في التسعينيات أطلقت إحدى الشركات الغذائية المصرية حملة إعلانية تحت عنوان “إنسى يا عمرو” وسرعان ما التقطت الجماهير المصرية تلك الجملة لتصنع منها مثلاً شعبياً تدلل به على الوعود التي لن تتحقق. حالة عمرو في تلك الحملة الإعلانية لو جاز لنا أن نسقطها على واقعنا، فسنجد أن عمرو يمثل تلك الجماهير المتعطشة إلى العودة للملاعب، والحكومة هي كل من قال له إنسى يا عمرو.
المتابع الجيد لكرة القدم المصرية، يعلم أن المزحة التي لا تفشل أبداً في الإضحاك رغم تكرارها هي: مزحة عودة الجماهير للملاعب على تنويعاتها المختلفة، مرة تصريح أحد المسؤولين بدراسة عودة الجماهير، أو عودة الجماهير بنهاية العام، أو عودة الجماهير بدايةً من الدور الثاني، أو عودة الجماهير بنهاية العالم. لا مبرر لعدم عودة الجماهير إلى الملاعب، خاصة بعد أن خفت حدة العمليات الإرهابية في سيناء وعمق مصر الآمن وسيطرت الدولة المصرية على الأمن بها، تلك العمليات التي كانت حجة الأنظمة الأمنية في عدم عودة الجماهير. بالطبع أثرت الإجراءات الاحترازية لمكافحة انتشار فيروس كورونا، لكن تلك الأوضاع كانت من قبل أن يظهر الوباء. إن الوضع في مصر يجعلنا نتساءل هل النظام المصري لديه خصومة مع جماهير الكرة؟ ولنا أن نسأل متى يتصالح النظام مع تلك الجماهير ويسمح لهم بدخول الملاعب؟
المتابع الجيد لكرة القدم المصرية، يعلم أن المزحة التي لا تفشل أبداً في الإضحاك رغم تكرارها هي مزحة: عودة الجماهير للملاعب.
صانعو الفتنة
حين نتحدث عن الشقاق بين الحكومة وجماهير الكرة المصرية في السنين الأخيرة، فإن أصابع اللوم والاتهام سرعان ما تتوجه إلى جبين روابط الألتراس. ولهذا الأمر ما يبرره، فلقد كان الجمهور المصري مطواعاً يسهل قيادته من الأجهزة الأمنية خلال مباريات كرة القدم في مناسبات كثيرة شاهدناها في أوج شدتها في عهد المخلوع حسني مبارك. إلا أن دخول الألتراس في المعادلة قد أخل بمعطياتها، وأفسد نتائجها، ولذلك كانت الحكومة من سنوات ظهورهم الأولى ممثلة في وزارة الداخلية كثيراً ما تشتبك مع أعضاء تلك الروابط في الشوارع. إن السلاح الخطير الذي امتلكته روابط الألتراس كان هو “التنظيم”، فجماهير الكرة المصرية قبل ظهور الألتراس كانت في حالة سيولة طبقية وتشرذم، يسهل السيطرة عليها، فلا تجتمع إلا بشكل عشوائي في الأحداث الكروية.
أما بظهور الألتراس أصبحت تلك الجماهير تعرف نفسها في شكل تيار منظم، له اجتماعاته، وشعاراته، وملابسه، وأحلامه المشتركة، كما أنهم أبناء حقبة واحدة وظروف طبقية متشابهة، حيث يتشكلون في أغلبهم من الشباب، ولذلك نرى أن ظهورهم كان في مناطق القاهرة البسيطة مثل حي شبرا ومدينة السلام، وحين ظهروا اتخذوا من مدرجات الدرجة الثالثة -وهي التذكرة الأرخص سعراً- مقراً لهم. ربما لم تمتلك روابط الألتراس القدرة على تحويل جماهيريتها إلى انتصارات سياسية، لكن بمعايير الهيمنة الأيديولوجية، كانت روابط الألتراس من أكثر الحركات قدرة في الفترة الممتدة من 2007 حتى 2012 في الشارع المصري، على تحويل منتجاتها الأيدلوجية إلى منتجات جماهيرية قادرة على إلهام كثير من الشباب، وتحويل نفسها إلى ثقافة شعبية، ومن هنا تنبع خطورة الألتراس على أنظمة السلطة في مصر.
السلاح الخطير الذي امتلكته روابط الألتراس كان هو "التنظيم"، فجماهير الكرة المصرية قبل ظهور الألتراس كانت في حالة سيولة طبقية وتشرذم، يسهل السيطرة عليها، فلا تجتمع إلا بشكل عشوائي في الأحداث
الألتراس والإعلام
دأب الإعلام المصري على مهاجمة ظاهرة الألتراس منذ ظهورها لما تشكله من خطورة على المعادلة الأمنية في الشارع المصري، فهناك من ناصبهم العداء منذ البداية كأحمد شوبير، وأضعف الإيمان كانت الرسالة التي يبثها المعلقون في مباريات كرة القدم عن مناظر الشماريخ التي تؤذيهم والتي لا نريد أن نراها في ملاعبنا، لقد كان الألتراس على الدوام في نظر الإعلام صناع الفتنة منذ عهد مبارك، ونرى أن ذلك الوصف كرره أحمد شوبير مرة أخرى بعد مرور ثماني سنوات.
