على إثر الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، منتصف شهر آب/أغسطس الجاري، بموجب اتفاق السلام الذي جرى بين حركة طالبان والولايات المتحدة في العاصمة القطرية الدوحة، شباط/فبراير 2020، أصبحت العاصمة كابول والكثير من المدن تحت سيطرة الحركة، وتمكنت من الدخول إلى القصر الرئاسي بعد هروب الرئيس أشرف غني، الأمر الذي يبعث بمخاوف عديدة من أن تتحول الدولة مرة أخرى إلى قاعدة للجهاد العالمي، خاصة أنها كانت معقلا للتنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها القاعدة، بقيادة زعيمها السابق أسامة بن لادن.
بنود الاتفاق ومستقبل طالبان
يبدو الأمر مختلفا عن السابق؛ إذ أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، أوضح على إثر الانسحاب، أن الهدف منه هو منع استهداف واشنطن بهجمات إرهابية تنطلق من أفغانستان، وبناء على ما جرى الاتفاق عليه، قد تعمل حركة طالبان جاهدة للمحافظة على شروطها مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومنع أي هجمات إرهابية قد تنطلق من كابول إلى واشنطن، لكن هذا لا يمنع أن تستمر الحركة في نشاطها، أو تظل داعمة للتنظيمات الحليفة، خاصة القاعدة، على السير في طريقها الجهادي.
وهناك احتمال آخر، يتمثل في أن طالبان ربما تريد أن تضفي الشرعية على ذاتها أمام الدول الأخرى، لكي يعترفوا بها كقوة متحكمة في أفغانستان، مثلما حدث سابقا من باكستان والسعودية والإمارات، لكن هذه المرة ترغب في اعتراف أكبر، ما قد يدفعها إلى محاربة التنظيمات الجهادية على أراضيها، ومنع أي هجمات قد تنطلق من كابول إلى دول أخرى، خاصة من تنظيم داعش، الذي يعد عدوا لدودا للحركة، والظهور بـ”طالبان جديدة” غير المتعارف عليها.
وعلى الرغم من تأكيد حركة طالبان على لسان المتحدث باسم المكتب السياسي، محمد نعيم، في تصريحات تليفزيونية، 22 آب/أغسطس الجاري، أن تنظيم القاعدة غير موجود في أفغانستان، وليست للحركة علاقة به، إلا أنه قبل هذا التصريح بأيام قليلة، أكدت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون”، خلاف ذلك؛ إذ ذكرت في تقريرها الربع سنوي للكونجرس، أن الحركة “واصلت الحفاظ على العلاقات مع القاعدة، وتوفير ملاذا آمنا لجماعة إرهابية في أفغانستان”.
كما أن هناك تقرير للأمم المتحدة، صدر في حزيران/يونيو الماضي، أي بعد الاتفاق بين الحركة والولايات المتحدة، أكد هذا الأمر أيضا؛ إذ ذكر أن “طالبان والقاعدة ما زالا متحالفين بشكل وثيق، ولا يظهران أي مؤشر على قطع العلاقات”.
التقرير ذاته أكد أن هناك أعدادا كبيرة من مقاتلي تنظيم القاعدة وعناصر إرهابية أخرى متحالفة مع الحركة موجودون في أجزاء مختلفة من أفغانستان، واحتفلوا بخروج القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي من البلاد، معتبرين أنه انتصار للراديكالية العالمية.
ويبدو أن ذلك بمثابة لعبة تكتيكية من حركة طالبان، تريد بها تهدئة الأوضاع، وطمأنة الولايات المتحدة على التزام الحركة بما جرى الاتفاق عليه في الدوحة، وإن كانت الحقيقة على خلاف ذلك؛ إذ أنه على مدار السنوات الماضية، لم تنفك الحركة عن تنظيم القاعدة، وإنما كانا بمثابة الجسد الواحد.
