في عالم مليء بالاقنعة، مليء بالنُصح حول ما يجب أن تكون عليه، ما يجب أن تفعله، عالم سادت فيه الصوابية السياسية و محاضرات التنمية البشرية يطالعنا وجه تشارلز بوكوفسكي في سخرية.
سخرية بوكوفسكي منا تتمثل في صدقه التام و تلقائيته الشديدة في كل ما يقول ويفعل. هو أديب، ومن قبلها رجُل، دون أقنعة أو أوهام. كتاب مفتوح، يقفز بين أسرّة النساء، يضاجعهن، ويكتب عنهن بصدق في رواياته. اشتهر بوكوفسكي بالأديب العاهر والسكير، لا يخجل من أي فعل يمارسه، لا يخجل من حياته قبل الشهرة، حياة السُكر والضياع، يقول بعد أن حقق الشهرة والنجاح إنه يحب السُكر والشراب لأنه يمنحه شعورا بالراحة.
على عكس قصص البطولة والمعاناة والنجاحات لكتاب وشعراء وروائيين آخرين، لم ينسب بوكوفسكي فضل نجاحه لنفسه، ظلّ غير مبالٍ، اهتم فقط بتقبل الذات، أن يفعل ما يحلو له، أن يقول ما يريد بكل صدق دون الاهتمام بأثر كلماته أو تصريحاته. كأنه يحب أن يعيش عاريا وسط الجموع، لا يهتم بعريه ولا يبالي سوى برغباته وفقط. وليحدث ما يحدث بعد ذلك.
يلخص بوكوفسكي فلسفة حياته، فلسفة اللامبالاة في أحد حواراته بقوله:
“أنا لا أسعي خلف إنجازٍ، أنا كعنكبوت، أغزل شبكتي، وهذا كل ما أستطيع فعله.فنحن نفعل هذا مدفوعين بغريزتنا الطبيعية، نحن حتى لا نعرف لماذا نفعل هذا، ولو أننا عرفنا، لما استطعنا فعله. السعي مدمر، وأنا لا أؤمن بالتوجيه، ولا أؤمن بالدراسة، ولا أؤمن بالتعلم، أنا أؤمن أن ما يحدث يحدث، وأنا فقط أسايره. ولألخص الأمر كله في كلمتين “لا تحاول”، بالنسبة لي، الأمر ينجح. ورغم كل شيء، ما زلت أجد بهجةً كبيرةً، ولا أعرف لماذا، ولكني في أغلب الأوقات، أستيقظ صباحًا، وأشعر أني بخير حقًا. إنه فقط شعور داخلي.”
يرفض هنا “بوكوفسكي” مبدأ السعى أو الاهتمام، إنه يتبع الغريزة وفقط وكأنه الإنسان الأول الذي لا يزال يعيش بداخل الكهف، يرفض التصنع في كل شيء يندفع نحو الرغبات الطبيعية بكل راحة وبساطة ولا يفكر لماذا أود أن أفعل هذا؟ أو لماذا لا يجب أن أفعله؟
ربما تتركز فلسفته التي تميل إلى العبث بالوجود والعالم وعدم الاكتراث به نحو طريقة العيش الحر ونحو البساطة، عاش “بوكوفسكي” أعواماً طويلة يعمل فى مكتب بريد وهو عمل لايناسب إمكانياته لكنه لم يفكر كثيراً لأنه كان يتضور جوعاً. كان يتسكع فقط فى الحياة، يصحو من غيبوبة الشراب ليلاً على عمله في الصباح، حتى قادته الحياة نحو اهتمام أحد الناشرين به، ربما حاول واهتم حتى توصل لهذه اللامبالاة، ربما مرت بخاطره وهو فى إحدى الليالي وحيداً يائساً مع كأس من الشراب، أو حينما كان يتسكع فى إحدى مغامرات لذاته وشهواته مع النساء على الرغم من بعض الضعف الجنسي إلا أن شيئاً كهذا لم يشكل فارقاً أو عائقاً لديه نحو رغبته بالجنس واستمتاعه به
كانت تقوده غريزته نحو الجنس حتى ينجح بقوة الدفع بالضبط كما كانت تدفعه الحياة ويسايرها فى رقص حر من الخطوات والقواعد، ليحدث ما يحدث، اتبع حدسك ولا تحاول هذا هو ملخص فلسفة “بوكوفسكي” في الحياة والتي حرص على نقشها على قبره في عبارة قصيرة تحمل الكثير من المعاني ، عبارة تقرأها فتشعر براحة تامة ، “لا تحاول”.
يعشق بوكوفسكي ذاته لذلك كانت لديه نزعة تلقائية دائما فى التعبير الحر عن نفسه بلا قيود
يعشق بوكوفسكي ذاته لذلك كانت لديه نزعة تلقائية دائما فى التعبير الحر عن نفسه بلا قيود، كان يحب أن يتحدث عن نفسه كثيرا لكنه برع فى ذلك فى إطار الحبكة الروائية والشعر على الأخص. النهج الذي يتبعه بوكوفسكي فى الحياة أو الكتابة هو بمثابة رجل بسيط يملك ثقة وثبات ساحر ويطلق شتائمه بحرية على الناس والعالم دون تقيد ما يقوله هو يقوله وما يفعله يفعله فحسب ذلك هو السر.
أن تعطي لحياتك معنى لدى "بوكوفسكي"
يمثل الحديث مع الشاعر والأديب الأمريكي “بوكوفسكي” مادة ثرية. فقد حضر أحد أشهر حواراته في برنامج أمريكي وهو فى حالة سُكر بائن، وتلفظ بكلام بذئ، إلا أن الناس أحبته لأنه قريب منهم، يشبههم.
