لا تسقط بالتقادم، جملةٌ دومًا ما يرددها أنصار القضايا السياسية والاجتماعية على غرار الاصطلاح القانوني للطبيعة العقابية في حالاتٍ جنائية معينة. في كل الأحوال، وبعيدًا عن الشعاراتية في واقعية هذا اللفظ كما هو الحال عليه في استخدامه عند أنصار الحركات السياسية المقهورة، قد يعتبر الزمن الشافي الوحيد لجراحات النسيج الاجتماعي، أي نسيان قضية المقهورين وتبددها مع مضي الدهر عليها. من جهةٍ أخرى، وفي الحالة اليمنية، لا يبدو أن الزمن شافٍ وأن القضايا لا تسقط بالتقادم، بل تستمر في تكرار نفسها في ضبابية فهم التحولات لخطورة الواقع الاجتماعي اليمني الذي يستمر في تدوير مآسيه عقودًا تلو أخرى، وبمواليد ثورية مشوهة.
الثورة لا تعني تحولا إيجابيا بالضرورة وليست غاية يمكن رفعها لمقام القداسةفي الوعي الشعبي
في البداية يجب التنويه بأن مصطلح الثورة في حد ذاته لا يعني تحولاً إيجابياً وليس غايةً يمكن رفعها لمقام القداسة في الوعي الشعبوي، وإنما هي توصيف لمجموعةٍ من التحولات السياسية الاجتماعية التي تحدث تغييراً وفق توفر مجموعةٍ من الأبعاد التي قد تختلف المدارس الفلسفية في العلوم السياسية على تحديدها، ولذا فإن التحولات السبتمبرية بالمعنى الثوري المذكور هنا لا يعني دفاعاً عن تحولٍ ما أو الطرف الذي يقف وراءه.
يرى الوظيفيون في الفلسفة السياسية بأن مهام الدولة الحقيقية هي تجنب حدوث الثورة، ويمكن بهذا التعبير جعل التحولات السياسية واستقرار الأنظمة عامل قياسٍ لنجاحها في مهامها كسلطة، أي تجنبها لحدوث الثورة، وهو ما يمكن مشاهدة فشل الأنظمة اليمنية المتعاقبة في تجنب حدوث التحولات الثوري، الأمر الذي يعزى إلى فشلٍ في تحقق بعدٍ ما من أبعاد الثورات التي أتت بهذه الأنظمة في تاريخ اليمن الحديث، ومن هذا المنطلق نفسه يمارس هذا النقد الذي يتضمنه المقال.
وبعيدًا عن مشاعر جماهير المكونات السياسية في تقديس التحولات السبتمبرية بين المخرجات الجمهورية والاستبدادية، هنالك حاجةٌ حقيقية لدراسة فشل هذه التحولات واستمرارها في تكرار ذات الانهيارات للعملية السياسية، أي ممارسة النقد لسبتمبر نفسها، الـ 26 والـ 21.
في محاولته لصناعة نموذج قياسٍ ثوريٍ يجمع تفسيرات ورؤى المدارس الاجتماعية والنفسية والسياسية المختلفة لتوصيف الفعل والتحول الثوري، والذي تختلف على توصيفه هذه المدارس كفعلٍ ثوريٍ من عدمه، يضع “أ.س.كوهن” نموذجًا لتفسير التحول الثوري، يحدد فيه ستة أبعادٍ ثورية تفسر دوافع ومدى ثورية التحولات السياسية وصدق توصيف الثورة عليها.
إبدال القيم والأساطير، إبدال النخبة، إبدال المؤسسات، الانتقال الشرعي وغير الشرعي للسلطة، العنف، وأخيرًا الإبدال الاجتماعي، وهو محور التركيز هنا كبعدٍ هو الأهم في التحولات اليمنية.
الإبدال الاجتماعي
لا يمكن دراسة التحولات والصراعات السياسية في اليمن بمعزلٍ عن الالتفات للبنية الاجتماعية اليمنية كقاعدةٍ أساسية، بل يمكن القول بأنها استطاعت التفوق على صراعات نقائض الطبقات الاقتصادية في المجتمع، حيث لعبت دورًا محوريًا.
محاولة دراسة البنية الاجتماعية للمجتمع اليمني يفرض علينا العودة للتحول الأول في العصر الحديث في شكل الدولة اليمنية وإبدال القيم الأولى فيها في ثورة الـ 26 من سبتمبر. هذه الثورة بالتأكيد نجحت في إبدال القيم السياسية لدى الشعب إلى حدٍ ما، ولكنها لم تستطع تأمين تحولٍ ديمقراطي وخوض تجربةٍ ديمقراطيةٍ صادقة، لعدة أسبابٍ أهمها البنية الاجتماعية للمجتمع اليمني.
