نرى في قصة زواج د. طه حسين من الفرنسية سوزان بريسو رموزًا وتأملات تفصح كثيرًا عن علاقة طه حسين بالغرب ومستشرقيه ومستعربيه.
قصة زواج الاثنين فريدة من نوعها، قصة حب بين مسيحية ومسلم، بين أجنبيةٍ ومصري، بين مُبصِرة وأعمى، الذي كان يمثل تحديًا كبيرًا لكي توافق أسرة سوزان على هذا الزواج، إلى أن تم إنقاذ مصيره بتدخُل عم سوزان الذي كان يعمل قسًا، وقد طلب لقاء طه حسين والتنزه معه لكي يحكُم على طه حسين، وبعد ساعتين، ذهب القس لسوزان قائلًا: “بوسعك أن تنفذي ما عزمت عليه.. لا تخافي.. بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يُحلق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، إنه سيتجاوزك باستمرار”.
فقد كان القس مُتجاوزًا أيضًا برؤيته المستقبلية على أن طه حسين كان بالفعل سابقًا بآفاقه وأفكاره، لا زوجته وأسرته وثقافتهما الفرنسية فحسب، بل تجاوز أيضًا ثقافته بأكملها وإرث بلده وفِكر عالمه الشرقيّ. والاختلافات بينه وبين زوجته كانت مدعاة في رأيي للتأمل على تلك الحالة والظاهرة التي ستصبح فيما بعد عالمية بخصوص عميد الأدب الذي مثل أمته المسلمة العربية وبلده مصر لدى أمم التنوير والعلم بما يضمونه من مستشرقين فرنسيين وإنجليز والروس خصيصًا.
نذكر في البدء أن الاهتمام الروسي بالثقافة العربية بدأ قبل تسعة قرون (900 عام)، وتحديدا فيما قبل القرن الثاني عشر الميلادي كما يذكر المترجم الكبير أستاذ أحمد صلاح الدين، وقد نقل عن المصادر الروسية مثل المستشرقة القديرة إلميرا علي زادة والمستشرق الشهير أليج يافيكين عن أن بوادر هذه الاهتمام الملموس تجلى في تقديم الرحالة إيجومين دانيل أول إنتاج أدبي يخص الشرق ويندرج تحت أدب الرحلات. واستمر هذا الاهتمام إلى أن تجلى وتبلور ظاهرًا مع بدايات الترجمة بين العربية والروسية في النصف الأول من القرن الـ19، من خلال المستشرق الروسي أجناتي كراتشكوفسكي والشيخ محمد عياد الطنطاوي الذي كتب عنه المستشرق الروسي أ. كريمسكي فصلًا كاملًا في كتابه “تاريخ الأدب العربي الحديث” الصادر في موسكو عام 1971.
بدأ الاهتمام الروسي بالثقافة العربية قبل تسعة قرون
وذكرت الشاعرة الروسية نينا الكسندروفنا في حوار مع جريدة أخبار اليوم أنه حتى نهاية القرن التاسع عشر، كانت الترجمة فى روسيا ضئيلة وغير واسعة الانتشار لاسيما الترجمة من اللغة العربية، فما كان على الرحالة الروس الذين جابوا الشرق الأوسط إلا أن نقلوا إلى الأمة الروسية الأخبار السياسية والاقتصادية والأدبية، وبعض أخبار أهم الكتّاب في تلك المنطقة. وأكثروا الحديث عن شخصيتين أدبيتين هما: جبران خليل جبران وعمر الخيام.
وكان الاهتمام الروسي بالثقافة العربية عمومًا والمصرية خصوصًا قد بلغ أوجه وتميزه إبان العهد السوفيتي، ويذكر د. محمد عباس ود. نادية إمام سلطان في كتابهما الهام “بين روسيا والشرق العربي” أنه أثناء فترة الحكم السوفيتية قد تم إصدار ستمائة وواحد وعشرين كتابًا عن الأدب العربي، وبلغ عدد النسخ التي طُبعت منها واحدًا وأربعين مليونًا وتسعمائة وأربعة وثلاثين ألف نسخة مُترجمة إلى ستة وثلاثين لغة شعوب الاتحاد السوفيتي، وكانت تضم بينها واحدًا ومائة كتاب عن الأدب المصري الكلاسيكي والمعاصر، وبلغ مجموع النسخ التي طبعت لها ثلاثة ملايين وتسعمائة واثنتين وأربعين ألف نسخة وفي هذه الفترة برزت أسماء عِدة مثل إ. كراتشكوفسكي، وكريمسكي، أ. م. فلشتنسكي، أ. أ. دالينينا، فاليريا كيربتشينكا و يلينا ستيفانوفا وأولجا فرولوفا. وسرعان ما اضحملت أوضاع الاستشراق بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتولي جورباتشوف الحُكم، وأصبحت دراسات الاستشراق والاستعراب وحركات الترجمة مقرونة بدرجة كبيرة بالأطروحات الأكاديمية والبحثية داخل الجامعات.
