"عرفته يمنيًّا في تلفّته
خوفٌ … وعيناه تاريخٌ من الرَّمَدِ
من خضرة القات في عينيه أسئلة
صُفرٌ تبوح كعود نصف مُتّقِدِ"عبد الله البردوني Tweet
القات، النبتة المخدرة التي اشتهرت بها اليمن وأصبحت لصيقةً بهوية الإنسان اليمني وعاداته وثقافته. أحد أهم السلع الداخلية التي تسيطر على قطاعٍ واسعٍ من الاقتصاد اليمني والتجارة الداخلية، تصنف منظمة الصحة العالمية النبتة كمادةٍ مخدرة فيما تحظر معظم دول العالم بيعها أو دخولها أراضيها. سوق تجارة القات في ظل الانهيار الاقتصادي الذي تشهده اليمن جراء الحرب الإقليمية والداخلية لا زال أحد أهم الأسواق الداخلية ازدهارًا ونموًا وفق تقارير صحفية في مدونات البنك الدولي.
بعيدًا عن جدل آثار النبتة التي يتعاطاها غالبية اليمنيين لساعاتٍ مطولة بشكلٍ يومي، يطرح هذا التحقيق التساؤل حول تأثير القات في الساحة السياسية والاجتماعية اليمنية. هل كان للقات دورٌ في انهيار الدولة اليمنية وفشل عمليات التحديث؟ وكيف كان ذلك؟
ثروةٌ داخلية
في ظل تراجع فرص العمل في المدن وتزايد الطلب على نبتة القات وازدهار تجارتها، توجه المزارعون في المناطق الريفية التي تزرع القات إلى توسعة زراعتهم له. خلقت هذه الحركة الاقتصادية ثروةً داخلية بيد سكان المناطق الريفية، الأمر الذي دفعهم للاستقرار في الريف واستمرار استثمارهم في زراعة القات وبيعه، وهي الحركة التي يمكنها تفسير ظاهرة الثبات النسبي لنسبة سكان المناطق الحضرية في إجمالي تعداد السكان رغم معدل الخصوبة المرتفع.
تنتشر أسواق القات في مختلف المناطق الحضرية والريفية، ويتعاطى اليمنيون نبتة القات بصورةٍ يومية لساعاتٍ طويلة. هذا عدا عن أنهم ينفقون في المتوسط 35% من دخل الأسرة على توفير احتياجاتهم اليومية من هذه النبتة التي يصل تسويقها لمختلف مدن ومناطق اليمن، وتوفر دخلًا أساسيًا ووحيدًا لمئات آلاف الأسر.
بلغة الأرقام ووفق الإسقاط التقديري للسكان العام 2016 يبلغ عدد سكان اليمن الـ 32.080.300 نسمة، فيما تتوقع التقديرات وفق نسبة معدل الخصوبة التي تقترب من أربع ولادات لكل امرأة أن يتجاوز هذا الرقم حاجز الاثنين وخمسين مليون نسمة بحلول العام 2030، بواقع معدل ولادات تجاوزت المليون سنويًا حتى الوقت الحالي. استطراد هذه الأرقام مدخلٌ لمشكلة التوزيع الحضري للسكان في اليمن، الأمر الذي يعتقد بأن له ارتباطًا حاسمًا بنبتة القات وأثرها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
مشكلة التوزيع الحضري في اليمن
الحديث عن التوزيع الحضري للسكان في اليمن لا يتوقف عند وصفه مجرد مشكلةٍ تنموية تستدعي من السلطات التعامل معها وفق حلولٍ تسمح بإيصال الخدمات إلى المناطق النائية والوعرة، بل يتعدى ذلك إلى فهم مجريات الحياة السياسية في البلاد.
وفق تعداد العام 1994 الذي يبلغ فيه تعداد سكان اليمن خمسة عشر مليون وثمانمائة ألف نسمة، يتركز ما نسبته 23% من السكان في المدن، فيما يمثل الريف ما نسبته 77% أي اثنا عشر مليون نسمة تسكن الريف. في العام 2004 ارتفعت نسبة سكان الحضر بنسبةٍ بسيطة مثلت 28% من إجمالي السكان، و72% يقطنون المناطق الريفية، في الوقت الذي بلغ فيه تعداد السكان تسعة عشر مليون وستمائة ألف نسمة، أي أن سكان الريف تجاوزوا الأربعة عشر مليون ومائة ألف نسمة، في حين لا يتجاوز تعداد سكان المناطق الحضرية خمسة ملايين ونصف المليون نسمة.