ومن ناحية أخرى، يعد انسحاب أمريكا برغم علمها بترابط طالبان والقاعدة، بجانب وجود فرع لتنظيم داعش في أفغانستان، اعترافا بفشل حربها على الإرهاب طوال السنوات الماضية، وأنها سئمت اللعبة، التي لم تحقق منها سوى انتصارات تكتيكية، دون نجاحات استراتيجية حقيقية.
هل تنجح طالبان في منع عمل التنظيمات الجهادية على الأراضي الأفغانية؟
محمد نعيم، المتحدث باسم المكتب السياسي للحركة، لفت إلى أن اتفاق السلام كان أحد مخرجات مفاوضاته، عدم السماح لأي جهة متطرفة باستخدام أراضي أفغانستان، لكن تنظيم داعش يتواجد هناك بالفعل، تحت مسمى “ولاية خراسان”، ويتخذ من إقليم ننجرهار بمدينة جلال آباد، على الحدود الباكستانية، شرق أفغانستان، مقرا له، ونفذ بالفعل عمليات إرهابية كثيفة استهدفت المستشفى العسكري، وسجن كبير بالمدينة، بجانب القصر الرئاسي ذاته، ووقعت اشتباكات دامية بين الحركة والتنظيم، في ظل الوجود الأمريكي، ما ينذر بتحول أراضي أفغانستان إلى ساحات للقتال بين الجماعات المتطرفة، وتحولها إلى برك من الدماء، خاصة أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، اعترف في 25 آب/أغسطس الجاري، بأن قرار إنجاز الانسحاب يرجع إلى تزايد خطر شنّ الفرع المحلّي لتنظيم داعش هجمات على القوات الأمريكية في كابول.
وعلى أرض الواقع قد لا تستطيع حركة طالبان منع عمل التنظيمات الجهادية على أرض أفغانستان، خاصة داعش، بدون وجود القوات الأمريكية، التي كانت داعما أساسيا للحركة في حربها ضد التنظيم، ويدلل على ذلك أنه قبل اكتمال الانسحاب الأمريكي، تبنى التنظيم الإرهابي التفجير الانتحاري الذي وقع قرب مطار كابول، في 26 آب/أغسطس، وأسفر عن سقوط نحو 160 قتيلا وجريحا، منهم 20 من القوات الأمريكية، والذي نفذه عنصر تابع له يدعى “عبد الرحمن اللوغري”.
تحول أهداف الجهادية العالمية
من ناحية أخرى، لا يعني التزام طالبان بشروط الاتفاق مع الولايات المتحدة بمنع أي جماعة مسلحة من استخدام الأراضي الأفغانية كقاعدة للتخطيط لشن هجمات على أمريكا وحلفائها، تخلي الحركة عن احتضان الجماعات الجهادية، أو فك ارتباطها بتنظيم القاعدة، وإنما قد يشير إلى تحول أهداف الجهادية العالمية، واتباع نهج جديد، ترتكز أسسه على استهداف العدو القريب، بدلا من مواجهة “القريب”، والعودة إلى ما كان عليه حال الجهاد سابقا، قبل هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001.
وما يدعم هذه الرؤية، أن “قاعدة الجهاد في جزيرة العرب”، أحد فروع التنظيم، أشادت بسيطرة حركة طالبان على أفغانستان، متعهدا بمواصلة القتال والجهاد، معتبرا أنه سبيل واقعي لاسترداد الحقوق، وأن “لعبة الديمقراطية والعمل بالسلمية المجردة هي كسراب خادع”، وفي الوقت ذاته ترى الحركة، بحسب ما جاء في أحد الحسابات التابعة لها بموقع “تليجرام”، أن تنظيم القاعدة يجب عليه أن يلتزم بالبيعة، مستبعدة أن يستجيب ما أسموهم “الدواعش” لهم، خاصة أنهم يرونها “كافرة”، و”مرتدة”، بسبب قبولها التفاوض مع الولايات المتحدة.
