لما كانت التجربة الإسلامية، قد عرفت نوعًا من أنواع التماهي والربط بين السياسي والديني عبر تاريخها الطويل، فقد كان من الطبيعي أن نجد أصداء وتجليات ذلك التماهي، وقد بُثت في كتابات كبار الفقهاء ورجال الدين المسلمين عبر القرون، إلى الدرجة التي حدت بحجة الإسلام أبي حامد الغزالي المتوفى 505هـ، للتأكيد على كون “الدين والملك توأمان”، وذلك بحسب ما ورد في كتابه الشهير “التبر المسبوك في نصيحة الملوك”.
تلك العلاقة الوثيقة المنعقدة بين المجالين -الديني والسياسي- ألقت بظلالها الوخيمة على حركة تطور السلطة في الدول الإسلامية، الأمر الذي يمكن رصده من خلال تتبع الكثير من الأحاديث -المنسوبة- للنبي، والتي ظهرت وانتشرت بسبب مجموعة من الظروف والعوامل التي لا يمكن التغافل عنها.
في هذه القصة سنلقي الضوء على ثلاثة أنواع من الحديث النبوي، والتي شهدت خلطًا واضحًا بين الديني والسياسي، ألا وهي الأحاديث المشرعنة للغزو والتوسع، وأحاديث الفتنة والحرب الأهلية، وأخيرًا، الأحاديث الخاصة بالفرق والمذاهب.
أحاديث الغزو والتوسع
يمكن القول إن التوسع المطرد للدولة العربية الإسلامية، والذي وقع في بدايات القرن السابع الميلادي، قد ارتبط -بالأساس- بمجموعة من العقائد الداعية للتبشير بالدين الإسلامي، وبحتمية الجهاد ضد أعداء الدين شرقًا وغربًا، حتى تصل الدعوة المحمدية لشتى بلاد الأرض.
التوسع العسكري لم يستهدف نشر الدين فحسب، بل كان في حقيقته حلًا سحريًا للتغلب على الكثير من المشكلات القائمة داخل حدود شبه الجزيرة العربية، إذ انخرطت جميع القبائل العربية في حركة الجهاد، وتناست ما مرت به من هزيمة موجعة على يد قريش وحلفائها إبان مرحلة حروب الردة، تلك التي ظهرت بوادرها في أواخر حياة الرسول، ولم تلبث أن قُضي عليها بشكل كامل في العام الأول من حكم الخليفة أبي بكر الصديق.
التوسع العسكري لم يستهدف نشر الدين فحسب، بل كان في حقيقته حلًا سحريًا للتغلب على الكثير من المشكلات القائمة داخل حدود شبه الجزيرة العربية
التوسع العسكري إذن، كان ضرورة وجودية للدولة الإسلامية، وهو المعنى الذي عبّر عنه المؤرخ التونسي الراحل هشام جعيط في كتابه “الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر“، عندما قال إنه “ما من شيء وحّد العرب كالفتح”. في هذا السياق سنجد أن المدونة الحديثية قد امتلأت بالعشرات من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول الكريم، والتي تتضافر مع بعضها بعضًا على التأكيد على شرعية حركة التوسع والغزو، على سبيل المثال ظهرت البشارات بغزو العراق وبلاد فارس والشام ومصر، كما روج الإخباريون للروايات التي تبشر بقرب سقوط كسرى ملك الفرس وقيصر ملك الروم.
في السياق نفسه، ظهرت الروايات التي تشجع العربي على القتال، وتمنعه من الركون لحياة الاستقرار والدعة، ومن ذلك ما رواه محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى 256هـ في صحيحه، أن الرسول لما شاهد بعض آلات الحرث والزراعة في منزل أحد أصحابه، فإنه أشار إليها وقال “لا يدخل هذا بيت قوم، إلا أدخله الله الذل”، بما يعني أن امتهان الزراعة وترك الجهاد سيؤدي لذل المسلمين، هذا في الوقت الذي وردت فيه الكثير من الأحاديث المنبهة على ممارسة الجهاد، واتخاذ العدة اللازمة له، ومنها ما أورده ابن حجر العسقلاني المتوفى 852هـ في كتابه فتح الباري “بُعثت بين يدي الساعة مع السيف، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي…”، وما أورده أحمد بن حنبل المتوفى 241هـ في مسنده “الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ والنَّيلُ إلى يومِ القيامةِ…”، في إشارة واضحة إلى أهمية السيف والرمح والخيل كأدوات لا غنى عنها للمقاتل في ميادين الغزو والحرب.