وكان من الطبيعي في هذه الفترة الالتفات إلى الأدب العربي والمصري منذ ثلاثينيات القرن الماضي -حسبما كتبت المستشرقة الكبيرة فاليريا كربتشينكا- والذي بدأ بترجمة رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل و”الأيام” لطه حسين، و”عودة الروح” لتوفيق الحكيم وثلاثية نجيب محفوظ. ومن هُنا ذاع صيت طه حسين فى روسيا عقب صدور الجزء الأول من كتابه الشهير «الأيام» والذي ترجمه إلى الروسية شيخ المستعربين الروس إجناتي كراتشكوفسكى عام 1931 وذلك وفقا للطبعة العربية التي صدرت عام 1929.
وكان من الطبيعي أن تتبع ازدهار حركة النقل والترجمة لروائع الأدب المصري والعربي حركة أخرى من الاهتمام بالدراسة والنقد والبحث من المستشرقين الروس والمستعربين، وكان طه حسين ومؤلفاته ومنهجه وطروحاته أهم الظواهر التي تناولها الاستشراق الروسي. وكما أوضحت المستشرقة كلوديا فيكتوروفنا، أجرى كراتشكوفسكي مراسلات مكثفة مع ممثلين مشهورين للأدب العربي الجديد مثل محمود تيمور وأمين الريحاني وزكي أبو شادي وبالطبع طه حسين، ولعب كراتشكوفسكي دورا هاما في تعريف القارئ الروسي بعميد الأدب طه حسين.
وخلال بحثنا وجدنا أن الاستشراق السوفيتي والروسي قد اقتسم إنتاج ووزن المفكر طه حسين وفق تخصصات باحثيه، فنجد أن الباحثين ف. بلاييف، أ. دالينينا، إ. ي. كراتشكوفسكي، ن. ف. نافيكاف قد بحثوا ونقدوا الأثر الأدبي لطه حسين وميراثه الروائي والقصصي، في حين نجد أن الاهتمام برؤاه السياسية والاجتماعية والفكرية قد حظت باهتمام كبير لدى الباحثين أ. ب. خاليدوفا، ز. إ. ليفين، إ. ف. مصطفينا. ورغم ذلك نجد الباحثة د. ر. جنياتولينا تقول إنه رغم ما كُتِب في بلاد السوفيت والروس عن ميراث طه حسين الفكري والتربوي إلا أنه إلى الآن لم تُكتب دراسة موضوعية كاملة عن طريقة تشكيل رؤى وأفكار طه حسين وكيفية الاستفادة من هذه الأفكار في مدارس ومناهج التربية الحديثة.
ويتفق معها الشاعر التتاري رفقت جاردييف الذي كان يرى أن منزلة طه حسين لدى الأمة الروسية كانت متواضعة رغم أهميته الكبيرة كمؤرخ ومبدع أدبي وأحد أهم مؤسسي الواقعية النقدية وكذلك لدوره التنويري الهام بدءا من الرغبة في عصرنة العلم فيما لا يخل بالتراث وهي المعادلة الصعبة التي لم يستطع أن يسير وفقها معظم التنويريين والنخبة فيما بعد إلى عصرنا هذا، إذ وقع الجميع ضحية “التغريب”، وهنا استخدامنا للفظة التغريب لا يدل على انزواء من حضارة أوروبا وثقافة الغرب، أو هو موقف متطرف يرى الآخر بعينٍ ناقدة؛ انتصارًا لسرديات تفوق الثقافة العربية التي ستعود مرة أخرى لقيادة الفكر الإنساني وخاصة الأوروبي، وإنما هو مجرد مَوضعة الفكر الأوروبي في إطاره المناسب غير المبالغ فيه فيما يخص من التنازل عن الهوية وإخراج مناهج تنويرية من رحم سارتر وروسو وستيوارت ميل دون الالتفات للإرث الثقافي الجاهلي والإسلامي والموروث الأدبي والثقافي الشرقي الذي يحتوي الكثير والكثير من ثيمات إنسانية وأنثروبولوجية وديوجرافية نهل منها الكثير من علماء وأدباء أوروبا، الذي يثبت أنه لا يمكن تأسيس هوية مدنية حضارية تنويرية في أي أمة شرقية إلا بمنطق عميد الأدب في المزج بين الحضارة والأصالة وهي الثنائية التي لم تستطع أن تحويها أية مقاربة أو أطروحة معاصرة.
