على أول كل شارع في مصر، وكذلك مداخل البيوت، تجد لافتة زرقاء معلقة على أحد الحوائط مدون عليها اسمه ورقمه، تميزه عن غيره، ويرجع تاريخها إلى الحملة الفرنسية على البلاد (1798-1801)، لكن الأمر الذي قد يثير الاستغراب أن هذه اللافتات لم تصنع لهذا الغرض في الأساس، وإنما لتنظيم مواقف الحمير، التي كانت وسيلة المواصلات آنذاك.
"موقف ستة حمير"
يتحدث عبدالمنعم شميس عن ذلك، في كتابه المعنون بـ”عظماء من مصر“، قائلا: “كانت الحملة الفرنسية هي التي وضعت لافتات زرقاء في القاهرة، لكنها لا تحمل أسماء الشوارع، بل إن الفرنسيين وضعوها لتنظيم مواقف الحمير، التي كانت وسيلة المواصلات الوحيدة داخل المدينة الكبيرة، وكان كل موقف يحدد عدد الحمير التي تقف فيه، ويكتب ذلك على لافتة زرقاء مثل: (موقف لأجل 3 حمير)”.
ويؤكد الكاتب الراحل: “وقد شاهدت بعض هذه اللافتات الزرقاء في بعض الأماكن منذ خمسين سنة، عندما كنت صبيا، ولاحظت فيها أخطاء إملائية، وخطأ عربيا كتبه أحد المستشرقين ممن يرسمون الحروف رسما”.
ويدعم هذا الطرح، ما ذكره أحمد أمين، في مؤلفه “قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية”؛ إذ يقول: “كان في القاهرة لوحات زرقاء في أنحاء مختلفة، كتب على كل واحدة منها (موقف ستة حمير)، واشتهر الحمارون (أصحاب الحمير) بالنكت والظرف لاستعمالهم الحشيش، كما يستعمل الحمار عادة في حمل السماد في الغيط (الأرض الزراعية)، ونقل المحصول، وقل من لم يكن عنده حمار أو حمير”.
من ناحية أخرى، يكشف المؤرخ المصري الكبير عبدالرحمن الجبرتي، في مؤلفه الشهير “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، عن طريقة تعامل الفرنسيين مع الحمير في شوارع القاهرة، بقوله: “لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع معهن، وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة، ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة، ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقا عنيفا مع الضحك والقهقهة (الضحك بصوت عالٍ)، ومداعبة المكارية معهم والعامة”.
إذاً عرفت القاهرة اللافتات الزرقاء من الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، لكن بعدما تولى محمد علي باشا، قيادة البلاد عام 1805، وأراد “تنمير البيوت”، أي وضع أرقام لها، استخدم الطريقة ذاتها، ومازالت اللافتات التي تحمل أسماء الشوارع والحواري والأزقة والدروب زرقاء، وهنا يقول “شميس”: “يبدو أن الفرنسيين هم الذين قاموا بهذه الأعمال؛ لأن دولة محمد علي كانت شديدة الاتصال بفرنسا وثقافتها وحضارتها”.
في السياق ذاته، يؤكد محمد سيد كيلاني، في مؤلفه “ترام القاهرة”، أنه كان للحمير مواقف معينة، يقصد إليها من يشاء، أحدها كان عند فندق يسمى شبرد بشارع الجمهورية، الغرض منه خدمة السياح الأجانب، لافتا إلى أن عربات الركوب التي تجرها الخيل كانت للأغنياء، وقليل منها للتأجير لمتوسطي الحال، والعربات العامة المعروفة بـ”الأمنيبوس” كانت تسير ببطء شديد ولمسافات قصيرة.
ويرجع السبب في الاعتماد على هذه الوسائل إلى ما ذكرته ريم أبو عيد، في مؤلفها المسمى بـ”على اسم مصر”؛ إذ تقول: “كانت الشوارع غير مؤهلة لسير أي وسيلة انتقال سوى الحمير والعربات التي تجرها الخيول”، ويؤكد أحمد أمين أن الحمار كان من أحسن وسائل النقل قبل اختراع “الأتومبيلات”، أي السيارات، يركبه الناس كثيرا في التنقلات، وخصوصا النساء، مشيرا إلى أنه “كان يصنع لهم بردعة (مثل سرج الفرس)، خاصة مريحة، ويستحضر لهن كراسي للصعود منها على الحمار”.
30 ألف مكاري بالقاهرة في عصر سلاطين المماليك
وعلى ما يبدو فإن مواقف الحمير كانت موجودة في مصر قبل مجيء الحملة الفرنسية، وإنما قد يكون ما فعلته الأخيرة هو تنظيمها فقط، من خلال وضع اللافتات الزرقاء، يدل على ذلك ما روته جيهان ممدوح مأمون، في مؤلفها “دولة سلاطين المماليك: سلسلة عصور مصرية”؛ إذ تقول تحت عنوان “وسائل المواصلات”: كان ركوب الخيل مقتصرا على السلاطين والأمراء والجيوش، أما العامة فكانوا يتنقلون على حمير، وكانت هي وسيلة المواصلات الأولى التي يتنقل بها الناس داخل المدن وخارجها.