الملاحظة المهمة ها هنا، أن المدونة الحديثية المؤيدة للتوسع العسكري، قد تفاعلت مع المستجدات والظروف الطارئة على الساحة الجيوسياسية، ذلك أنه وحينما اصطدمت الجيوش الإسلامية بالترك وأهل الحبشة، ولما عانى المسلمون كثيرًا في قتال تلك الشعوب التي تميل للبداوة والوحشية، فإن بعض الأحاديث –التي تم اختلاقها في ذلك الوقت- قد عملت على تقديم المسوغ الشرعي الذي يبرر وقف القتال والميل للتهدئة، ولعل أشهر تلك الأحاديث، هو ذلك الذي ورد في سنن أبي داود “دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ”.
أحاديث الفتنة والحرب الأهلية
في أواخر سنة 35هـ، قُتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان على يد مجموعة من الثوار الناقمين على سياساته المالية والإدارية، ولم يمر وقت طويل على تلك الحادثة حتى دبت الفوضى بين جنبات الدولة الإسلامية، واندلعت الحرب الأهلية بين معسكر أهل العراق المؤيدين للخليفة الرابع علي بن أبي طالب من جهة، ومعسكر أهل الشام المطالبين بالثأر للخليفة الثالث من جهة أخرى. هذا الصراع المرير الذي استمر لما يقرب من الستة أعوام، انتهى في عام 41هـ، عندما تصالح الحسن بن علي مع معاوية بن أبي سفيان، فتنازل الأول للثاني عن كرسي الخلافة، وساد نوع من أنواع الهدوء الحذر لفترة، قبل أن تتفجر الأحداث مرة أخرى مع مقتل الحسين بن علي في كربلاء في 61هـ.
الأحزاب السياسية التي ظهرت في فترة الحرب الأهلية، وظلت قائمة بعدها، حاولت أن تستدر مشاعر التعاطف والتأييد من خلال إثبات أحقيتها الدينية، وكالعادة، كان السبيل الأمثل لذلك هو اختلاق الأحاديث النبوية التي تؤكد على شرعية بعض الأطراف المتنافسة على السلطة والخلافة. من ذلك النوع من الأحاديث، الحديث الشهير الوارد في مسند أحمد بن حنبل، أن الرسول قد قال للخليفة الثالث “يا عثمانُ إن اللهَ مُقَمِّصُكَ قميصًا، فإن أرادك المنافقونَ على خَلْعِهِ فلا تَخْلَعْهُ”، وهو الحديث الذي سيستشهد به عثمان نفسه عندما يطالبه الثوار بالنزول عن كرسي الخلافة. أيضًا، سيستشهد أهل السنة بهذا الحديث في سبيل إثبات صحة موقف عثمان، والطعن في الثوار بصفتهم منافقين -بحسب ما ورد في نص الحديث- وذلك بغض النظر عن دراسة أسباب وظروف الثورة نفسها.
والي الشام معاوية بن أبي سفيان، والذي سيصل إلى كرسي الخلافة فيما بعد، سيحظى هو الآخر بنصيب وافر من الأحاديث المنسوبة للنبي، والتي يتضارب بعضها مع بعض، بسبب اختلاف وجهات نظر واضعيها، فعلى سبيل المثال يذكر أبو بكر الآجري المتوفى 360هـ -وهو من علماء أهل السنة والجماعة- في كتاب “الشريعة”، أن الرسول قد أعطى سهمًا لمعاوية في بعض الغزوات، وقال له: “يا معاوية خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة”، على الجهة الأخرى، عمل المعارضون لمعاوية على توجيه سهام النقد إليه، ومن ذلك ما ورد في كتاب ميزان الاعتدال لشمس الدين الذهبي المتوفى 748هـ، أن الرسول قد قال لأصحابه “إِذَا رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ عَلَى مِنْبَرِي فَاقْتُلُوهُ”.