رغم اهتمام الاستشراق السوفييتي والروسي بدراسة طه حسين لم يترجم له سوى كتابي ألأيام ودعاء الكروان إلى الروسية
ويستطرد ويتحسر رفقت جاردييف على أن السوفيت عمومًا والروس لم يترجموا لطه حسين اللهم إلا كتابي “الأيام” و”دعاء الكروان” رغم أنه له آثارًا فكرية وأدبية عديدة منها “المعذبون في الأرض”، “في الشعر الجاهلي”، “حديث الأربعاء” و”مستقبل الثقافة في مصر”.
ويُقسم الاستشراق الروسي مراحل تطور أفكار ومنهج طه حسين إلى أربعة مراحل: المرحلة الأولى (1894:1914) أو المرحلة المصرية، وهي التي تشكلت فيها لديه وجهات النظر الفلسفية والتربوية وولوجه إلى عالم المتناقضات التي اكتشفها في التقاليد والتراث والتي أثرت في تشكيل آرائه التربوية والإنسانية. المرحلة الثانية (1915:1919) وهي الفترة التي تعرف فيها على إنتاجات الغرب الأوروبي فيما يخص التعرف على مبادئ الديمقراطية، وأهمية وأثر التعليم في المجتمع، وكذلك كانت الفترة هذه بداية معرفة طه حسين للمشكلات الاجتماعية لأي مجتمع عن قُرب. المرحلة الثالثة (1920:1941) وهي الفترة التي زاوج فيها طه حسين بين فكرتَيْ الأصالة والمعاصرة ودخولها حيز التطبيق والممارسة والتبشير، وهنا مزج طه حسين بين أفكار وتقاليد الشرق وما اكتسبه من فنون وفلسفات وعلوم أوروبا؛ محاولا البحث عن حلول للمشكلات الاجتماعية والسياسية التي طرأت على المجتمع المصري، وكذلك شهدت هذه الفترة بداية نشاطاته التربوية. المرحلة الرابعة (1942:1973) والفترة الرابعة والأخيرة تُعَد فترة الاختبار العملي للأفكار التربوية، وتنفيذ الإصلاحات لإضفاء الطابع الديمقراطي على نظام التعليم المصري وإضفاء الطابع الإنساني عليه، وشهدت هذه المرحلة الاعتراف بالأفكار التربوية لطه حسين على نطاق عالمي.
ومن المُلاحظ أن مستشرقي روسيا ومن قبلهم السوفييت كان لديهم اهتمام كبير بالظروف والعوامل التي كان لها الأثر الكبير في تشكيل الأفكار السياسية والتربوية لدى طه حسين بقدر اهتمامهم بأهمية أعماله وكتاباته. ونجد أن أهم هذه العوامل هي التأثر بادئًا ذي بدء بالصوفية وتشكيلاتها الأخلاقية وموقفها من الواقع، الفكر الفلسفي والتربوي في العصور الوسطى القديمة (أفلاطون، أرسطو)، الفكر التربوي العربي (ابن سينا، ابن رشد، الفارابي، ابن خلدون، محمد عبده)، الأدب الفلسفي العربي والفرنسي والإنجليزي والروسي، أفكار الديمقراطية الثورية (مصطفى كامل، لطفي السيد)، الثقافة الشرقية والغربية بشكل عام.
ويلفت نظر الاستشراق الروسي تأثر طه حسين بمحمد عبده الذي لا يخفى اسمه على نقاد ومستشرقي روسيا حيث كان الأخير مشهورا بمحادثاته ومراسلاته مع المبدع الروسي ليف تالستوي، وفي هذا الميدان يقول دكتور سيرانيان باجرات جاري جينوفيتش الأستاذ بمعهد الاستشراق الروسي في كتابه “طه حسين ومصر المُعاصرة” أن طه حسين كان من أشد المعجبين بمحمد عبده الذي أسهمت مفاهيمه الإصلاحية في علمنة المجتمع وتقويض هيمنة النظرة الدينية للعالم”.