وبالفعل بعد أنباء الانسحاب الأمريكي، وتحديدا في 19 آب/أغسطس الجاري، هاجم تنظيم داعش من خلال افتتاحية العدد رقم 300 من صحيفة النبأ التابعة له، حركة طالبان، معتبرا أنها تعاونت مع الأمريكان عبر اتفاقات تمت في فنادق الدوحة، وسلمت واشنطن العاصمة كابول إلى الحركة دون أن تراق قطرة دم واحدة، مؤكدا: “طالبان الجديدة لم تعد توصم بالإرهاب، ولم يعد في الثناء عليها أي خطر أو ملامة”.
ولا بد من الإشارة إلى أن كلا من القاعدة وداعش يختلفان عن حركة طالبان؛ إذ أن الأخيرة لا ترغب سوى في بسط نفوذها على الأراضي الأفغانية، وإقامة الإمارة الإسلامية على أرض كابول، بينما الأوليين لا يعترفان بالحدود، وقد يجد داعش في أفغانستان معقلا أساسيا له، بعد أن فقده في سوريا والعراق أواخر عام 2017، ليطمئن به قلوب أتباعه، ويجذب مزيدا من العناصر إليه، ما ينذر بحروب دامية، واشتباكات طويلة بين الحركة والتنظيم.
صعود طالبان وإلهام المتطرفين
أما على مستوى الجهادية العالمية، فقد يمثل تحكم طالبان في السلطة، وقدرتها على بسط سيطرتها على معظم أو كل أجزاء البلاد، مصدر إلهام للمتطرفين في ربوع العالم؛ إذ أنه قد تعتبر التنظيمات الإرهابية الأخرى أن ذلك بمثابة نجاح للحركة، ما قد يدفعها إلى التفكير في تكرار المشهد ببلاد أخرى مثل التي تقع ضمن قارة أفريقيا، والتي تتواجد بها بعثات أوروبية لحفظ السلام، والسعي إلى إخراجها، والتحكم في مقدرات البلاد.
وتتعامل حركة طالبان ذاتها، مع الانسحاب الأمريكي باعتباره نصرا كبيرا لها، وهزيمة قاسية للولايات المتحدة، ما قد يجعلها تستغل ذلك في جذب المزيد من العناصر إليها، خاصة من تنظيم القاعدة، الذي فقد زخمه على مدار السنوات الماضية، بالإضافة إلى حركات إسلامية أخرى، على رأسها تنظيم الإخوان المسلمون، خاصة الشباب منهم، الذين فقدوا الثقة في القيادات، بعد عزلهم من السلطة في مصر عام 2013، وكذلك في تونس، خلال تموز/يوليو الماضي، ما قد يدفعهم إلى التفكير في الهجرة إلى أفغانستان، والدخول تحت راية الحركة، التي يجد فيها الكثير منهم مبتغاهم، خاصة بعد تضييق الخناق عليهم في دول حاضنة، مثل تركيا.
في الوقت ذاته، بعد هزيمة داعش وخسارة معاقله الأساسية في العراق وسوريا، بالإضافة إلى ضعف القاعدة، قد تعمل طالبان على أن تصبح “الإمارة الإسلامية” الأقوى في أفغانستان، خاصة أنها امتلكت الأرض التي تستطيع من خلالها احتضان الكثير من عناصر الجماعات الجهادية، أو جذب المزيد إليها، كما حدث في تسعينيات القرن الماضي، خاصة أن قضية الوطن تعطي إحساسا بالأمان لتلك العناصر.
وهنا ربما يطرح سؤال، وهو: كيف تتمكن حركة طالبان من فعل ذلك برغم الاتفاق مع أمريكا، والذي جاء في بنوده أن يجرى التعامل مع “الذين يلتمسون اللجوء أو الإقامة في أفغانستان وفقا لقانون الهجرة الدولي، حتى لا يشكل هؤلاء الأشخاص تهديدا لأمن الولايات المتحدة وحلفائها”؟، وقد تكون الإجابة الأقرب هي أن الحركة لن تقدم وثائق رسمية تثبت دخول مقاتلين إرهابيين إلى أراضيها.
