ظهرت مؤخراً الكثير من الإشاعات التي تحدثت عن الأصل اليهودي للرئيس التونسي قيس سعيد، الأمر الذي يتشابه مع ما وقع منذ عدة سنوات مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، عندما تم الترويج لكونه إنما ينحدر من أصول يهودية. من غير الخفي، أن تلك الأقوال قد ظهرت وراجت بين صفوف الجماعات الإسلامية التي تناصب الرجلين العداء، وذلك بعد عملهما على الإطاحة بحركة النهضة في تونس، وجماعة الإخوان المسلمين في مصر.
القراءة الفاحصة لتلك الإشاعات، من شأنها أن تكشف لنا بوضوح عن واحدة من أكثر الظواهر ارتباطاً بالمُتخيل السياسي في الإسلام، ألا وهي تلك الظاهرة التي تعمل على نسبة الآخر المعادي سياسياً -وعقائدياً- لليهودية، وذلك استثماراً لحالة الكراهية الشائعة في التراث الإسلامي ضد اليهود على وجه الخصوص. في الحقيقة، فإن إعادة قراءة تاريخ الكثير من الشخصيات المكروهة في الفضاء السني، ستكشف أن تلك الشخصيات قد تم نسبتها -أو نسبة أفكارها- لأصول يهودية، من باب التشنيع عليهم والحط من قدرهم. الأمر الذي سنوضحه من خلال تتبعنا لسير ثلاث شخصيات، ألا وهم عبدالله بن سبأ، والجعد بن درهم، وعُبيدالله المهدي.
عبدالله بن سبأ: قادح زناد الفتنة الكبرى، ومؤسس المذهب الشيعي
تتفق المصادر التاريخية مع بعضها بعضًا، على أن النصف الثاني من عهد الخليفة عثمان بن عفان، قد شهد الكثير من حركات الاحتجاجات والاضطرابات التي وقعت في بعض الأمصار الإسلامية، ولا سيما في كل من البصرة والكوفة والفسطاط، الأمر الذي تسبب فيما بعد في اندلاع شرارة الثورة ضد عثمان. الكثير من المصادر السنية، أكدت على مسؤولية عبدالله بن سبأ في تفجير تلك الأزمة السياسية، كما أكدت في الوقت ذاته على كونه المؤسس الحقيقي للمذهب الشيعي، والذي عُرف بكونه أحد أهم أجنحة المعارضة السياسية الإسلامية على مر القرون.
بحسب الكثير من الروايات التي ذكرها أعلام أهل السنة والجماعة في مدوناتهم التاريخية، فإن ابن سبأ كان أول من روج لعقائد الوصية، والرجعة، وألوهية علي بن أبي طالب، كما أنه أشعل الخلاف بين معسكر أهل العراق من جهة، ومعسكر أهل الشام من جهة أخرى، وقد ظهر أثره مراراً في معارك الجمل وصفين، فضلاً عن حشده للناس قبلها ضد الخليفة الثالث، ودعوته لهم لقتله واستباحة دمه.
الأغلبية الغالبة من المصادر السنية، عملت على تشويه صورة المذهب الشيعي الإمامي من خلال ربطه بابن سبأ، والتأكيد على كونه يهوديًّا
الأغلبية الغالبة من المصادر السنية، عملت على تشويه صورة المذهب الشيعي الإمامي من خلال ربطه بابن سبأ، والتأكيد على كونه يهوديًّا، لم يعتنق الإسلام إلا لإلحاق الأذى بأهله، وبث الفتنة بين صفوف المسلمين، على سبيل المثال، يذكر ابن جرير الطبري المتوفى 311هـ، في كتابه تاريخ الرسل والملوك “كان عبدالله بن سبأ يهودياً من صنعاء”، أما شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية المتوفى 728هـ، فقد فصّل القول شارحاً دور ابن سبأ في معاداته للإسلام في مجموع الفتاوى، فقال: “وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ مَبْدَأَ الرَّفْضِ -التشيع- إنَّمَا كَانَ مِنْ الزِّنْدِيقِ: عَبْدِاللهِ بْنِ سَبَأٍ؛ فَإِنَّهُ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْيَهُودِيَّةَ وَطَلَبَ أَنْ يُفْسِدَ الْإِسْلَامَ كَمَا فَعَلَ بولص النَّصْرَانِيُّ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فِي إفْسَادِ دِينِ النَّصَارَى…”.