وتتلخص عوامل اهتمام الاستشراق السوفيتي والروسي بطه حسين في الآتي:
الموسوعية الكبيرة والتي قلما حظي بها مبدع مصري فهو عالم أدب وأكاديمي وناقد ومؤرخ وروائي وقصصيّ وإداري وسياسي ووزير للمعارف، وكذلك تميز إنتاجه الفكري والأدبي بروح الابتكار والانتماء للعصر، ومن هنا كان يعمل على حل الإشكالات التي تقف حائلًا أمام التقدم في ملفي التعليم والثقافة وهما عماد نهضة الأمة على حد رأيه، وقد ذكرت الناقدة الروسية ف. ماسكاليتس في دراسته “طه حسين وتطور التعليم في مصر” أن قيمة طه حسين في روسيا تتعلق بكونه مفكرًا وكاتبًا مصريًا بارزًا، في حين أن نشاطه في ميدان التربية والتعليم احتلت مكانة هامة وإسهاماته فيها متعددة. وكان مهمًا بالنسبة للنقاد والمستشرقين الروس الاهتمام بأديب ومفكر فقد بصره إلا أنه كان أول مصري يحصل على درجة الدكتوراه من خارج مصر بجامعة السوربون بعد تقديم أطروحته عن ابن خلدون، وكذلك المستعربة الراحلة فاليريا كيربتشينكا عبرت في أحد المرات عن بالغ الأسى لإصابة طه حسين بفقد البصر حيث قيد العمى إمكانياته في وصف زهور الحياة وتفاصيلها المصورة لكنه نجح في التعرف على الأدب الفرنسي الحديث وتمايز الأشكال والفنون الروائية لمؤلفاته.
وهُنا يلفت الانتباه أمر هام بخصوص دراسته عن ابن خلدون وكذلك دراسته الأولى عن أبي العلاء المعري والتي كانتا أحد أهم عوامل جذب الروس والسوفييت إلى طه حسين، حيث اختلفت الدراستين بمنهجيتهما عن مُجمَل الأعمال الأدبية والفكرية لطه حسين بعد ذلك، ففي الوقت الذي كان لا صوت فيه يعلو على منهج الأزاهرة في التربية والتعليم وكذلك الكلاسيكيين في عالم الثقافة والأدب، إلا أن طه حسين خرج من ميدان البحث التقليدي؛ طارقًا بابًا جديدًا في ميدان الدراسة الأكاديمية والمنهجية والاستقصاء القائم على المنهج التاريخي التحليلي والشك الديكارتي الذي لا يتعامل مع الظاهرة/موضوع البحث بمنطق “الحقيقية” أو “المُسَلّمة”، إلا أن كل موضوعات البحث خاضعة للنقد والشك للوصول إلى الحقيقة التي تُعد نتيجة لا سببًا. وأبرز نموذج على هذا المنهج أنه في بحثه عن أبي العلاء قدم طه حسين مراجعة نقدية مُفصلة للمصادر التي استخدمها في بحثه، وقد ميز منها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وخلص في بحثه بنتيجة تعكس هذا المنهج وهذا الأسلوب وهو أن أبا العلاء المعري هو نتاجٌ لعصره، وتأثر بالظروف الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية في عصره. وهذه الأسباب كانت مناط تميُز تشهد لطه حسين وجعلت اهتمام بعض المستشرقين الروس بطه حسين يقفز خارج حدود أعماله وقوالب الأدب التي كان يكتب فيها.
ويذكر الباحثون المستشرقون الروس أن طروحات طه حسين عن التعليم والتربية كانت أهم ما يميز سُمعة طه حسين في روسيا وفي أوروبا خصوصا أفكاره عن ضرورة ارتباط الديمقراطية بالتعليم الذي يعمل على تطوير شخصية الفرد وتنمية إبداعاته، وكما يذكر إ. ك. سابيروف الباحث بمعهد استشراق موسكو أن شعبية د. طه حسين تجاوزت مصر والوطن العربي إلى أرجاء أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين، الذي يعد نتاجًا لرؤية طه حسين الفكرية في ضرورة دراسة الطلاب لكافة ثقافات وآداب العالم إلى جانب الأدب القومي والوطني وتأكيده على أهمية اتباع المنهج الفرنسي في إدارة التعليم، وقد خصص د. ليفين زلمان إيزاكوفيتش مؤلفًا خاصًا لدراسة دور طه حسين في التعليم والفكر المصري بعنوان “فارس الفكر الحُر” في عام 2019.
