ما أشبه اليوم بقرن مضى؛ فما نعيشه اليوم من دعوات لإحياء وتجديد التراث الديني، يبدو صورة طبق الأصل مما حدث قبل عقود طويلة؛ فمنذ قدوم الحملة الفرنسية على مصر في نهايات القرن الثامن عشر والمجتمع المصري عالق في مواجهة سؤال الدين والحداثة.
ورغم المحاولات والخطوات التي أنجزت في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لتعزيز المعاني والقيم والأفكار المرتبطة بالدولة المدنية الحديثة مثل: المواطنة، وحرية الاعتقاد، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، إلا أنها لم تكتمل لنظل ندور في دائرة مفرغة إلى الآن.
في كتابه “الإسلام والتجديد في مصر” الصادر في نسخته العربية عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، يقدم المستشرق الأمريكي تشارلز آدمس (1883- 1948) دراسة مبكرة لدعوات تجديد الفكر والخطاب الديني من خلال تتبع دعوات ثلاثة من رواد حركة التجديد في مصر وهم السيد جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا.
أكثر ما يميز كتاب آدمس أنه لا يقدم إجابات محددة، وأحكامًا مطلقة، بقدر ما يطرح أسئلة حول مدى أصالة وفاعلية دعوات الإصلاح الديني خلال هذه المرحلة، وإلى أي مدى نجحت في الانتقال من كونها دعوات فردية إلى تيار وسياق جماعي ومجتمعي؟
داعيًا القارئ ليكون شريكًا وفاعلًا في رحلة البحث وإنتاج المعرفة؛ فرغم مرور ما يقرب من قرن على صدور الكتاب، ما تزال العديد من الأفكار والتساؤلات والرؤى التي يطرح آدمس تعبر عن واقعنا العربي إلى الآن، حيث التماهي التام مع مظاهر التحديث، لا جوهر الحداثة، عاجزين على أن نكون فاعلين في مسيرة الحضارة الحديثة.
الثورة والإصلاح
يفتتح المستشرق الإمريكي كتابه بالحديث عن جمال الدين الأفغاني باعتباره حجر الأساس في إحياء حركة التجديد في مصر، مستعرضًا أفكاره الثورية القائمة على التحرر من الاحتلال الأجنبي، مشيرًا إلى تبني الأفغاني لمنهج الثورة السياسية فقد كان يراها “أسرع الطرق في تحرير الشعوب، أما وسائل الإصلاح التدريجي والتعليم، فكان يرى أنها بطيئة جدًّا غير محققة العاقبة”.
في الفصول التالية يركز آدمس على مشروع الإمام محمد عبده موضحًا أنه اختار منهجًا إصلاحيًّا مختلفًا عن المنهج الثوري لأستاذه جمال الدين، معتمدًا على التعليم والمعرفة في تحرير الشعوب وهو مشروع يحتاج مدى زمنيًّا طويلًا حتى يحقق غاياته، ولكنه متوافق ومعبر عن شخصية الإمام محمد عبده الذي طالما ردد مقولة “أني خلقت لكي أكون معلمًا” بصورة تعكس إيمانه بالدور الجوهري للتعليم في مسيرة الإصلاح والتغيير المجتمعي.