كان التحام الألتراس بالمجال السياسي حتمياً، ففي فجر أيامهم الأولى، كان نظام مبارك قد وصل إلى مرحلة من الهشاشة تنذر بسقوطه، فمنذ تأسيس حركة كفاية والضغط الشعبي الذي مارسته وأتاح مساحة من الديمقراطية على هامش القمع، وإضرابات 6 أبريل ومحافظة المحلة والإضرابات العمالية اليومية، كان المجال السياسي يعرف طريقه إلى الشارع مرة أخرى، ولأن الألتراس تتكون أساساً من مجموعة من الشباب المقهورين، كان الغضب يجد طريقه في دوائرهم لتصبح تكتلًا قويًّا يتشكل من الضعفاء، لذلك كان انزلاق روابط الألتراس في مستنقع السياسة نتاجًا طبيعيًّا للتطور السياسي الذي حل بمصر، وبعد الثورة تحديدًا زادت أهمية ذلك الحراك السياسي ممثلاً في الألتراس حيث أصبح الشعب أكثر وعيًا بمشكلاته وحقوقه.
الألتراس من كرة القدم للإسلام السياسي
لقد أثبتت ظاهرة الألتراس فعاليتها التنظيمية، حينما كانت هي الشكل الأمثل والأجدّ في أعقاب الثورة وفي أوج المناخ الذي جعل الناس يحلمون بالديمقراطية، فقد انتظمت الجماعات والأحزاب والإسلامية خاصة في شكل روابط ألتراس لتصنع صلة مباشرة بينها وبين الشباب الذي كان اللاعب الأكبر في الشارع المصري آنذاك. تشكلت العديد من الروابط كألتراس نهضاوي وألتراس حازم صلاح أبو إسماعيل، وألتراس وايت نايتس وحمدين صباحي، ولقد كانت ظاهرة الألتراس ممثلة في ألتراس الحرية والعدالة أحد مرتكزات تنظيم التظاهرات في ميدان رابعة التي اعترضت على عزل محمد مرسي.
في ذلك المناخ، كان بالإمكان أن يتردد الهتاف الذي ينادي بسقوط حكم العسكر في محمد محمود، داخل استاد القاهرة، وهو ما حدث بالفعل في مباراة المقاولون العرب والأهلي والتي سبقت مباراة الأهلي والمصري البورسعيدي الشهيرة، والتي تستند الكثير من التحليلات على أن ذلك الهتاف في تلك المباراة والاستهداف المباشر للمجلس العسكري، قد كان بداية دق المسامير في نعش الألتراس. كانت حادثة بورسعيد 2012 والتي راح ضحيتها 72 من مشجعي النادي الأهلي المنتمين لألتراس أهلاوي، حدثًا مفصليًّا في تاريخ الجماهير والكرة المصرية، ومنها بدأ الحصار السلطوي الحقيقي على الجمهور في الملاعب المصرية، وكانت بداية لتاريخ متتالٍ من منع الجمهور في دخول الملاعب. وفي أعقاب حادثة بورسعيد، كانت البداية بتصفية رابطة المصري البورسعيدي ومحاكمة أعضائها بشكل اعتباطي وتوريطهم في الأحداث.
كانت حادثة بورسعيد 2012 والتي راح ضحيتها 72 من مشجعي النادي الأهلي المنتمين لألتراس أهلاوي، حدثًا مفصليًّا في تاريخ الجماهير والكرة المصرية، ومنها بدأ الحصار السلطوي الحقيقي على الجمهور في الملاعب المصرية
وبعد ثلاث سنوات من تلك الحادثة، جاءت أحداث الدفاع الجوي في ظروف غريبة متسرعة، حيث أُعلنت عودة الجماهير إلى الملاعب المصرية عام 2015، بإجراءات تثير الشكوك في توزيع التذاكر للدخول إلى مباراة إنبي والزمالك، وحشد لم يسبق له مثيل للجماهير في قفص حديدي كالدجاج، بحجة تأمينهم، نتج عنه عشرون ضحية من جماهير نادي الزمالك القطب الثاني للكرة المصرية. روابط الألتراس كانت تحتضر منذ 30 يونيو 2013 حين واجهت بيئة سياسية ذات سقف منخفض تؤمن بأن أي تنظيم اجتماعي مستقل سيضر بمصالح الدولة من ناحية، ويحمل في طياته تدخلات أجنبية تآمرية من ناحية أخرى، وهو ما ميز البيئة السياسية في مصر مع صعود السيسي إلى السلطة بالعدائية الشديدة تجاه الحركة التي تستخدم العمل الجمعي والمساحة العامة.