حققت ثورة العام 1962 ضد نظام الإمامة تحولًا في مؤسسات الدولة وإبدالًا للنخب السياسية القيادية التي على رأس السلطة، متمثلةً في الحكم الهاشمي الإمامي، ولكنها بالتأكيد لم تحقق البعد الثاني لها في إبدال البناء الاجتماعي، وإنما اكتفت بهدم الأسطورة، تبديل القيم السياسية.
ما هو البناء الاجتماعي؟
إن اجتماع الإنسان من حالته الطبيعية الفردية للاجتماع مع الآخر هو بالتأكيد اجتماعٌ له أسبابه ودوافعه وأهدافه، فاجتماع الأسرة غايته توفير الغذاء والرعاية، واجتماع القرية أو القبيلة له غايةٌ أخرى غير تلك، وهي تحقيق الحماية، أما مجتمع المدينة والذي يعتبر مجتمع السلطة السياسية، وهو المجتمع الذي يتجاوز مجتمع القرية والقبيلة هو اجتماعٌ غايته توفير رفاه وسعادة أفراد هذا المجتمع كما يراه أرسطو في كتابه السياسة، أو الأمن وتحقيق التعاون الاجتماعي كما يراه هوبز وأنصار العقد الاجتماعي.
يمكننا محاولة توزيع مؤلفات المجتمع اليمني على أنواع الاجتماع الثلاث لأرسطو، أو حالتي الاجتماع عند هوبز، الطبيعية وما بعدها، أين سيكون هنالك مجتمع المدينة؟ هل نرى أن له وجودًا؟ وجوده نادر، النادر لا حكم له. إذًا ما أكثر صور الاجتماع وجودًا في المجتمع اليمني؟ بالتأكيد القبيلة والقرية هي أكثر صور الاجتماع. إذًا فغاية الاجتماع في أكبر صور اجتماع المجتمع اليمني هي تحقيق الحماية عند أرسطو أو المصلحة الذاتية والأنانية لاجتماع الحالة الطبيعية عند هوبز.
تتمظهر حالة الاستقرار أيضًا كظاهرة اجتماعية في تناقض اجتماع البنية الاجتماعية اليمنية التقليدية والسلطة السياسية، من حيث تمتع المجتمع اليمني باكتفاءٍ ذاتي ضمن البنى الاجتماعية الأصغر، والتي لا تعول على السلطة السياسية في تحقيق أمنها وتوفير احتياجاتها، فيما تغيب الغاية الحقيقية من الاجتماع المدني هنا تحت سلطةٍ سياسية تؤسس لمبدأ المواطنة المتساوية كأساس وجود يطمئن مجتمعها كما يقول روسو من الغاية الحقيقية لوجودها، وهي الأخرى أيضًا كانت غائبة في التجربة اليمنية.
إبدال النخبة القائدة
انتقلت السلطة في الثورة من يد الأسرة الهاشمية المتوكلية ومكون الهاشميين في المجتمع اليمني لمكونٍ آخر يتمثل في قبائل اليمن التي تصنف في العرف الاجتماعي بالقبائل اليمنية في قبالة السادة الهاشميين والأطراف المنتمين لأعراق أخرى تنتمي لأصولٍ غير يمنية منذ مئات السنين.
التباين بين هذه المكونات الاجتماعية العرقية تباينٌ حاد يظهر في العلاقات الاجتماعية والتحالفات السياسية والعادات والتقاليد والكثير غيرها من مظاهر الحياة العامة في المجتمع اليمني.
حين كانت السلطة حقًا دينيًا خالصًا للسلالة الهاشمية في دولة الإمامة المتوكلية ذات الخلفية الزيدية المذهب، تحولت السلطة بعد الثورة لتتسلم القبائل اليمنية المتمثلة في حاشد وبكيل ووجوه هذه القبائل ومؤثريها وفق منطقٍ قبليٍ بحت واجه القبائل الهاشمية بذات المنطق الذي أحست فيه القبائل القحطانية بإذلالها واضطهادها في عهد دولة الإمامة.
