بقدر ما طرحت جائحة كورنا تساؤلات حول مدى كفاءة الأنظمة الصحية، وأوليات البحث العلمي، وخطورة تفاقم أزمة التغيرات البيئية، بقدر ما طرحت العديد من التساؤلات الاقتصادية والاجتماعية عن التنمية المستدامة، والعدالة الاجتماعية، ومستقبل العالم فيما بعد الجائحة.
كشفت الجائحة كذلك عن كثير من الأزمات المتراكمة نتيجة للسياسات النيوليبرالية السائدة في العقود الماضية من اتساع الفروق الطبقية، وزيادة معدلات البطالة، وتدني الخدمات الصحية وغيرها، لكن يبقى السؤال مدى قدرة البدائل المطروحة للسياسات النيوليبرالية على تحقيق تغير جذري في مواجهة القوى الرأسمالية المهيمنة.
في كتاب”حتى لا يُسرق المستقبل .. ثلاثية التنمية والعدالة والاقتصاد” يقدم الباحث الاقتصادي شريف دلاور قراءة نقدية للسياسات النيوليبرالية، متتبعًا جذور الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المتفاقمة في ظل سيادة منظومة العولمة والتطور التكنولوجي المتسارع واتساع الفجوة بين الدول العالم المتقدمة والنامية.
الكتاب الصادر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب ينطلق من تحليل ودراسة الواقع المصري بوصفها واحدة من الدول النامية التي شهدت على مدار القرن العشرين سياسات وبرامج سياسية واقتصادية متناقضة، ويتناول كذلك معطيات الاقتصاد الدولي وتأثيره في الاقتصاد المحلي مستعرضًا العديد من السياسات والحلول البديلة التي بدأت تحظى بشعبية متزايدة خلال السنوات الماضية.
“كان للسياسات السابقة على ثورة 25 يناير تأثيرٌ مدمرٌ على الاقتصاد الحقيقي وعلى الإنتاجية الصناعية والزراعية والخدمية، كما شكل التحالف بين قوى الحكم ورجال الأعمال محورًا لنهب الثروات، فتدهورت الأجور، وارتفعت البطالة، وأدت الفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء لتأكل النسيج الاجتماعي”.
مشيرًا إلى أن معظم الحكومات تركز أهدافها على تحقيق النمو الاقتصادي بأي صورة كانت دون النظر إلى مجموعة معايير غاية في الأهمية من وجهة نظره وهي الاستدامة، والتوزيع العادل للثروة، والحفاظ على البيئة، مؤكدًا على أن الغاية الأساسية من تحقيق النمو الاقتصادي أن ينعكس بصورة مباشرة على المجتمع وجودة الحياة لكافة الناس وليس فئة محدودة تحتكر الثروة والسلطة.
النمو الاقتصادي وسيلة وليس هدفاً في حد ذاته
“النمو الاقتصادي وسيلة وليس هدفاً في حد ذاته، حيث إن نمواً عالياً ومستمراً لفترة زمنية ممتدة هو السبيل لتحقيق قفزة في مستوى الدخل للمواطنين بما يتيح القضاء على الفقر وأيضا لزيادة الفرص أمام الشعب ليكون أكثر إنتاجية وإبداعاً وكذلك ضمان حياة أفضل للأجيال القادمة. مصر لا تنقصها الموارد إلا أن الإشكالية الحقيقية تكمن في إدارة هذه الموارد؛ فالنمو الاقتصادي يتأتى دائما بالتوازي مع الحكم الرشيد وتحديث المؤسسات السياسية والتشريعية والرقابية”.
جذور الأزمة
في الفصل الأول من الكتاب يشير الباحث إلى أن جذور فشل التجربة المصرية الاقتصادية منذ تسعينيات القرن الماضي تعود لتبني السياسات النيوليبرالية القائمة على خفض الدعم الحكومي والخصخصة وتشجيع الاستثمار الأجنبي والتركيز على أرقام ومعدلات النمو دون التطرق لأمور مثل عدالة التوزيع، أو التشغيل/ أو تدرج أولويات الإصلاح.
يوضح دلاور أن هذه السياسات لم تتغير بعد ثورة 25 يناير عام 2011 مما تسبب في المزيد من التدهور في مستويات المعيشة “لقد اتبعت حكومات ما بعد الثورة نهج الاقتصاد اليميني لحكومتي عاطف عبيد وأحمد نظيف، علمًا بأن إشكالية العيش والحرية والعدالة الاجتماعية تكمن في قلب مسار اليمين الاقتصادي المصري سواء كان تحت مظلة الليبرالية أو الإسلام السياسي، حيث الارتباط بين عدم المساواة وتكافؤ الفرص وبين الأمراض الاجتماعية مثل البطالة والأمية وارتفاع معدل الجريمة”.