في السياق نفسه، عقد ابن تيمية، في كتابه منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، مقارنةً بين الشيعة واليهود والنصارى، فقال: “ولهذا كان بينهم، أي الشيعة، واليهود من المشابهة في الخبث واتباع الهوى، وغير ذلك من أخلاق اليهود، وبينهم وبين النصارى من المشابهة في الغلو والجهل، وغير ذلك من أخلاق النصارى، ما أشبهوا به هؤلاء من وجه، وهؤلاء من وجه، وما زال الناس يصفونهم بذلك”. مما تجب ملاحظته هنا، أن الكثير من المؤرخين والباحثين قد نفوا الوجود التاريخي لشخصية عبدالله بن سبأ، فعدّوه مجرد شخصية مُختلقة، استخدمها مؤرخو أهل السنة والجماعة لتبرئة كبار الصحابة ممن دخلوا ضد بعضهم بعضًا في الكثير من المعارك بسبب رغبتهم في الوصول للسلطة والحكم.
الجعد بن درهم: أول من قال بعقائد المعتزلة
في نهايات القرن الأول الهجري، ظهرت في البصرة فرقة عقائدية جديدة على الساحة الإسلامية، ولم يمر وقت طويل، حتى تمكن زعماء تلك الفرقة من بث أفكارهم ومعتقداتهم بين صفوف الكثير من المسلمين.
المعتزلة، وهو الاسم الذي اشتُهرت به تلك الفرقة، عُرفوا بدعوتهم لإعمال العقل، والاعتماد عليه لفهم الغيبيات والإلهيات، كما عملوا على تنزيه الله -عز وجل- من خلال تأويل صفاته الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية. ظهور المعتزلة لم يحدث بشكل مفاجئ، بل كان في حقيقته محصلة لمجموعة من التطورات الفكرية التي عرفها الفكر الإسلامي على مدار عشرات الأعوام المتعاقبة، والتي بدأت خطواتها المبكرة منذ لحظة اندلاع الحرب الأهلية/ الفتنة الكبرى بالتزامن مع مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان في نهايات العام الخامس والثلاثين من الهجرة.
واحدة من أهم الخطوات التي أسهمت في ظهور الفكر المعتزلي، كانت تلك التي تمثلت في شخصية الجعد بن درهم المتوفى 105هـ، والذي يُعتقد إنه كان أحد الآباء الأوائل لعلم الكلام الإسلامي. نادرة هي المعلومات التي نعرفها عن الجعد، وقصارى ما نعرفه عنه، أنه كان يعيش في دمشق وقد اتصل بالأمير الأموي محمد بن مروان، فلما أُعجب به، اتخذه معلماً لابنه مروان، فنُسب الأخير إليه حتى عُرف فيما بعد باسم مروان الجعدي. بحسب ما ورد في الكثير من المصادر الإسلامية، فإن الجعد بن درهم، الذي تأثر كثيراً بالفلسفة اليونانية، قد جعل من مسألة توحيد الذات الإلهية شغله الشاغل، وبالغ في ذلك حتى ذهب للقول بخلق القرآن، ونفي جميع الصفات عن الله عز وجل، الأمر الذي عرضه للقتل على يد والي الكوفة خالد بن عبد الله القسري.
في 232هـ، سيعتلي الخليفة أبو جعفر المتوكل على الله كرسي الخلافة، وسيتعصب لوجهة النظر السنية التقليدية، ومنذ تلك اللحظة التاريخية سيعمل علماء أهل السنة والجماعة على شيطنة الأفكار المعتزلية، ورد أصولها إلى البدع اليهودية
تلك المعتقدات ستتطور فيما بعد لتتحول إلى نسق فكري قائم بذاته، وسيتمكن أصحاب ذلك الفكر من الاقتراب من السلطة في عهد الخليفة العباسي عبدالله المأمون، لتطفو على السطح الحالة الجدلية الشهيرة، المعروفة بمحنة خلق القرآن، والتي ستشهد صراعاً عنيفاً بين المعتزلة المؤيدين من قبل السلطة من جهة وعلماء أهل السنة والجماعة من جهة أخرى. في 232هـ، سيعتلي الخليفة أبو جعفر المتوكل على الله كرسي الخلافة، وسيتعصب لوجهة النظر السنية التقليدية، ومنذ تلك اللحظة التاريخية سيعمل علماء أهل السنة والجماعة على شيطنة الأفكار المعتزلية، ورد أصولها إلى البدع اليهودية والمسيحية، وسيجدون في شخصية الجعد بن درهم حلقة الوصل المناسبة لربط الاعتزال باليهودية.
على سبيل المثال، يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى “إن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام –أي أن الله سبحانه ليس على العرش حقيقة وإن معنى استوى بمعنى استولى ونحو ذلك– هو الجعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنُسبت مقالة الجهمية إليه”، في حين يذكر تلميذه ابن كثير المتوفى 774هـ في كتابه البداية والنهاية “…وكان الجعد بن درهم قد تلقى هذا المذهب الخبيث عن رجل يقال له أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي”، وهكذا تم التشنيع على المذهب الاعتزالي كله من خلال ربط الجعد بن درهم باليهودية، ولا سيما أن لبيد بن الأعصم اليهودي الوارد ذكره في مقالة ابن كثير، كان نفسه الساحر الذي نُسبت إليه رواية سحر الرسول الواردة في صحيح البخاري.