ثورة سبتمبر 1962
استطرادًا بسيطًا لطبيعة الثورة، يؤخذ على ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 بأنها كانت انقلابًا عسكريًا ولا تعبر عن ثورةٍ شعبية وخروجٍ جماهيريٍ يطالب بالتغيير، لكن محاولة استقراء هذا الواقع يسترعي الانتباه أن هذه علاقةٌ وجهية تستدعي إجراء استقراءٍ كاملٍ من زوايا عدة لطبيعة هذا التحول، إذ إنه ما كان لثورة الـ 26 من سبتمبر التحقق لولا تراكمات الشعور القبلي بالاضطهاد والتمييز العنصري الذي انتهى بها الحال فيه للالتحاق بركب الثورة وتأييد أغلب القبائل اليمنية لها وانخراطها في صفوف قوات الجمهورية في محاربة الملكية وأنصارها.
قد يطرح نقدٌ آخر على الثورة الجمهورية أيضًا من أنها لم تكن لتنجح لولا التدخل الخارجي ومساعدة الجيش المصري للضباط الأحرار في انقلابهم على الإمام البدر، ولكن هذه نظرةٌ قاصرةٌ أيضًا لطبيعة التحول من حيث إن العامل الداخلي في نموذج الثورة اليمنية كان هو محرك الثورة الأساسي، والذي نجح أيضًا في وقت لاحق مع غياب العنصر الخارجي للثورة بعد انسحاب الجيش المصري، كما أن العامل الخارجي فقد كان مساعدًا في صمودها أمام التدخلات الخارجية المنافسة والمتوجسة من التحول الجمهوري في حدودها الجنوبية لا في اندلاعها، وخصوصًا أمام الدعم السعودي الذي لاقاه بقايا النظام الملكي، أو بالأحرى القبيلة الهاشمية.
مشاعر التفوق والدونية والمساواة
يقول أرسطو بأنه دائمًا ما تكون الرغبة في المساواة سببًا للثورة، ودائمًا ما تكون الرغبة في المساواة هي سبب اندلاع التمرد، ويوضح ذلك كوهين في نظريات الثورة، بأن ذلك يعني شعور طبقةٍ اجتماعيةٍ معينةٍ بأن طبقةً أو جماعةً أخرى مساوية لها تحصل على خيرات وسلطةٍ في المجتمع أكثر مما تحصل هي عليه، أو أن هذه الطبقة المقهورة ترى أنها أفضل من غيرها وترى تلك الطبقة أو الجماعة تحصل على قدرٍ مساوٍ أو أكثر في السلطة والخيرات، بينما ترى في نفسها الأفضلية لنيل أكثر من ذلك، وهنا بالتحديد ضمن هذين الاحتمالين يمكن تفسير سبب الثورة الجمهورية الأساسي في اليمن.
إسقاط هذه التنظيرات في الواقع اليمني سيتجاوز البنى الاقتصادية في المجتمع، إذ إن الطبقات الاقتصادية تتوزع على مختلف المكونات الاجتماعية القبلية، إلا أن اجتماع القبيلة يضمن تمتع نخبتها الارستقراطية بخيرات السلطة باتكائها على الطبقات الأدنى في القبيلة. مشاعر التفوق ومطالب المساواة تحدث في هذه البنى التي تدفع نخب المكونات العرقية لاستثمار هذه البنى في سبيل تحقيق خيرات السلطة أو إحداث التغيير الي يحملها لرأس الهرم.
أبعاد الثورة
عودًا على الأبعاد الثورية للثورة الجمهورية، كان بُعد إبدال البناء الاجتماعي هو البعد الغائب تمامًا عن سياسات الأنظمة الجديدة، فما حدث كان هدمًا لأسطورة الحكم، إبدالًا للنخبة السياسية في القيادة وإبدالًا للمؤسسات، فيما غاب بُعد الإبدال للنظام الاجتماعي، والذي هو أهم أبعاد أي ثورة، ما كرس تعرض كلٍّ من المؤلفات الاجتماعية الأخرى من الهاشميين والأطراف والمهمشين والقبائل الأضعف للإقصاء العملي من السلطة والمشاركة الديمقراطية.
بالفعل حدثت تجربةٌ متواضعة وواسعة منذ التحولات الديمقراطية ما بعد الوحدة اليمنية عام 1990، ولكنها في الحقيقة استمرت في استنساخ البنية الاجتماعية ذاتها في مؤسسات الحكم عبر مخرجاتها التي كانت تتحكم القبيلة بها، لذا فالتجربة الديمقراطية لم تنجح ولم تكن لتنجح، لتناقضها مع البناء الاجتماعي الذي يتكون منه المجتمع اليمني المحكوم بالقبيلة، حيث إنها لن تكون إلا حالةً من دمقرطة القبيلة.
