الديمقراطية كلمة نيرة أضحت شائعة في السياسة الدولية كمعيار للتقدم الحضاري. والدول العربية أُجبرت على رفعها كشعارات للتماهي معها بوصفها متطلبًا حضاريًّا دون تعميقها، لذلك فعلها أعرج، لأنها ليست آلة يمكن تركيبها حسب الكتالوج الموضّح، بل لها شروط ثقافية واجتماعية واقتصادية ترتكز عليها لتحقيقها. ورغم محاولات إيداعها لإحداث شيء من التحضُّر والتمدُّن، تنصدم وتترهل وتتلاشى في أحايين كثيرة لأسباب تتداخل فيها عدة عوامل أهمها العامل الثقافي. فطبيعة الثقافة السياسية في بلداننا العربية لم تفكك علاقة الحاكم بالمحكوم -حتى في ظل الجمهوريات العربية الحديثة- فالحاكم كفكرة هو الزعيم التاريخي بيده مصير الأمة وخلاصها وهو قدرها. وهذا التفكير يحجّم من التفكير الناقد لمسار الدولة والحاكم لتتّخذ صورة ثابتة لا تمارس النقد الموضوعي لتحديثها وتنميتها لتنضج، لذا تجد أن العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين قائم على التسلط والإكراه. فالمسمى شعار يُرفع في لافتات وأدبيات الدولة السطحية. والعمق هو تأكيد للاستبداد والحكم الشمولي الأحادي فيُنتزع حق الشعب في اختيار شكل الحكم والحاكم.
للبنية الاجتماعية دورٌ في تحديد فِعل المرء ثقافياً واجتماعياً وسياسياً. والاستبداد لا يتغذى خارج المنظومة الثقافية للمجتمع مهما رفعت من شعارات برّاقة لأنظمة حكم رشيد والسير وفق نماذج ناجحة في التاريخ الإنساني. وحقيقة بناء دولة بالمفاهيم الحديثة في مجتمع معبّأ بالنمط القبلي الريفي والأيديولوجي الحاد والعقائدي الديني ستنصدم لحظة تفعيل أسس الحكم الحديث ومبادئه إن لم تتسرّب هذه المبادئ في ذهنية الفرد داخل إطار الدولة.
والمجتمع اليمني مجتمع قبلي يفقد الفرد فيه أهلية الاختيار لأبسط شؤون حياته الخاصة فما بالك بمن يحكمه. فكان سهلاً على المستبد أن يبتلع قرارات آلاف وملايين الأفراد عند ارتهان شيوخ القبائل له. وحضور القبيلة في الدولة لا لتذويبها ضمن المجتمع المدني بل لتأكيدها ككيان يحدد مسار فئة كبيرة من الأفراد. والنظام تبلورت فيه ملامح القبيلة سريعاً، خاصة بعد الحرب الأهلية عام 1994، إذ إن جزءًا كبيرًا من النظام شغله أفراد من قبيلتي حاشد وبكيل اللتين ذهبتا بدورهما لقيام تحالفات باسم الدولة لقبائل في عموم اليمن.
ورغم وجود القبيلة المناوئ لمبادئ الديمقراطية التي تتحقق في المواطنة والحريات الفردية إلّا أنها رفعت الشعارات ذاتها إبان الاعتصامات السلمية ضد نظام علي وأيدت الثورة بإعلان تحالف قبائل اليمن برئاسة الشيخ صادق الأحمر. وهذا الفعل هو سلب أيضاً لحرية الفرد. فإقرار عدد من مشايخ القبائل لا يعني أن القرار اتخذه كل أبناء هذه القبائل، إذ إنَّ شيخ القبيلة يقرر ووحده المسؤول عن كل أفراد القبيلة. وهذا التأييد لا يعني اعتراف القبيلة لأهمية هذه المبادئ، بل خصومة سياسية تستدعي تبني بعض المفاهيم للوصول إلى السلطة ثم الانقلاب عليها تحت المبدأ الميكافيلي (الغاية تبرر الوسيلة) الذي تم تشويهه وإفراغه من مضمونه الفضائلي من قِبل انتهازيي السلطة وحثالاتها التي تعتبر السلطة مغنمًا. فهذا المبدأ الميكافيلي يتيح للسلطة ارتكاب بعض الرذائل الآنية للوصول إلى فضيلة كبرى كاستقرار الدولة. وعند إسقاط هذا المبدأ على تجربة اليمن الحديث نرى نكوصًا مخزيًا وعنيفًا للفضيلة واستفحالًا مخيفًا للرذيلة.