بالنظر إلى هذه الأرقام، تجدر الإشارة إلى أن 68% من السكان يقطنون مناطق المرتفعات الوسطى والجنوبية، وهي مناطق جبلية مرتفعة ووعرة، تواجه فيها السلطات مشكلةً في إيصال الخدمات للمناطق الريفية فيها أو توفير بنية تحتية حديثة. المناطق الريفية المتباعدة في هذه التضاريس الوعرة تستلزم تكاليف كثيرة لإدخال المشاريع التنموية إليها وشق الطرقات وتعبيدها وتوفير المرافق الصحية والتعليمية الكافية لهذه المناطق التي تمثل 72% من السكان، في الوقت الذي تعاني فيها المدن من رداءة البنية التحتية والخدمات.
تزايد أعداد السكان وثبات نسبة قاطني الحضر، يعني حرمان الغالبية العظمى من السكان من مشاريع التنمية والبنية التحتية، وهو ذاته الأمر الذي يدعو لطرح تساؤلٍ يتعلق باستمرار تضاعف السكان ومكوثهم في المناطق الريفية الوعرة بعيدًا عن الخدمات التي توفرها المناطق الحضرية لساكنيها واستمرارهم في العيش في الريف.
تزايد أعداد السكان وثبات نسبة قاطني الحضر، يعني حرمان الغالبية العظمى من السكان من مشاريع التنمية والبنية التحتية
على الرغم من أن تزايد الهجرة الداخلية، للعاصمة صنعاء خصوصًا، أصبحت عبئًا على العاصمة التي ازدحمت بالعشوائيات المفتقرة للبنية التحتية والتخطيط الحضري لمساكنها وتزايد أعداد سكانها، إلا أن النسبة الكبيرة التي تشكل ما نسبته أكثر من ثلثي السكان تعني إلقاء عبءٍ أكبر على كاهل الحكومة اليمنية وبتكاليف أكثر مما يمكن لها أن تنفقه في تنمية المناطق الحضرية من حيث تضاريس المناطق الريفية وتباعدها وتمددها وانتشارها على امتداد الجغرافيا اليمنية.
إن استمرار تكدس السكان في مناطق الريف شبه المنعدمة من الخدمات والبنى التحتية اللازمة للعيش ترجع لغياب فرص العمل في المدن في الوقت الذي تتوفرها مناطق الريف عبر سوق عملٍ منتج ومستمر طوال العام. كانت زراعة القات وتجارته هي مصدر الدخل الدائم لسكان مناطق الريف في منطقة المرتفعات الوسطى الشمالية والجنوبية، إذ تشير تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء بأن حجم الإنفاق في البلاد على مادتي القات والتبغ يزيد على 17.7% من إجمالي النفقات السنوية حسب إحصاءات العام 2009. فيما ترى تقارير أن الرقم الفعلي لإنفاق المواطن اليمني على مادة القات يتجاوز الـ35% من إجمالي دخل الأسرة، أي ما يزيد على المليار ونصف المليار دولار في العام 2015.
إدمان اليمنيين للقات الذي تحول لظاهرةٍ اجتماعية وثقافية يتسامح معها اليمنيون، جعل من تجارة القات تزدهر في ظل تزايد الطلب عليه، الأمر الذي شجع سكان المناطق الريفية المعتمدين على الزراعة بشكلٍ رئيسي كمصدر دخلٍ يكاد يكون الوحيد لغالبية سكان هذه المناطق على توسعة زراعة القات. إذ أفاد مدير قسم الري ومراقبة المياه بوزارة الزراعة فى تقريرٍ لموقع “The New Humanitarian” عام 2007 بأن مساحات زراعة القات تتضاعف بنسبة 12% سنويًا، حيث كانت تبلغ 123 ألف هكتار العام 2005، فيما تقدر اليوم بأنها تزيد على 359 ألف هكتار.
زراعة القات وتجارته التي صنعت ثروةً داخلية دفعت السكان للاستقرار في المناطق الريفية ضخمت التحديات والمعوقات أمام عملية التنمية. هذا الاستقرار في مناطق الريف لوجود مصدر الدخل الذي يوفر حياةً اقتصاديةً مستقرة لسكان هذه المناطق حرمهم من التمتع بالخدمات الحكومية لعقود طويلة، الأمر الذي دفعهم للاعتماد على أنفسهم من أجل توفيرها، وهو ما تشهده المشاريع المجتمعية أيضًا في فترة الحرب الحالية من مبادرات اجتماعية لشق وتعبيد طرقٍ في المناطق النائية على نفقة السكان أنفسهم.