يمكن أن تجرى انتخابات وبشكلٍ نزيهٍ أيضًا في كثيرٍ من الحالات وبشكلٍ واسع، ولكن من المحتم أنه لن يستطيع النجاح في انتخاباتٍ كهذه سوى شيوخ القبائل وأعيانها، فالقبيلة ترى في ذلك وصولًا لها يضمن إحراز مصالحها، كما أن العرف القبلي يحتم عليها ذلك.
القبائل الكبرى ورؤوسها الكبار هم سلطةٌ فعلية موازية للدولة وتشغل مفاصل ومراكز صنع القرار في الدولة أيضًا. يمكننا تخيل حجم مشاركة بقية المؤلفات الاجتماعية وفرصها في الوصول للسلطة، أقصد الهاشميين، الأطراف والمهمشين.
سيطرة القبيلة على الدولة منذ تحول النظام الملكي لجمهوري أسهم في الحفاظ على النظام الاجتماعي ذاته قبل الثورة، بل وتكريسه، وهو بهذا عمل على صناعة علاقاتٍ أكثر تعقيدًا من قبل في أوساط العرقيات المكونة للمجتمع اليمني، ذلك أنه يحفظ لأفراد هذه العرقيات والقبليات مصالحهم وأمنهم وفق وعي الاجتماع القبلي لا الاجتماع المدني. أصيبت الثورة هنا في مقتل.
الأمر لم يقف عند هذا الحد، تغوّل الاجتماع القبلي أنشأ طبقةً أرستقراطيةً سيطرت حتى على الأحزاب السياسية اليمنية ومراكز صنع القرار في الدولة وحتى المراتب الأدنى في السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية. والأكثر مرارةً من ذلك، بأنه حتى الدولة نفسها لم تستطع أن تعي ذلك أو ربما تجاهلته، فيما كان تغول الاجتماع القبلي يقضي على أي ظاهرةٍ مدنية يمكن أن تظهر في المجتمع ويستمر في تكريس الأنماط الاجتماعية المألوفة للشعور بأمانٍ تجاه مستقبل القبيلة في السلطة.
إذا ما نظرنا للربيع اليمني في 2011 ، فسيتضح لنا أن الربيع نفسه كان مجرد انقسامٍ داخل القبيلة المسيطرة على السلطة وخيراتها
حتى إذا ما نظرنا للربيع اليمني في 2011 من هذه الزاوية، فسيتضح لنا بأن الربيع نفسه كان مجرد انقسامٍ داخل القبيلة المسيطرة على السلطة وخيراتها، أنتج ذلك الصراع المسلح في شوارع العاصمة وبعض المحافظات الشمالية. بل إننا إذا ما استبعدنا العامل الخارجي من النموذج الثوري فسنقف عند تساؤلاتٍ ضخمةٍ من نوع، هل كان سيمكن لاحتجاجات الشباب والنخب المدنية المثقفة أن تستمر في حراكها حتى خروج صالح من السلطة دون صراع القبيلة؟
استغلال تحول السادس والعشرين من سبتمبر من قبل القبيلة وعدم قيادة السلطة السياسية لصناعة إبدالٍ في النظم الاجتماعية حول مكونات المجتمع اليمني لمؤلفاتٍ عرقيةٍ أكثر تماسكًا مما كانت عليه في العهد الملكي المتوكلي، وبهذا كانت النتيجة تكتلاتٍ سياسية عرقية طائفية.
بالطريقة نفسها الذي شعرت به مكوناتٌ اجتماعية معينة في المجتمع الملكي ورغبتها بالمساواة ونظرتها بأنها تتساوى مع الهاشمية الحاكمة وأنها تحصل على دون ما تستحقه فعليًا، كان شعور الهاشميين والأطراف والمهمشين بعد ثورة سبتمبر التي تسيطر فيها رؤوس القبائل على مفاصل الدولة ومراكز صنع القرار وحتى المقاعد الانتخابية التي كان من السهل الوصول لها كاحتشاداتٍ جاهلية لأسر وأعراق.