قضى حياته وحيداً بعد أن هجر بيت أبيه الذي كان جندياً في الجيش الأمريكي وقد أساء معاملته إلى حد التعدي عليه بالضرب، عاش ظروفاً قاسية جعلته لا يبالي كثيراً بالعيش لكنه حافظ على توازنه بالكتابة، كان يكتب ويندفع بكل كيانه نحو فعل الكتابة وكأنه لخص الحياة به ولكن عندما سُئل عن ذلك كالعادة كانت إجابته شديدة التلقائية والبساطة.
“هل تعني أنك تعيش من أجل الكتابة وحسب؟”
-” لا، إني موجود وحسب. ثم لاحقاً أحاول أن أتذكر وأكتب بعض الأمور.”
شعر “بوكوفسكي” أقرب إبداعاته لقلبي، قصائده عبارة عن شذرات غاية فى الصدق والجمال والعمق. بينما أغلب رواياته واقعية فهو يرفض الهروب من الواقع، يتقبل كل شيء ببساطة، ويطالب العالم كذلك بتقبله أو لا يبالي كثيراً بذلك.
يتحدث “هانك” أو هنري بوكوفسكي عن الحياة في قصيدة “القلب الضاحك”
حياتُكَ هي حياتُك
لا تخلطها في الخضوع الرّطب.
حاذرْ.
ثمّةَ منافذَ
ثمّةَ نورٌ في مكانٍ مَا.
قد لا يكون نورًا كثيفًا لكنّه
يزيحُ الظّلمةَ.
حاذِرْ.
ستِعرض عليك الآلهةُ فُرصًا.
تفكّر فيها.
اقتنصها.
لا يمكنك أن تهزمَ الموت لكن
يمكنك أن تهزمَ الموت بالحياة، أحيانًا.
وكلّما تعلّمت كيف تفعلها،
ازدادَ النّور.
حياتُك هي حياتُك.
تفكّر فيها وأنتَ تعيشها.
أنت رائع
"بوكوفسكي" وصورته الذاتية
كانت فلسفة بوكوفسكي فى الحياة هي: تسكع واندفع نحو الفعل أو الرغبة دون تفكير. وانعكست فلسفته على ظاهره ليبدو شكله كأنه رجل متسكع متشرد، ليس فى هيئة كاتب أو أديب مرموق. لم يكن يوما يسعى نحو تلك المكانة، مكانة الكاتب بل دفعته الحياة إليها ولم يدخل تشارلز فى تلك الهالة ولم يكن لشخص صادق مثله في أن يتبع شيئًا أو يظهر شيئًا عكس ما بداخله.
“لم أكن يوماً لبيساً متأنقاً، كانت قمصاني جميعها باهتة الألوان، ومنكمشة، عمرها خمس أو ست سنوات ورثّة، وعلى نحوها كانت بناطيلي. أكره متاجر الألبسة، أكره البائعين، يتصرفون بفوقية لا تطاق، تخالهم يدركون سر الحياة، يمتلكون ثقة بالذات أفتقدها. كانت أحذيتي على الدوام قديمة وبالية. كنت أكره أيضاً متاجر الأحذية. ما ابتعت أبداً شيئاً، إلا بعد أن يُستنفد الأسبق كلياً، وهذا يشتمل السيارات. لم يكن الأمر أني أقتر، المسألة وحسب أنه ليس باستطاعتي أن أتحمل فكرة أني شارٍ بحاجة إلى بائع، بائع شديد الوسامة ومتحفظ ورفيع المنزلة. إضافة إلى أن كل هذا يحتاج إلى وقت، وقت يكون بوسعك فيه الاستلقاء و احتساء الشراب”.
ورغم عدم اكتراثه بالعالم وبذاته تزوج مرتين وأنجب. لم يكن الزواج أو الحب بالطبع من أهدافه ولم يكن أى شيء حدث فى حياة “بوكوفسكي” مخططاً هو فقط “يحدث”. كان يعيش مسايراً للحياة لذلك نقش على قبره النصيحة التي عاش بها “لا تحاول” لكنه ينصحنا في إحدى قصائده “إذا ردت أن تحاول فحاول بكل جوارحك”. لم يكترث بشيء فى العالم ومع ذلك حظي بالنجاح الأدبي لمدى صدقه وأيضاً حظي بالحب
“كانت كاترين تدرك أن هناك أمراً ما معتلا في، ثمة ما هو مختل في تصرفاتي وفي كياني. كنت منجذباً إلى كل الأمور الخطأ أحب السكر، وكنت كسولاً، لم يكن لي رب، ولا رأي سياسي، ولا أفكار، ولا مثاليات. كنت مستقراً في العدم، في نوع من اللاوجود، وكنت راضياً بذلك. كل هذا لا يجعل مني شخصاً مثيراً للاهتمام. لم أكن راغباً في أن أكون مهماً، فهذا صعب جداً ما وددته فعلياً كان وحسب مجرد فسحة ناعمة وغامضة لأعيش فيها، وأن أترك وشأني”.
كتب “هنري تشارلز بوكوفسكي” 60 كتاباً ما بين الشعر والقصة والروايات، كانت قضيته الأهم هي التعبير عن الواقع بكل قسوته وأغلب رواياته كانت جزءا من حياته تحدث عن العلاقات الإنسانية والأشخاص العاديين والفقر والتهميش فى المجتمع الأمريكي، لم يحاول التصنع بل دفعته الحياة والكتابة دفعاً إلينا، وعاش وهو يؤمن أن “مجرد أن نحيا إلى أن نموت، هو أشغال شاقة بحد ذاته”.