فالبيئة الاجتماعية القبلية باعث وحافز لسلطة المصادرة والسيطرة على كيان الفرد والمجتمع، الأمر الذي جعل اليمن الحديث لأكثر من عقدين تحت حكم علي “عفاش”. ولولا عاصفة الربيع العربي الذي انتشلته لبقي في الحكم أبد الآبدين. وتجربة العقدين تحت حكم (العفاشية) التي أضحت ظاهرة تجدها عند أكبر وزير إلى أصغر موظف، جعلت من الدولة مجرد نفوذ يمارسها ويصل إلى أعلى مراكزها شخوص تقليدية قبلية فئوية وانتهازية أفرغت التجربة من مضامينها السياسية واتجهت صوب مضامين مبتذلة تتمثل في الطبقية والمناطقية والمشاريع الذاتية على حساب الدولة.
البيئة الاجتماعية القبلية باعث وحافز لسلطة المصادرة والسيطرة على كيان الفرد والمجتمع،
فحالة الجمهورية اليمنية باستفراد السلطة (العفاشية) -التي تمتد إلى متنفذين وعسكريين وشيوخ قبائل ورجال دين تحت عباءة علي عبدالله صالح- على الحكم، التي كانت على استعدادٍ تام لسحق الدولة والقيم الإنسانية لأجل البقاء، تعكس البنية الاجتماعية للمجتمع اليمني. فكما كتب الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) أن المجتمع المستبد تحكمه سلطة مستبدة. فالمقدمات تُنبئ بفشل التجربة السياسية لأن النمط المرسوم والمنشود للجمهورية اليمنية الحديث فوق مستوى الأحزاب والكُتل والقوى السياسية وبيئة المجتمع المستبدة التي تفرغ الأفراد من ذاتيتهم وإبداعهم الحر. والعمل السياسي لا يخرج عن الإطار المعرفي السائد.
ولعل انحطاط اللحظة التي أسهمت في ولادة ووصول (العفاشية إلى السلطة) أضحت عائقاً أمام التحوّل النوعي للأسس والمبادئ الديمقراطية الحديثة بوصول الفئات المنغلقة على ذاتها للسلطة، التي قامت بدورها في خصي وقطع التفاعل الحضاري مع الفكر الإنساني. وبانغلاقها تمحور كل شيء حولها وأصبحت الثقافة والمثقف خادماً وتابعاً لها، والتعليم المدرسي والثانوي والجامعي عبارة عن حقول ملغّمة بأنماطهم البدائية؛ وهي حالة استنساخ ورفض لصيرورة التاريخ وفعلها الطبيعي في تقدم المجتمعات الإنسانية.
ففي هذه الحالة مع تسلط (العفاشية) استُثمر الجهل في مؤسسات العلم وتحول المثقف إلى كلبٍ مطيع يخدم السلطة، لا مصدر قلقٍ لها كما يريده الفيلسوف سارتر. والمثقف الحر في الهامش يحاول البقاء على قيد الحياة إن لم تَطَلْهُ أيادي العنف من السلطة التي تؤطر الثقافة في ذاتها ولذاتها. وهي حالة تؤدي إلى تدني مستوى الوعي وتلاشي المبادئ الديمقراطية وتوطيد الاستبداد على الصعيد السياسي والاجتماعي.