وعلى الجانب الآخر، ربما يستغل داعش ذلك، كما فعل في افتتاحية النبأ المذكورة، ويدلل بما فعلته الحركة، على أنها لم تعد تفكر في الجهاد، ويصدر التنظيم من خلال ذلك نفسه على أنه رائد الجهاد العالمي، والدفاع عن راية الإسلام، ما يطمئن من نفوس أتباعه ويمنع انجذابهم إلى الحركة، بالإضافة إلى استقطاب عناصر جديدة تضع الجهاد هدفا أساسيا لها.. ولا بد من الإشارة هنا إلى الأسباب التي أدت إلى تفاقم الخلاف بين التنظيم والحركة.
تطور الخلافات بين طالبان وداعش
في 26 كانون الثاني/يناير 2015، أعلن أبو محمد العدناني، المتحدث الأسبق باسم تنظيم داعش، إنشاء فرع للتنظيم في أفغانستان، تحت مسمى “ولاية خراسان”، في كلمة صوتية صادرة عن مؤسسة “الفرقان”، حملت عنوان “قل موتوا بغيظكم”، بقيادة القائد السابق في حركة طالبان حافظ سعيد خان.
لسماع الكلمة اضغط هنا
وفي هذه الأثناء استشعرت حركة طالبان خطر تنظيم داعش، وربما خافت أن يسحب البساط من تحت يديها، وهي التي لطالما حاربت القوات الأمريكية وغيرها، على الأراضي الأفغانية، ولها السبق في الحركة الجهادية، ما جعل نائب إمارة أفغانستان، مشرف الشورى القيادي للإمارة، الحاج ملا اختر محمد منصور، يبعث برسالة إلى أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش السابق، نشرت في العدد 111 من مجلة الصمود التابعة للحركة، بتاريخ 16 حزيران/يونيه، أذن له فيها بالجهاد في كابول، لكن تحت راية الإمارة، قال فيها: “لا ترى الإمارة الإسلامية تعدد الصف الجهادي لا في صالح الجهاد ولا في صالح المسلمين”.
ومن أجل التأكيد على شرعية الإمارة الإسلامية، ذكر “ملا اختر”، أبو بكر البغدادي بالبيعات الشرعية التي اكتسبتها، قائلا: “إن قيادة الإمارة الإسلامية قد عينت بانتخاب شرعي وبمبايعة 1500 عالم شرعي (شورى أهل الحل والعقد)، وقام بتأييد هذه الإمارة الشرعية عدد من علماء وفقهاء العالم الإسلامي وقادة المجاهدين…”.
وشدد “الملا” في رسالته على أن “الإمارة الإسلامية من منطلق الأخوة الدينية لا تنوي إلا الخير لكم ولا تريد التدخل في شؤونكم، وتتوقع بالمقابل منكم التعامل بالمثل..”، متابعا: “ولكي لا تنشأ فتنة الاختلاف في أفغانستان ترى الإمارة الإسلامية الإذن بالجهاد في صف الإمارة الإسلامية لوحدة أكبر مصلحة دينية وجهادية”.
ولكي يكسب الكثير من المصداقية لذاته، لفت إلى أن “أبطال الجهاد المعاصر مثل إمام المجاهدين الشيخ عبد الله عزام وقائد المجاهدين الشيخ أسامة بن لادن وقاهر الصليبيين أبو مصعب الزرقاوي وهازم الملحدين خطاب رحمهم الله تعالى جميعهم كانوا يعتزون بالتتلمذ في مدرسة أفغانستان الجهادية”.
لكن هذا الكلام لم يلتفت له “البغدادي”، وواصلت “ولاية خراسان” أعمالها الإرهابية في أفغانستان، وتعرضت للكثير من الضربات على يد حركة طالبان، بمعاونة أمريكية، ما جعل من تنظيم داعش عدوا لدودا للحركة، قد يشكل عقبة في طريقها الجديد، أو في اكتمال اتفاقها مع أمريكا، خاصة أن التنظيم أصبح لا يرى الحركة سوى “كافرة ومرتدة”.
اقرأ أيضا: طالبان: هل يتحول الوحش إلى حمامة سلام ؟