عُبيدالله المهدي: باني الدولة الفاطمية الإسماعيلية
في نهايات القرن الثالث الهجري، تأسست الدولة الفاطمية الإسماعيلية في تونس، وكان أول خلفائها هو عُبيدالله المهدي. الفاطميون، روجوا لأنفسهم باعتبارهم أحق الناس بالحكم والخلافة، وذلك لكونهم ينحدرون من نسل الإمام علي بن أبي طالب والسيدة فاطمة الزهراء، ومن هنا لم يكن من الغريب أن يطلقوا اسم ابنة النبي على دولتهم الجديدة التي تمكنوا من تأسيسها بعد فترة طويلة من الجهد والعمل.
في الوقت الذي أسس فيه الفاطميون دولتهم، كان بنو العباس يحكمون دولتهم الواسعة من عاصمتهم في مدينة بغداد بأرض العراق، وكانوا يروجون لأنفسهم بأنهم الأحق بمنصب الخلافة لكونهم أبناء العباس بن عبد المطلب، عم الرسول. من هنا، كان من المنطقي أن يعارض العباسيون قيام الدولة الفاطمية الناشئة، إذ عدّوها خطراً داهماً على سلطتهم، ولا سيما بعدما اتسع النفوذ الفاطمي ليسيطر على مساحات واسعة، مؤسساً لإمبراطورية كبرى امتدت من حدود المغرب الأقصى إلى سوريا وبلاد العراق.
العباسيون عملوا على ضرب الشرعية الفاطمية خلال إصدار مجموعة من المحاضر التي نفوا فيها انتساب الخلفاء الفاطميين للبيت العلوي-الفاطمي، الأمر الذي تابعهم فيه الكثير من علماء أهل السنة والجماعة
العباسيون عملوا على ضرب الشرعية الفاطمية في مقتل، وذلك من خلال إصدار مجموعة من المحاضر التي نفوا فيها انتساب الخلفاء الفاطميين للبيت العلوي-الفاطمي، الأمر الذي تابعهم فيه الكثير من علماء أهل السنة والجماعة، ممن سموا الدولة الفاطمية بالدولة العُبيدية -نسبةً لعُبيدالله المهدي- تنقصاً لها، كما بالغوا في التشنيع على عُبيدالله المهدي، لدرجة أنهم قد نسبوه إلى ميمون القداح، وقالوا بأن ميمون هذا كان يهودياً، يضمر الشر للإسلام.
على سبيل المثال، يشير شمس الدين الذهبي المتوفى 748هـ في كتابه سير أعلام النبلاء، أثناء تناوله لسيرة عُبيدالله المهدي لاحتمالية الأصل اليهودي له، فقال واصفاً إياه “أول من قام من الخلفاء الخوارج العُبيدية الباطنية الذين قلبوا الإسلام، وأعلنوا بالرفض، وأبطنوا مذهب الإسماعيلية وبثوا الدعاة، يستغوون الجبلية والجهلة… وقيل: كان أبوه يهودياً”، أما أبو عبدالله محمد بن مالك اليماني المتوفى نحو 470ه تقريباً، فقد أكد على تلك المسألة في كتابه “كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة”، عندما تحدث عن ميمون القداح، فقال “وكان هذا الملعون يعتقد اليهودية ويظهر الإسلام، وهو من اليهود من ولد الشلعلع من مدينة بالشام يقال لها سلمية، وكان من أحبار اليهود وأهل الفلسفة الذين عرفوا جميع المذاهب وكان يخدم شيعة إسماعيل بن جعفر الصادق… وكان حريصاً على هدم الشريعة المحمدية لما ركّب الله في اليهود من عداوة الإسلام وأهله والبغضاء لرسول الله، فلم ير وجهاً يدخل به على الناس حتى يردهم عن الإسلام ألطف من دعوته إلى أهل بيت الرسول…”.
هذه الادعاءات قوبلت برفض شديد من جانب الكثير من المؤرخين المسلمين المشهورين، ومنهم على سبيل المثال عبدالرحمن بن خلدون المتوفى 808هـ، والذي فند تلك الأخبار في كتابه المقدمة فقال “ومن الأخبار الواهية، ما يذهب إليه الكثير من المؤرخين والأثبات -في البعد بين خلفاء الشيعة بالقيروان والقاهرة من نفي نسبهم لأهل البيت صلوات الله عليهم والطعن في نسبتهم إلى إسماعيل الإمام ابن جعفر الصادق- وهم يعتمدون في ذلك على أحاديث لُفقت للمستضعفين من خلفاء بني العباس تزلفاً إليهم بالمدح فيمن ناصبهم، وتفنناً في الشمات بعدوهم”.