آفة التعليم الديني الأزهري أنه منفصل عن الحياة عموما، ويعتبر هذا النوع من التعليم غير قابل للتطبيق في الواقع
وقد اهتم الاستشراق والنقد الروسي بمنهجية طه حسين في نقده للتعليم الديني في مصر ممثلا في الأزهر؛ حيث كان يذكر خصوصا في كتابيه “مستقبل الثقافة في مصر” و”الديمقراطية” أن آفة التعليم الديني الأزهري أنه منفصل عن الحياة عموما، ويعتبر هذا النوع من التعليم غير قابل للتطبيق في الواقع؛ منتقدًا الموقف السلبي لغالبية علماء الأزهر تجاه مستحدثات الحضارة الأوروبية والعلمية، وكذلك عقلية القرون الوسطى لعلمائها شدد ت.حسين على أن الإسلام هو دين تنمية يسعى لتحقيق المثل العليا في الحياة الروحية والمادية. وهُنا لا يفوتنا أن نذكر أهمية المقالة الاستشراقيّة القيّمة “طه حسين – مؤسس المدرسة الأدبية الجديدة في مصر”، والتي ذكر فيها د. ليفين زلمان أن طه حسين كان أول فرد مُسلم يخرج عن الأعراف وأساليب البحث التقليدية في الدول العربية، ويطبق منهجًا تاريخيًا ومنهجًا للتحليل النقدي في دراسة الظواهر التاريخية والأدبية.
وتُقيّم الناقدة الأدبية أوكسانا ماسكاليتس في كتابه الهام “الأزهر والمسيرة السياسية في مصر في العصر الحديث” الدور الكبير الذي قام به طه حسين في إصلاح التعليم الجامعي المصري، حيث شارك بشكل مباشر في تطوير مفهوم إصلاح الجامعة إلى أن تم تغيير هيكل هذه المؤسسة التعليمية حيث تقسمت المراحل الدراسية إلى ثلاث أساسية: ابتدائية “أولية”، ومتوسطة، وعُليا، وجوهر ذاك التغيير كمُن أيضًا في فصل تبعية الابتدائية والمدرسة المتوسطة من المسجد “نظام الكتاتيب” وتم مأسستها لتتبع مؤسسة الأزهر وانتشرت المدارس الخارجة من عباءة المسجد في القاهرة والإسكندرية وطنطا والزقازيق وأسيوط ودسوق ودمياط لتتخذ مسمى “المعاهد الدينية”، ويضيف ماسكاليتس مُحتفيًا بالخدمات القيّمة التي أسداها طه حسين لنظام التعليم المصري، أنه أدخل مواد علمانية -وفق تحديد الباحث- مثل الجبر والهندسة والكيمياء والفيزياء والتاريخ الطبيعي والتاريخ الوطني والجغرافيا وتم تخصيص عدد كبير من الساعات لكل مادة من مواد السنة الدراسية الجامعية، في حين تم تحديد تدريس المواد غير الدينية على ألا يزيد عن 30٪ من إجمالي وقت الدراسة.
وهُنا ليس من فراغ أن الخدمات الجليلة التي أداها طه حسين لصالح منظومة التعليم والتربية المصرية والعربية عموما، كانت المسوغ الرئيسي لحصوله على العديد من الجوائز والأوسمة، بالإضافة إلى كونه أستاذاً وطبيباً فخرياً في عدة جامعات أوروبية، وله أكثر من خمسين كتاباً في الفلسفة والتاريخ ونظرية الأدب والتربية، كما ترجم الكثير من كتب الأدب الأجنبي إلى اللغة العربية، وحصل على أعلى أوسمة البلاد “وسام النيل” لمساهمته الكبيرة في تطوير التعليم ونشر القيم الإنسانية وكان ضمن من قُدِّروا بجائزة من الأمم المتحدة. كما أنه أصبح أول خريج لأول جامعة علمانية في مصر (جامعة القاهرة، 1908)، وهو أول مصري حاصل على الدكتوراه من الخارج، وهو أول وزير للتعليم في مصر، وتقلد مناصب ثقافية وعلمية رئيسية داخل مصر وخارجها. ونتاج لكل هذه الأوسمة والمناصب كان حريًّا بدراسات الاستشراق والاستعراب الروسي أن تدرج اسم “طه حسين” ضمن الظواهر الجديرة بالتحليل والنقد والدراسة.
وفي أطروحة علمية نشرتها جامعة تتارستان الحكومية التربوية الإنسانية وحملت عنوان “تشكيل الرؤى التنويرية ومبادئ التربية لدى طه حسين”، تقول فيها الباحثة: “إن شهرة طه حسين في علم التربية العربي، تَضاهي شُهرة الشيخ المُرجاني وك. نصيري في أصول التربية التتارية، وكذلك شُهرة ليف تالستوي و ف. أ. سوخمالينسكي في التربية الروسية”، وتستطرد الباحثة قائلةً: “إن أهمية مبادئ طه حسين التربوية في الشرق العربي في القرن العشرين تُعادل قيمة الفكر التربوي للمربين العرب المشهورين أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده في القرن التاسع عشر”.