روابط الألتراس كانت تحتضر منذ 30 يونيو 2013 حين واجهت بيئة سياسية ذات سقف منخفض تؤمن بأن أي تنظيم اجتماعي مستقل سيضر بمصالح الدولة من ناحية، ويحمل في طياته تدخلات أجنبية تآمرية من ناحية أخرى، وهو ما ميز البيئة السياسية في مصر مع صعود السيسي إلى السلطة بالعدائية الشديدة تجاه الحركة التي تستخدم العمل الجمعي والمساحة العامة.لقد كانت تلك الأحداث امتدادًا لتصفية الحسابات المعلقة بين الداخلية والمجلس العسكري وروابط الألتراس، ولم تكن دولة السيسي بشموليتها الحالية وأدواتها الضبطية قد ترسخت بعد، والتي برسوخها، بدأت صفحة جديدة.
جمهورية جديدة.. سياسات جديدة
الدولة المصرية الآن لا تهتم أن تبدو متناقضة ففي الوقت الذي أخذ اتحاد الكرة المصرية يتذرع بكل الأسباب الأمنية للتسويف في ملف عودة الجماهير إلى الملاعب المصرية من جديد في بطولة الدوري تحديدًا، كانت الجماهير المصرية تعمر الملاعب في المحافل التي تشكل واجهة لمصر الجديدة. اتبعت الدولة المصرية أساليب كثيرة لإرهاق الجماهير المصرية في المناسبات القارية التي لا تستطيع التدخل والقطع فيها بعدم حضور الجماهير، فقد كان استاد برج العرب الطرفي في الصحراء على مشارف الإسكندرية، يستضيف مباريات منتخب مصر وأندية الأهلي والزمالك في المنافسات الإفريقية، أما جماهير بورسعيد فكان عليها أن تسافر بين إسكندرية وإسماعيلية لحضور مباراة لفريقها، وكل تلك التجمعات كانت غير منتظمة. وبالتوازي مع الصورة التي ترسمها لنفسها كدولة قادرة على تنظيم كل الأحداث الرياضية، من كأس الأمم الأفريقية 2019 والتي استضافتها مصر بدلاً من غينيا في الشهور الأخيرة قبل انطلاقها، امتلأت ملاعب استاد القاهرة من جديد في مباريات المنتخب ثم مباريات الأهلي والزمالك الإفريقية.
في الواقع، لا تواجه الدولة المصرية حالياً الكثير من المشكلات الأمنية خاصة بعد حل تنظيمات الألتراس وإصابتها بالشلل حتى أنها فقدت قادتها وانقسمت على نفسها ولم تستطع مواصلة العمل بشكل سري، وقد حلت السوشيال ميديا كبديل تنظيمي للجماهير ومنشئًا لوعيها الجمعي، وأيضاً لقد أعادت الدولة المصرية الكرة كسلاح تغييبي فعال في السنوات الأخيرة، بشكل أسوأ من نظام مبارك، ومتعلماً من أخطائه. إلا أن طرق تعامل الدولة الحالية مع ملف عودة الجماهير، يجعلنا نقرأ بعض الأشياء التي ستنظم عملية حضور الجماهير إذا قُدر لها أن تعود.
اقرأ أيضا: التجنيس الرياضي.. سؤال الهوية في زمن العولمة
تخضع الملاعب المصرية قاطبة بشكل متفرق إلى أعمال صيانة تنتج أنظمة مراقبة شديدة كانت قد ظهرت فعاليتها للنظام المصري الحالي في أحداث مباراة النادي الأهلي ومونانا الجابوني 2018، وما حدث من هتافات لجماهير الأهلي ضد النظام المصري ووزارة الداخلية، ما جعل إدارة الأهلي تصف تلك الفئة من الجماهير أنها فئة مندسة، وقد سلم الخطيب عن طيب خاطر بيانات حاملي التذاكر إلى وزارة الداخلية المصرية للتحقيق في أمرهم وضبطهم. وعبر النظام الإلكتروني لشراء التذاكر الذي تفعله الدولة في حال السماح للجمهور بحضور المباريات فهي تحاصر المشجع حصارًا كاملًا كالعنكبوت وفريسته في شباكه، كما أن الدولة تسعى إلى تزويد جميع إستادات مصر بكاميرات مراقبة فائقة الجودة لتحديد أوجه المشجعين مرتكبي الشغب، كما أن شركات تأمين المباريات لا تسمح للجماهير بإدخال أي أدوات تشجيعية من البانرات والطبول والشماريخ.
إن الدولة تحاول أن تفرض نظام ضبط فعال في السيطرة على الأفراد وتصرفاتهم، يستطيع رصد التجمعات ووأدها في مهدها قبل أن تخرج عن السيطرة، منذ فشل نظام مبارك، أصبح النظام مهووسًا بأن يسبق الجماهير دائمًا بخطوة. ولا يمكننا الحديث عن أي إمكانية حقيقية لعودة منتظمة للجماهير في حضور مباريات الدوري والكأس بشكل أسبوعي، إلى حين أن يتيقن النظام من قدرته على ضبط كل شيء.
مصادر:
- زمن الوحوش الضارية: محمد مصطفى\بلال علاء
- جمهورية الألتراس: عمرو الأنصاري
- الخضوع والعصيان: زياد عقل