مشيرًا إلى انشغال الحكومات بتحقيق معدلات النمو الاقتصادي دون النظر لأوليات هذا النمو وغايته وانعكاسه على حياة الناس من خلال التوزيع العادل للثروة “النمو الاقتصادي وسيلة وليس هدفاً في حد ذاته، ومصر لا تنقصها الموارد إلا أن الإشكالية الحقيقية تكمن في إدارة هذه الموارد، فالنمو الاقتصادي يتأتى دائما بالتوازي مع الحكم الرشيد وتحديث المؤسسات السياسية والتشريعية والرقابية”.
سياسات بديلة
يقترح الكاتب مجموعة من السياسات والإجراءات الاقتصادية والاجتماعية البديلة عن السياسات النيوليبرالية، ومن أبرزها:
أولًا: تبني سياسات للتشغيل الكامل بحيث يتوفر لكل شاب فرصة عمل، ويتم تمويل هذه السياسات عن طريق الضرائب التصاعدية على الدخول بالإضافة لفرض ضرائب على كل أنواع الربح الكسول مثل بيع الأراضي والعقارات والبورصة وغيرها، وعبر هذه الأموال تقدم قروض ومنح لصغار المستثمرين بحيث يتم إعادة توزيع الثروة والسعي في تحقيق العدالة الاجتماعية.
ثانيًا: مساندة الشركات الوطنية ووضع ضوابط على حركة الاستحواذ على الأنشطة الاقتصادية المصرية من قبل الشركات الديناصورية الدولية.
ثالثًا: إعادة هيكلة الصناعة المصرية والتركيز على تنمية المهارات البشرية والاهتمام بالصناعة القائمة على الابتكار والتكنولوجيا.
رابعًا: الارتقاء بمناخ المنافسة والشفافية وتفعيل آليات الرقابة الحكومية والاجتماعية.
خامسًا :الإصلاح الإداري لمؤسسات الدولة بحيث تتواءم مع المتطلبات الجديدة للتنمية.
سادسًا: زيادة معدلات الادخار فبينما يتجاوز متوسط معدل الادخار في الصين 30% في السنوات الماضية فإن معدل الادخار في مصر لم يتجاوز 13% من الناتج الإجمالي.
يوضح الكاتب أن هذه المقترحات مطروحة منذ سنوات ولكن صناع القرار وأصحاب المصالح كان يرفضونها بدعوى أن الضرائب التصاعدية والرقابة على حركة رأس المال وغيرها من الأدوات الفعالة لتحقيق العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي المستدام سوف تقلل من حجم تدفق الاستثمارات الأجنبية وتتسبب في تَباطُؤ معدلات النمو.
مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية حققت أعلى معدلات للنمو والتشغيل وفائضًا في الموازنة العامة في فترة الخمسينيات عندما وصلت الضريبة على الدخل لأرقام قياسية وكذلك الأمر في ألمانيا وفرنسا وحتى الدول الآسيوية التي حققت طفرة اقتصادية وضعت قيودًا على حركة رأس وضرائب على الأرباح الرأسمالية.
الاقتصاد الدائري
في الفصل الثالث من الكتاب يرصد الكاتب كيفية انتقال العالم من مرحلة التطور المرتبط بالنموذج الصناعي الذي ساد في بدايات القرن العشرين في كافة دول العالم بغض النظر عن أيديولوجية الدولة أو حجمها إلى مرحلة جديدة مع بدايات القرن العشرين أصبح فيها النموذج الصناعي عبئًا كبير بما يسببه من أضرار للبيئة والإنسان، وفي ظل التقدم التكنولوجي الهائل صار الهاجس الأساسي هو كيفية الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية.
إن الطبيعة لا تعرف الفاقد أو العدم فكل ناتج في النظام الطبيعي هو مدخل لمكون آخر".
موضحًا أن التغيرات المتسارعة في العقدين الماضيين على المستوى البيئي والاقتصادي والاجتماعي تتطلب نظامًا اقتصاديًّا جديدًا يقوم على أسس ومبادىء عالم الطبيعة، وهو ما اصطُلح على تسميته بالاقتصاد الدائري نسبة للحركة الدائرية للطبيعة حيث تدور الموارد دون فاقد أو عادم وتتجدد باستمرار “إن الطبيعة لا تعرف الفاقد أو العدم فكل ناتج في النظام الطبيعي هو مدخل لمكون آخر”.
يشير الكاتب كذلك لمعايير التنمية المستدامة التي وضعها مؤشر داوجونز لاستدامة الشركات “DJSI” المكونة من ثلاثة محاور وهم:
- الاستدامة البيئية: تطوير نظم إدارة البيئة في مؤسسات العمل من خلال إدارة الطاقة والمياه والفاقد.
- الاستدامة الاقتصادية: إدارة المخاطر والأزمات والحوكمة ومواثيق الشرف وسياسات مواجهة الفساد.
- الاستدامة الاجتماعية: تطوير رأس المال البشري والتأكيد على الدور الاجتماعي للمؤسسات.