ونجد أيضًا الاهتمام الكبير بشرح وتتبع الأسباب التي كانت المحرك الرئيسي لاهتمام طه حسين بقضايا العصرنة والاشتباك مع ثقافات الغرب والتي تجلت باهتمامه الكبير بقضايا التعليم والتربية وفق منطق عميد الأدب، فنجد أن الباحثة الروسية جينياتولينا ديانا رافيلفنا في دراستها عن طه حسين التي وضعتها عام 2009، تتحدث عن شبق طه حسين في أن يصل التعليم إلى كل منزل مصري لأنه قبل أي شيء هو الطريق إلى الرُقي والسعادة، بالإضافة إلى رفضه للعُزلة الوطنية وتقوقع الأمة إبان هذه الفترة؛ مؤكدًا على ضرورة الالتفات إلى آداب العالم أجمع، ورفضه للتعليم الطائفي الذي يقسم الناس إلى فئات أو الذي يبث رسائل سلبية انغلاقية في نفوس الطلاب الذي جاء أيضًا عبر إدراكه أنه من المُحتم أن يستقل التعليم عن الوضع الاجتماعي والمادي لأولياء الأمور، وكذلك اقتناعه الكبير بأهمية اندماج الأمة تحت لواء تيار العولمة وتنوع الثقافات الوطنية. وقد خلصت الباحثة إلى ركيزة هامة تستحق الاعتبار والوقوف، وهي أن طروحات د. طه حسين في ميدان التثقيف والتربية المدرسية والجامعية تتماس مع أفكار ومفاهيم المدرسة الحديثة للتربية خصوصًا مع أفكار الفيلسوف التربوي الروسي ش. أ. أموناشفيلي، وكذلك تستطرد الباحثة أن أفكاره حول التعليم متعدد الثقافات تُشابِه ما جاء به الفلاسفة السوفيت أمثال فلاديمير سولومونوفيتش و س. ي. كورجانوف.
وفي هذا السياق نقول إنه كما لفت انتباه الاستشراق الروسي المراحل والظروف التاريخية والاقتصادية والاجتماعية التي أثرت في تشكيل وعي طه حسين ونظرته الناقدة للتقليدية والتراث، فإنهم أخذوا أيضًا بعين الاعتبار الظروف التاريخية التي نُشرت فيها أعمال طه حسين والتي قلما ينظر إليها الباحثين حسبما ذكر الباحث إ. ك. سابيروف في مقالته الهامة “المفاهيم الأدبية والجمالية لدى طه حسين”.
ويذكر سابيروف، أنه مثلما لعب فولتير وروسو وديدرو دورًا كبيرًا في الإعداد الإيديولوجي للثورة الفرنسية الكبرى، مما أسهم في تقدم الدولة وتعزيز قيم ومبادئ الحرية، كذلك حاول طه حسين بأعماله محاربة الركود والتخلف في المجتمع العربي؛ مقتنعًا بالقيم الغربية والثقافة الأوروبية، داعيا إلى التقارب المصري الأوروبي ويذكر المستشرق الروسي الكبير نيكولاي يوسيفوفيتش كونراد عن هذه المرحلة من الأدب والفكر المصري بأنها مرحلة نهضة الفِكر المصري الوطني التي كان أبطالها طه حسين والعقاد والمازني ويحيى حقي وتوفيق الحكيم وعيسى عبيد ومحمود طاهر لاشين ومحمد حسين هيكل وآخرون ممن تمردوا على القواعد التقليدية التُراثية التي كانت تُسيّر حركة الأدب والمعارف في مصر، وأشار أيضًا المستشرق الكبير أ. ف. سلطانوف إلى ذلك الدور والمسار التدريجي لتطوير الأدب والثقافة المصرية ككل الذي اتبعه عميد الأدب خصوصا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وكانت المستعربة أولجا فرولوفا أهم من انتبه إلى الظرف التاريخي الذي حمل مؤلفات طه حسين ونقده لأحوال القرية والفلاح والفساد الاجتماعي الذي كان نتاجًا لتدهور منظومة التعليم المنغلقة على نفسها، وذلك عبر سلسلة من المؤلفات والمقالات قد نشرتها فرولوفا في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.
