدكتور عبدالرحمن السليمان وهو لغوي وأديب ومترجم، يقول الدكتور بأن تتبع أصل الكلمة وجذرها يفيدنا في معرفة كيفية استخدامها وأن الإيتيمولوجيا أو ما يسمى بالعربية علم التأثيل (تتبع أصل وجذور الكلمات) إضافة إلى علم اللغة المقارن وهو (علاقة الصيغ ودلالتها المعنوية) يوضح لنا تاريخية هذه المفردات التي نستخدمها بغية تصويب الأخطاء والمفاهيم المستخدمة وضبطها في اللغة؛ إذ إن اللغة العربية -بحسب قوله- تحتوي على فوضى مصطلحية وقد يحمل مفهوم واحد عدة معان ودلالات؛ لنأخذ الفعل (باع) على سبيل المثال، فهو فعل يحمل معنيين معنى البيع ومعنى الشراء في آن معا ولا يظهر المعنى المراد به إلا من خلال السياق الكامل للجملة.
أما بالنسبة للألفاظ النابية فلم تكن كذلك إلا عندما وظفناها هذا التوظيف عبر الزمن، وفي بحث سريع على الإنترنت قد نجد قصصًا كثيرة وتأويلات، فمثلا إذا بحثنا عن أصل كلمة (قحباء) فسنجد قصة الكثبان الرملية المرتفعة التي يصعد عليها الرجال في الصحراء وهو فعل يدل على ركوب الشيء وتم إسقاط هذه الصورة على المرأة التي توصف بذلك إذا كانت تمارس الجنس كثيرا مع رجال متعددين.
وذلك يجعلنا نفكر بكيفية تحول لفظ عضو المرأة إلى مسبة، إذ إن ذكره فقط يعطي دلالة على القيام بفعل المضاجعة دون ذكرها صراحة.
نهاية، إن ما لا يجوز المساس به يستخدم لعملية تحقير وإذلال عبر عبارات تبرز فعلين (مقدس ونجس) وأن ما يجري حظره كما يقول فرويد في كتابه الطوطم والتابو يكون الأكثر اشتهاء، فالرغبة في السباب تتزايد مع حظرها، بيد أننا نستطيع تعديل المصطلحات المستخدمة للسباب والتعود على عدم ربط أعضاء المرأة كأداة تحقير وإهانة، عضو المرأة يقوم بعملية بيولوجية هامة مثله مثل العضو الذكري تماما، عضو المرأة ليس مقدسا ولا نجسا كذلك.