الأحاديث النبوية استُخدِمت في بعض الأحيان بطريقة غير مباشرة للدفاع عن بعض الشخصيات السياسية المكروهة
الأحاديث النبوية استُخْدِمَتْ في بعض الأحيان بطريقة غير مباشرة للدفاع عن بعض الشخصيات السياسية المكروهة، ومنها يزيد بن معاوية الذي قُتل الحسين بن علي في عهده، إذ ورد في صحيح البخاري، قول الرسول “أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له”، ولما كان يزيد قد اشترك في أولى الحملات التي شنها المسلمون على عاصمة البيزنطيين، فإن ذلك كان يعني أنه من المشمولين بالغفران الوارد في الحديث.
أحاديث الفرق والمذاهب
لم تقتصر نتائج الحرب الأهلية على ظهور الأحزاب السياسية المتنافسة على السلطة فحسب، بل امتد أثرها كذلك ليصل إلى حد تدشين مجموعة من المذاهب الفكرية والعقائدية، تلك التي تلاقحت أفكارها مع الظروف السياسية العصيبة التي مر بها المجتمع الإسلامي في القرن الأول الهجري، لتظهر ثمارها في صورة مذاهب الشيعة والخوارج والمعتزلة فضلًا عن أهل السنة والجماعة الممثلين في الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث. في سياق آخر، أدى الاختلاف القائم حول مناهج الفقه، إلى إنتاج مجموعة من المذاهب الفقهية الكبرى، والتي انتشرت في شتى جنبات العالم الإسلامي، وكان من أهم تلك المذاهب كل من المذهب الحنفي، والمذهب المالكي، والمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي.
لما كان التنافس بين تلك الفرق والمذاهب على أشده، فإن أتباع كل مذهب أو فرقة، قد عملوا على إثبات صحة مذهبهم من خلال التوسل ببعض الأحاديث والروايات المنسوبة للرسول الكريم. على سبيل المثال، عمل الجبرية -الذين يرون بأن الإنسان مجبر غير مخير- على التشنيع على أعدائهم من القدرية -الذين قالوا بحرية الإنسان وبقدرته على الاختيار- فروجوا للحديث الوارد في سنن أبي داود “الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ”. أما أهل السنة الذين اعتقدوا بحتمية الركون للسلطان -عادلًا كان أم ظالمًا- فقد هاجموا الخوارج الذين يرفضون طاعة الحاكم الجائر، فنشروا الحديث الوارد في سنن النسائي “إن من ضئضىء هذا قومًا يخرجون يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد…”.
بفعل التنافس بين الفرق والمذاهب المختلفة عمل أصحابها على إثبات صحة مذهبهم من خلال التوسل ببعض الأحاديث والروايات المنسوبة للنبي محمد
في سياق آخر روج الشافعية لعظم مكانة الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى 204هـ، وزعموا أن الرسول قد قصده بقوله الوارد في مسند أحمد بن حنبل “اللهم اهدِ قريشًا فإنَّ العالِم منهم يسع طباق الأرض في آخرين”، هذا رغم أنه من المعروف أن الشافعي قد ولد في 150ه، أي بعد ما يقرب من المائة وأربعين عامًا بعد وفاة الرسول.
كتب الأشاعرة كذلك حاولت أن تتوسل ببعض الأحاديث النبوية التي تُعلي من شأن مؤسس المذهب الأشعري، أبي الحسن الأشعري المتوفى 324هـ، فربطت بينه وبين جده الأعلى، الصحابي أبو موسى الأشعري، وفي سبيل ذلك، استغلت بعض المرويات الواردة عن الرسول والتي يمتدح فيها أبا موسى وقومه من أهل اليمن، ومن أشهرها ما ورد في صحيح البخاري “أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوبًا، وأرق أفئدةً، الفقه يمان، والحكمة يمانية”.