من المُؤلفات التي حملت اهتمام الاستشراق الروسي والنقد العربي على حد سواء، كتاب "في الشعر الجاهلي" (1925)، الذي خرج به طه حسين من زُمرة النقد التقليدي ليتبنى المنهج التاريخي صراحة في كونه المعيار الرئيسي في الحُكم على الظواهر والأحداث الدينية واللاهوتية
ومن المُؤلفات التي حملت اهتمام الاستشراق الروسي والنقد العربي على حد سواء، كتاب “في الشعر الجاهلي” (1925)، الذي خرج به طه حسين من زُمرة النقد التقليدي ليتبنى المنهج التاريخي صراحة في كونه المعيار الرئيسي في الحُكم على الظواهر والأحداث الدينية واللاهوتية والشخصيات التاريخية، وفي هذا الصدد يقول إجناتي كراتشكوفسي -أهم مستشرقي روسيا عبر التاريخ- إن كتاب طه حسين كان يهدف إلى نقد المصنفات الأدبية القديمة وشروط نقلها، وبالتالي كان طبيعيا أن تتماس أفكار الكتاب مع ما جاء في القرآن الدين الرئيسي للعرب، مع مِنهاج كان من الصعب أن تقبله البيئة الإسلامية التقليدية.
وكذلك حمل طه حسين مكانةً هامة في سياقات وسرديات الاستشراق الروسي والأوروبي بعد أن كتب لترجمات كلاسيكيات الأدب الأوروبي التي قام بها المترجمون المصريون، على وجه الخصوص في أواخر العشرينات من القرن الماضي، وتحدث عنها أيضًا كراتشكوفسكي قائلاً: “إن هذه الترجمات لا تعود دائمًا مباشرة إلى الأصل، لكن أهميتها للأدب العربي الحديث كبيرة جدًا، لما تتميز به مقدمات طه حسين بطابع الدراسات المستقلة والتي تُعد بادرة وسابقة جيدة في تاريخ ترجمة الموضوعات لدى العرب”.
وسؤال وانشغال طه حسين عن الهوية وتساؤله: “إلى أي حضارة تنتمي مصر؟”، كانت من أهم تجاوزه حدود جغرافيته والتي كانت أيضًا موضع اهتمام باحثي السوفييت وروسيا، وقد توصل طه حسين إلى استنتاج مفاده أن الثقافة الحديثة لمصر تتعلق بنشأة حضارة البحر الأبيض المتوسط بأكملها، بأساسها الثقافي اليوناني اللاتيني مثل أوروبا الغربية، فتأثرت مصر باليونان القديمة وروما. وعلاوة على ذلك تأثرت مصر بالديانات الشرقية كما تأثرت بها أوروبا الغربية. وكان سؤاله عن الهوية يحمل في طياته قناعته بحتمية الانخراط في ثقافة أوروبا والغرب بوصفها المفتاح والمُخلِّص للتدني والانحدار الذي كانت تشهده الثقافة والفكر المصري خصوصًا إبان العهد العثماني، وقد خصص الكثير من الأبواب لمناقشة هذه المسألة في كتابة “مستقبل الثقافة في مصر” على أنه لم يكن يؤسس لاتجاه تغريب الثقافة المصرية أو أن يدعو لانسلاخ الأمة المصرية من هويتها كما زعم أعداؤه، إلا أنه كان يريد ثقافة متطورة وفكرًا حديثًا يواكب العصر والعولمة وفي الوقت نفسه التمسك بالأصالة والتراث مع مراجعتها ووضع الأمور في سياقاتها التاريخية وسيرورتها الزمنية.
ورغم أننا نخلص في بحثنا إلى أن الاستشراق الروسي كان أكبر من اهتمام طه حسين بالأدب الروسي، إلا أننا نجد تأثرات شاهدة على اهتمام طه حسين بعالم هذا الأدب، قد كتب طه حسين مقدمة ترجمة رواية “دكتور جيفاجو” والتي حصل مؤلفها بوريس باسترناك على نوبل عام 1958 والتي رفضتها السُلطة الروسية وقام بترجمتها حلمي مراد، وعرضها وعلق عليها طه حسين على أن الرواية تتحدث عن جيل من الروسيين نشأوا قبل الثورة البلشفية وأدركتهم الثورة في أول شبابهم، ثم عاشوا معها حتى استقر منها ما كان مضطربا وحتى أمِنت أعداءها واستطاعت أن تنتصر عليهم. ولا يعرف طه حسين، وفق ما كتب، كاتبا روسياً صوّر الهلع والفزع والجزع الذي يملأ قلوب الناس ونفوسهم وعقولهم ويملك عليهم أمرهم كلّه كما صوّر باسترناك شخصيات روايته. وكذلك كان مهتمًا بالأديب فيودر داستاييفسكي، ويشهد على ذلك حينما سأل عميد الأدب العربي المستشرق الروسي فلاديمير كراستوفسكي رأيه في ترجمة سامي الدروبي الأعمال الكاملة لداستايفسكي، والذي رد عليه قائلًا: “لو أن داستايفسكي كتب بالعربية لما كتب أجمل من ذلك”.