إن تفاعلات المواقف اللحظية دون محاولة استيعابها برؤيةٍ أوسع من المواقف الحالية لا يعطي مشهدًا كاملًا يمكن فيه دراسة جذور المشكلة وأسبابها بطريقةٍ علمية، فالتفاعلات الشعبوية الآنية التي ترى أن اجتماع الهاشمية اليمنية ومؤيدي الفكر الذي تحمله في مشروع جماعة الحوثيين ومحاولتهم صناعة تحولٍ ثوريٍ آخر يشعرهم بالشعور ذاته الذي يحرضهم فيه للمطالبة بالمساواة أو الحصول على أكثر من المساواة لنظرتهم بأفضليتهم على بقية المكونات الاجتماعية هي مهد تكرار هذا التحول من جديد، ولكن بصورةٍ أكثر تطرفًا. أقصد بذلك ما يسمى حاليًا بتيارات الأقيال الشعبوية.
بعد ستة عقودٍ من الثورة الجمهورية، ما زالت الهاشمية في اليمن تتخوف من الإقصاء بل وما هو أبعد من ذلك، هذا يجعل بحثها عن تجمعٍ أكبر وأقوى يحقق لها الأمن والحماية، وفق مفهوم القبيلة لا المدينة، أمرًا أكثر أولوية.
يمكننا محاولة فهم الالتفاف الهاشمي حول جماعة الحوثيين، وكذلك الالتفاف القبلي حول مكون حزب الإصلاح أو المؤتمر. إنها مكونات عرقية وقبلية تبحث عن الحماية، وعن نصيب مكونها الصغير، القبيلة، ومصالحه مع هذه القوى. وهنا لا يمكن لأحدٍ في مجتمعٍ كهذا النظر للمصلحة العامة.
تدوير الصراع
حتى آخر التحولات الثورية في الساحة السياسية اليمنية كـ11 فبراير والـ21 من سبتمبر لا تلتفت لضرورة إبدال البناء الاجتماعي، بل إنها تعتمد على البنية الاجتماعية التقليدية كسببٍ أساسيٍ للبقاء في حشد الهاشميين والقبائل وفق مصالح مشتركة تتمثل في الحماية والسلطة، فضلًا عن أن البنى الاجتماعية الحالية هي محرك هذه التحولات.
الأمر ذاته الذي ارتكبته أنظمة الحكم بعد ثورة سبتمبر 1962، إلا أن المشكلة الأفدح هنا هو تغييب الوعي الجمعي عن أهمية تفكيك العلاقات الاستبدادية التي تؤلف المجتمع اليمني وخطورتها على بقاء الدولة اليمنية وبقاء مجتمعها.
فيما طبيعة التحولات الجديدة، والمدمرة، تستمر على النسق السابق ذاته في صراعات المؤلفات الاجتماعية وإبدال النخب السياسية في المؤسسات بنخبٍ أخرى كبعدٍ ثوريٍ وحيد يتحقق من أبعاد الثورة. هذا ينتج تحولاتٍ مستمرة أشبه بنصف ثوراتٍ مشوهة تستمر في إعادة تدوير الصراع نفسه والتحولات نفسها دون أي تغييرٍ في واقع المجتمع أو علاقات اجتماعه وغاياته، سوى في تبادل أدوار الحكم والأسطورة التي يحكم بها الحاكم وتضفي عليه شرعيته في كل تحول.
مخرجات التحولات
أغلب النماذج الثورية العملية تتفق في مبدأٍ مهمٍ من مراحل التحول الثوري، وهو مخرجات الثورة. هذه المخرجات الناتجة عن حراكاتٍ جماهيرية غالبًا ما تكون مخرجات شمولية، وبمعنًى آخر تحول السلطة لأنظمةٍ قمعيةٍ شموليةٍ تحاول تنميط كل مظاهر الحياة العامة والخاصة بالأفراد والجماعات وفق رؤية واحدة تُنَظِرُ لها النخبة الحاكمة الجديدة، تحول الواحد والعشرين من سبتمبر الأخير نموذجًا حيًّا لهذا الإسقاط.
بالتأكيد، هذه الأنظمة لا تستمد شرعيتها من مبدءٍ أخلاقيٍ مثلًا، كتأييد الجماهير لها ولسياساتها أو حتى الأغلبية من هذه الجماهير، وإنما تستمد شرعيتها من قوتها التي ستدعمها أسطورة الثورة والحكم والمكون الاجتماعي الذي يقف وراء النخبة الحاكمة. هذه القوة التي ستكون العامل الوحيد لبقائها على رأس الهرم السياسي، وهي نفسها التي ستكون وقود الثورة المضادة التي لن تكون إلا أكثر دمويةً من كل تجربةٍ تسبقها، ولو بعد حين.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.