ويتفق الدكتور قاسم عبده قاسم مع هذا الطرح؛ إذ يؤكد في مؤلفه “عصر سلاطين المماليك”، أن الحمير كانت بمثابة وسيلة المواصلات الأولى داخل المدن المصرية أو خارجها، وربما الوحيدة التي يستخدمها الناس، مشيرا إلى أنه “في المدن المصرية كانت توجد مواقف خاصة بحمير الأجرة التي عرف أصحابها باسم (المكارية)، فقد ذكر ابن دقماق والمقريزي عدة أماكن خصصت لهم في الفسطاط والقاهرة”.
وتشير جيهان مأمون إلى أنه كانت هناك مواقف خاصة لاستئجار الحمير، وأطلق على أصحابها اسم (المكارية)، ووجد منهم في القاهرة (العاصمة) 30 ألف، مؤكدة في الوقت ذاته: “كانت المراكب والقوارب تعتبر من وسائل المواصلات المهمة التي تربط بين أنحاء البلاد”.
وهنا يقول “قاسم”: “ذكر الرحالة ابن بطوطة أن عدد المكارية في القاهرة وحدها بلغ ثلاثين ألف، كذلك ذكر المؤرخ بيدرو تافور أنه ومرافقيه أكتروا (ركبوا) حميرا حين نزلوا القاهرة، وكانت مجهزة خير تجهيز بالبراذع واللجم، وهي سريعة جدا، وكان المكارية يهتمون كثيرا بتجهيز حميرهم وتزيينها؛ لأنها أدت دور سيارات الأجرة في عصرنا”.
وعلى غرار ما يحدث حاليا في مصر من بعض سائقي سيارات الأجرة، يلفت المؤرخ الراحل إلى أن “بعض المكارية آنذاك لم يكونوا يهتموا سوى بزيادة ربحهم، دون مراعاة المشاعر العامة؛ إذ تذكر بعض المصادر أن كثيرين منهم لا يعجبه أن يكاري (يقدم الخدمة) إلا الفاجرات من النساء والمغاني منهن، لمغالاتهن في الكراء؛ فإنهن يعطين من الأجرة فوق ما يعطيه غيرهن”.
واستمرت مواقف الحمير في مصر حتى أوائل القرن العشرين، بحسب ما ذكره سعيد جودة السحار، في مؤلفه “مواقف في حياتي”، بقوله: “كان يوجد في ميدان العتبة الخضراء في العشرينيات من هذا القرن (العشرين) موقف لتأجير الحمير، وكان من يستأجر الحمار يرکبه وينطلق به، ويجري (الحمار) وراء حماره والعصا في يده، يستحثه بها على الجرى، حتى يصل مستأجر الحمار إلى هدفه، فيأخذ (الحمار) حماره ويعود، وقد حلت الدراجات محل الحمير في وقت قصير”.
كما أن الروائي المصري يحيى حقي، المولود عام 1905، تحدث عن هذه المواقف في كتابه “صفحات من تاريخ مصر”، مشيرا إلى أنها كانت في مناطق “العتبة الخضراء، والقلعة الحمراء، وعند سور الأزبكية أمام فندق يسمى الكونتننتال، وفي أماكن أخرى كثيرة لافتات مكتوبة هكذا (موقف لعشر حمير)، وكانت اللافتة المكتوبة أمام الفندق المذكور مكتوبة هكذا (موقف لخمس حمار).. وكم ركبت حمارا من العتبة الخضراء لأعود إلى بيتي في آخر شارع محمد علي”.
لائحة لتنظيم حرفة الحمارة في مصر
من ناحية أخرى، أصدرت لائحات في أواخر القرن التاسع عشر لتنظيم حرفة الحمارة، يكشف عن ذلك الدكتور عبدالسلام عبدالحليم عامر، في كتابه “طوائف الحرف في مصر (1805-1914)”، بقوله: “أصدر مدير قنا (محافظة تقع جنوب مصر)، لائحتها في عام 1893، وسارت على نفس النهج مديرية أسيوط، بإصدارها لائحة لتلك الطائفة في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1896، محددة فيها مواقف الحمير المعدة للركوب، وتعريفة (ثمن) ركوبها بالساعة والمسافة”.
ويوضح المؤلف أن اللائحة المذكورة كانت لا تختلف كثيرا عن بقية المديريات والمحافظات؛ فقد كان الحمار يعطى صفائح من نحاس أصفر، بعد أن تقدم بياناته كافة للمحافظة المتواجد بها، عليها نمرة لتوضع إحداها على جبهته، وأخرى على ساقه اليسرى، مشيرا إلى أنه جرى المطالبة “بتكوين هيكل وطائفة للحمارة تحت ملاحظة شيخ واحد ووكلاء له، على أن يكون تعيينهم بمعرفة المحافظة، وربما يرجع ذلك إلى كونهم في بداية الطريق ويرجى تنظيمهم”.