ورغم أننا نخلص في بحثنا إلى أن الاستشراق الروسي كان أكبر من اهتمام طه حسين بالأدب الروسي، إلا أننا نجد تأثرات شاهدة على اهتمام طه حسين بعالم هذا الأدب
ونرى الاهتمام السوفيتي بطه حسين يقفز خارج حدود دراسات الاستشراق وأبحاث وترجمات المستعربين، فنجد أن أهم شوارع أوزباكستان يحمل اسمه، وكذلك تم زاحة الستار عن تمثال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عام 2013 بمقر معهد الاستشراق الروسي العريق وذلك في إطار الاحتفالات الخاصة بمرور 70 عاما على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين مصر وروسيا. ولم يتوقف الحديث الروسي عن طه حسين، ونجد الشاهد على ذلك كتاب “طه حسين.. الإنسان والمفكر العظيم” الصادر عام 2004، وقام بتأليفه “باجرات ج. سيرانيان”، و”ألكسندر أو. فيلونيك” وآخرون، ونقلته للعربية عن الروسية المترجمة أماني التفتازاني، وقد ذكروا فيه أن طه حسين كان عضواً في لجنة “الصندوق المصري لمساعدة مواطني الاتحاد السوفياتي” كما ذكر المستشرقون الروس في كتابهم وكان يُساعد حينها في نشر مجموعة من مقالات المراسلين الحربيين السوفيت في مجلات “برادا”، و”جين” في القاهرة بالروسية والإنجليزية والفرنسية. وفي تلك الفترة، انعكس نضال الشعب السوفياتي في أعمال أدباء مصريين، فنشر الشاعر علي محمود طه قصيدة عن ستالينجراد “المدينة الباسلة”.
ويستمر إبداع طه حسين حاضرًا في مرآة النقد والاستشراق الروسي على الرغم من تدهور أحوال الاستشراق ومؤسساته بالمقارنة فيما كان عليه قبل حقبة التسعينيات قبل سياسة “البيرسترويكا”، ويستمر النقاد في الحديث عنه وأعماله، وننقل منهم ما قاله د.جورياتشكين، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة موسكو، الذي رأى أن طه حسين قدم إبداعات في أكثر اللحظات دراماتيكية فى تاريخ وطنه، بل في تاريخ العالم العربى أجمع، وتمكن من تسليط الضوء على القضايا المسكوت عنها في المجتمع المصري وقدم حلولا لهزيمة جمود وتقولُب الوعي المجتمعي المصري. وكذلك ذكرت المستعربة الروسية المعاصرة نتاليا ميخائيلوفا شويسكايا -في ترجمتها لرسالة طه حسين إلى الأديبة غادة السمان- نصيحة طه حسين للأدباء الشبان حينما قال: “ويل للأديب إذ شعر بالرضى عن نفسه لأنه في تلك اللحظة ستهجره الطموحات وسيفقد القدرة على التطوير”.
وهُنا نخلص إلى أن طه حسين يكاد يكون الأديب والمفكر الوحيد في مصر الذي درسه الاستشراق والاستعراب الروسي كمفكر ومُنَظِّر تربوي وفيلسوف تعليمي وإصلاحي اجتماعيّ بشكل أكبر من كونه أديبًا مصريًا وهو ما سيندهش له كثيرون، وكذلك رأينا أن الكاتب أو الأديب العربي حينما تتناوله حركات ودوائر النقد والاستشراق بالدرس يكون بشكل أكبر في حدود الدراسات المُقارنة وحقل تأثره بأعلام وأدباء بلد الباحثين، إلا أن ظاهرة “دراسة طه حسين في حقل الاستشراق الروسي” قد شذت عن القاعدة؛ فكان مدروسًا خارج هذا الإطار. والنتيجة الثالثة والأخيرة نذكرها في سؤال أطرحه على الجميع هل يمكن أن نقول إن الاستشراق الروسي أنصف طه حسين بشكل أكبر من حركات ودوائر النقد العربية والمصرية؟