القات، الريف، والمجتمع القبلي
الوقوف على مشكلة تشكيل القات عائقًا للتنمية وإيصال الخدمات عبر تكثيف الحضور السكاني في مناطق الريف لا ينتهي عند هذا الحد، إذ يعني ذلك أيضًا غيابًا لسلطة الدولة الفعلية وسيطرتها على هذه المناطق. وأبعد من ذلك، فإن القات وفق هذه العوائق التي صنعها ألقى بظلاله على عملية تخليق أنماط الحياة الاجتماعية والسياسية لليمنيين.
رغم التحولات الثورية لأشكال الأنظمة في اليمن في التاريخ الحديث، ابتداءً من خروج الاحتلال العثماني وقيام الدولة التقليدية المتوكلية في العام 1911 والانسحاب العثماني 1918، ثم التحول إلى النظام الجمهوري العام 1962، بقيت القبيلة هي الشكل الثابت للنظام الاجتماعي في اليمن كمجتمعٍ قبلي. النخبة الحاكمة هي الأخرى كانت تنتقل بصورةٍ قبلية وفق هذه التحولات، من القبيلة الهاشمية لقبيلة حاشد.
نخب القبيلة الحاكمة في كل تحولٍ تسيطر على مجريات الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، كما تتزعم الأحزاب اليمينية واليسارية وفق القاعدة القبلية التي تمنحها شعبيةً جماهيرية تسمح لنخب القبائل لعب دورها في العملية السياسية.
يمكن رؤية هذه النماذج في الزعامات القبلية للأحزاب السياسية، إذ شغل عبدالله بن حسين الأحمر، شيخ قبيلة حاشد رئاسة حزب التجمع اليمني للإصلاح، الامتداد القُطْري لجماعة الإخوان المسلمين الدولية. حافظ الأحمر على نفوذٍ واسعٍ له في السلطة جعلت منه وأسرته والقبيلة التي ينتمي إليها صاحب النصيب الأكبر في السلطة، كما رأس مجلس النواب من العام 1993 وحتى وفاته العام 2007.
مجاهد أبو شوارب، وهو الآخر أحد أبرز مشائخ قبيلة حاشد، وكان يتزعم رئاسة حزب البعث، فيما استطاع بواسطة قبيلته الحصول على نفوذٍ واسع في السلطة منذ التحول الجمهوري العام 1962، وأخذ السلطة من أيدي القبيلة الهاشمية.
حزب الحق، وهو حزبٌ يمينيٌ قام بتأسيسه مجموعةٌ من أبرز علماء المذهب الزيدي ووجوه القبيلة الهاشمية في اليمن. تأسس الحزب في العام 1990 وحاولت القبيلة الهاشمية أن تلعب عبره دورًا يمنحها حصةً في السلطة والثروة التي تحولت لأيدي القبائل الأخرى.
في الانتخابات التشريعية، كان التمثيل الغالب على عضوية البرلمان تمثيلًا لرؤساء القبائل الذين انتخبتهم قبائلهم، في حين كان الشرط القانوني للعضوية هو أن يكون العضو قادرًا على القراءة والكتابة.
النماذج والشواهد كثيرة في استحضار انعكاس النظام الاجتماعي القبلي على مختلف أنماط الحياة السياسية والاجتماعية في اليمن، إلا أن الاستطراد للشواهد في هذا المقام هو محاولةٌ لفهم العلاقة بين تماسك القبيلة وسيطرتها على مختلف جوانب الحياة السياسية في اليمن.
العلاقات الاجتماعية كنتيجةٍ اقتصادية لتجارة القات
لقد سمح تركز السكان في الريف كنتيجةٍ للثروة الداخلية التي سمحت تجارة القات وزراعته بتكوينها ببقاء العلائق الاجتماعية التي تربط الناس ببعضهم في تلك المناطق، العلاقة القبلية. اعتمدت نخب القبائل على بقاء هذه العلاقة البدائية في ممارسة نفوذٍ لها داخل السلطة، وهو الأمر الذي يجعل من القات سببًا أساسيًا في بقاء هذا النظام الاجتماعي وفق سيطرته على التوزيع الحضري للسكان.
حافظ دور القات في التوزيع السكاني على العادات والتقاليد القبلية ومظاهر الحياة التقليدية التي ألقت بظلالها أيضًا حتى على سكان المدن الجدد الذين أخذوا في التوافد على العاصمة وبقية المدن الكبيرة خلال حركة الهجرة الداخلية. يجتمع اليمنيون في اجتماعاتٍ يمضغون فيها القات لساعاتٍ مطولة، فيما تمثل تجارة القات مصدر دخلٍ أساسيٍ لآلاف الأسر في المدن عبر تسويقه في أسواق القات الخاصة في المدن.