وقد كانت الفرصة سانحة لحظة الاتفاق الأولي في القاهرة في (28 أكتوبر 1972) بين حكومتي الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية على قيام الوحدة اليمنية بالمبادئ المدنية والديمقراطية المنشودة بالعمل على تمهيد الطريق للنسيج الاجتماعي اليمني بالعلم والثقافة والفن والحرية للوصول إلى مجتمع مدني متجانس مع المفاهيم والمبادئ الديمقراطية وكذا نكوص ثقافة الإقصاء والاستيلاء والاستعلاء والتطرف. فالحكومتان لم تكونا على وعي كامل بمفردات الحداثة ومبادئها، غير بعض الأصوات الخجولة التي لم تؤثر في مسار السلطة؛ فظلّت المبادئ تُرفع كشعارات دون أن تتغلغل في النسيج الاجتماعي للدولة.
فالبُنية المعرفية للمجتمع اليمني بعيدة عن تفعيل أو تحقيق أي من المبادئ المدنية والديمقراطية لأنها لا تعيها. فالفرد الجاهل لا يعرف مصلحته الفردية أو العامة ولا يميزها بفعل القوى المستبدة شكلاً ومضموناً التي أفرغت فردانيته الحرّة وعملت على تذويبها في إطارها الضيّق. فيصبح دون هُدًى وبصيرة وسيلة ومطية لأهدافها وغاياتها. وبناء دولة مدنية ديمقراطية هو تجاوزٌ لعصبيات فئوية وقبلية وعقائدية واعتراف بمواطنة متساوية قائمة على احترام الإنسان. فهي دولة عقلانية تتفاعل مع معطيات الحداثة الدستورية والحقوقية التي تتجاوز الشمولية الاستبدادية. وترعى الحريات العامة والخاصة وترعى حقوق الفرد كاملةً دون نقصان من بينها الحقوق السياسية. أي أنها لا تحتكر السلطة في فرد أو كيان أو قبيلة أو معتقد. وهذه الأسس العامة لبناء دولة مدنية كُبحت بانبعاث ثلاثة أسباب من التركيبة الاجتماعية للمجتمع اليمني وهي:
- الجماعات الدينية المتطرفة التي سادت اليمن. وهي حركات لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالتعددية الحزبية ولا بالدولة القطرية وعادةً ما تنادي بالشريعة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية مناوئةً للدولة الوطنية.
القبائل اللا واعية التي تؤطر أبناءها في نسق مغلق يحتكم إليه الفرد غصباً. ولا يتمتع بحقوقه الفردية إلّا في إطار العرف القبلي، أما حقوقه السياسية فكفيلٌ بشيخ القبيلة اتخاذ القرار بالنيابة عنه.
الشخصيات الانتهازية المتعطشة للسلطة المستعدة لسحق أي بوادر مبادئ ديمقراطية تُفعل التداول السلمي للسلطة والمشاركة الفاعلة لكل فئات الشعب وتمكينهم سياسياً ولو على جثث الشعب.
وكما قال الشاعر العراقي الساخر أحمد مطر في قصيدته المعنونة بـ “صناديق”:
في بلاد الناس.. يأتي الشخصُ محمولاً إلى الناس بصندوق اقتراع
وببلدان الصناديق.. يجيء الشيء محمولاً
بكيس (اليانصيب)
فالديمقراطية في بلادنا لا تشبه ديمقراطيات العالم إذ إنها مخنوقة بالاستبداد والحكم الشمولي الذي تنميه العصبيات القبلية والعشائرية والحركات الدينية الراديكالية وذوي المشاريع الصغيرة لتقف حاجزًا منيعًا أمامها في الجمهورية اليمنية.
وما زالت المشاريع السياسية الحالية في اليمن تُعيد إنتاج العصبيات القبلية والمناطقية والدينية والترويج لزعامات زائفة بما يعمّق فجوة احتمالية تحقيق مبادئ الديمقراطية لتزداد التشققات والتصدّعات لإنتاج المزيد من الصراعات التي تهدد السلم المجتمعي ولا تدع للتعايش مكانًا وهي من تفضي إلى تسمم للفضاء العام في الدولة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.