لم يقف أثر القات في التأثير على أنماط حياة المجتمع الريفي الذي أصبح في عزلةٍ عن العالم من حوله ودعم مظاهر القبلية الاجتماعية والسياسية فيه، وإنما تعدى ذلك لمظاهر الحياة في الحضر بمحافظته على أنماط الحياة التقليدية وعلاقات الاجتماع اليمني
لم يقف أثر القات في التأثير على أنماط حياة المجتمع الريفي الذي أصبح في عزلةٍ عن العالم من حوله ودعم مظاهر القبلية الاجتماعية والسياسية فيه، وإنما تعدى ذلك لمظاهر الحياة في الحضر بمحافظته على أنماط الحياة التقليدية وعلاقات الاجتماع اليمني، إذ استطاع عزل سكان المدن عن التطبع بحياة المدينة وعلاقاتها الاجتماعية التي يتسم بها سكان المدن، وحافظ على نمط الحياة التقليدي لسكان أهل الريف حتى في المناطق الحضرية؛ سمح هذا الأمر في استمرار استغلال السلطة واحتكارها من قبل نخب القبيلة.
الريف والسلطة
يجادل الاجتماع السياسي بأن سكان المناطق الريفية وخصوصًا تلك التي تقطن المرتفعات، هي مجتمعات مستقلة ومناهضة للسلطة السياسية المركزية. في اليمن، كان الغالب الريفي في المناطق الوسطى والجنوبية في المرتفعات مناطق نائية سمحت باستمرار اندلاع التمردات على السلطات وحدت من سلطاتها الأمنية فيها؛ حدا ذلك بالسلطة السياسية إلى الاستعانة بشيوخ القبائل لبسط سيطرتها على هذه المناطق بمنحهم امتيازاتٍ معينة في المقابل.
من جهةٍ أخرى، سمحت محدودية وصول السلطة وسيطرتها على هذه المناطق الريفية بتوفير بيئةٍ خصبة للجماعات الإرهابية وجماعات التمرد المسلح التي أعاقت أيضًا عملية التنمية في البلاد وهيأت الأجواء لاندلاع معارك وحروب أهلية مسلحة بين السلطات الشرعية والجماعات المعارضة وصولًا لانهيار الدولة بعد تجربة الربيع العربي التي ظهرت إلى حدٍ كبيرٍ كانعكاس للصراع القبلي على السلطة والثروة. علاوةً على ذلك، كان القات مصدر دخلٍ للكثير من الجماعات المتمردة التي اعتمدت عليه في توفير احتياجاتها المالية للاستمرار في مقاومة السلطة السياسية.
اقرأ أيضا: تحت ظلال الحرب.. ماذا لو كنت امرأة يمنية؟
يتضح وفق هذا الاستقراء بأن القات نجح في تكوين مصدر دخلٍ سمح باستقلال سكان المناطق الريفية واعتمادهم على أنفسهم في توفير الخدمات الأساسية للعيش، فيما أسهمت الثروة الداخلية في يد أبناء الريف التي كونها القات بشكلٍ أساسي في ثبات نسب التوزيع السكاني التي تسيطر عليها مناطق الريف. هذا الأمر كان مصدر قلقٍ لم تعه السلطة، إذ سُمح باستمرار ودعم النظام القبلي في المجتمع، كما وضع المجتمع الريفي في عزلةٍ مطبقة سمحت فيه بتوفير الأجواء المناسبة لتشكل الحركات الإرهابية والمعارضة المسلحة وأفشلت خطط التحديث في البلاد. التنمية هي الأخرى بقيت صعبة التحقق لأسبابٍ جغرافية وأخرى اقتصادية واجتماعية كان السبب الرئيس فيها هو القات. اجتماع هذه العوامل المرتبطة مباشرةً بمشكلة القات كانت سببًا رئيسيًا مشاركًا في كتابة الفصل الأخير من الدولة اليمنية.
لا شك ان موضوع تعاطي اللقات في المجتمع اليمني يجب ان يأخذ على محمل الجد لحل هذه المعضله الاجتماعية لما لها من تأثير سلبي على مستوى الفرد والمجتمع فلا تقدم ولا وعي ولا إهتمام بالتقدم الاقتصادي و الثقافي ومن ثم هناك 45 مليون يمني متأثرين في دائرة الإدمان.
كيف لليمن والشعب اليمني الكريم ان يقوم من غفوته ويبحث عن العلم و التقدم و يعيش حياة كريمه بعيدة عن الحروب و التدخلات الخارجيه.