ويضيف آدمس: “نستطيع أن نقول إن التجديد الإسلامي في مصر اتخذ -خلال الربع الأخير من القرن الماضي تحت زعامة الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية المتوفى عام 1905- صورة حركة تسعى إلى تحرير الدين من أغلال الجمود، وتتجه إلى استكمال إصلاحات توفق بينه وبين متطلبات الحياة العصرية المعقدة، وهذه الحركة تختلف في هذه الناحية، عن حركة الإصلاح التي قام بها طائفة العقليين من مصلحي الهنود الذين كان همهم الأول منصرفًا إلى الحركة الثقافية، وإلى التوفيق بين الإسلام وبين مطالب المدنية الأوروبية الحديثة، ومهما يكن فقد توافقت الحركتان على أن الإسلام دين عام يناسب كافة الناس ويلائم جميع العصور والثقافات”؟
الصوفية والسلفية
يبدأ آدمس تحليله لشخصية محمد عبده منذ الطفولة، مشيرًا إلى أنه وُلد لأب من أصول تركية وأم مصرية، وتعلم في صباه القراءة والكتابة وأتم حفظ القرآن الكريم خلال عامين مما شجع والده على إرساله إلى الجامع الأحمدي بمدينة طنطا، لكن لم يستطع التأقلم مع البيئة الجديدة حيث كان بعمر ثلاثة عشر عاما، فعاد بعد عامين لقريته للعمل بالفلاحة، لكن والده أصر أن يعود مرة أخرى إلى الجامع الأحمدي وخلال هذه المرحلة ارتبط بأحد الشيوخ من أقاربه المتصوفة من أقاربه الذي عزز بداخله محبة العلم.
يرى آدمس أن التصوف لعب دورًا أساسيًّا في تطور وعي وأفكار محمد عبده، وكذلك انفتاحه على الشأن العام أسهم في منحه رؤية أوسع للدين من منظور اجتماعي وسياسي وثقافي، مشيرًا إلى أن مشروعه الإصلاح يرتكز على ثلاثة محاور وهم: علاقة العلم بالدين، والمساواة، وتطوير منظومة التعليم الأزهري، ساعيًا للوصول لحالة يتكامل فيها العلم مع الدين، والعقل مع الشرع.
“اتفق أهل الملة إلا قليلا ممن لا ينظر إليه، على أنه إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما دل عليه العقل وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله في علمه، والطريقة الثانية تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل”.
سنوات المنفى
يشير آدمس إلى مرحلة أخرى لعبت دورًا بارزًا في تطور أفكار ورؤى الإمام محمد عبده، وهي المرحلة التالية لفشل الثورة العرابية، إذ قُبض عليه مع زعمائها، وحكم عليه بالنفي ثلاث سنوات، وطوال سنوات المنفى الممتدة لستة أعوام تنقل الإمام محمد عبده بين العديد من الدول والمجتمعات الأوروبية التي كان لها أثر كبير في مسيرته وحياته بعد عودته لمصر.
فمنذ عودته ركز محمد عبده على تطوير المناهج الأزهرية بإدخال العلوم الحديثة وتقديم الفهم على الحفظ الجامد للعلوم الشرعية وتحسين أوضاع الدارسين والمعلمين به، من خلال وضع نظام ثابت لصرف أجور الشيوخ بالأزهر يتناسب مع درجاتهم العلمية ومكانتهم دون النظر لمدى قربهم من شيخ الأزهر وتوافقهم معه كما كان يحدث من قبل.
اقرأ أيضا: الاستشراق الكلاسيكي في سجالات المفكرين العرب
كما كان داعمًا للمساواة بين الرجل والمرأة وبين جميع البشر في الإسلام وفي ذلك يقول: “الناس جميعًا متساوون تمام المساواة في الطبائع والحقوق الموروثة وفي نسبتهم إلى الله” ويدلل على ذلك بقوله تعالى: “فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع أجر عمل عامل منكم من ذكر ولا أنثى” وقوله أيضًا: “بعضكم من بعض”.
يختتم المستشرق الإمريكي كتابه بتسليط الضوء على تراجع المشروع الإصلاحي بعد وفاة الإمام محمد عبده وتمدد الفكر الوهابي القادم من شبه الجزيرة العربية، راصدًا تأثر واحد من أبرز تلاميذ الإمام، وهو محمد رشيد رضا بالدعوة السلفية الوهابية.
*تشارلز آدمس ولد في ولاية بنسلفانيا عام 1883 ولد في بلدة من أعمال بنسيلفانيا، وتلقى دروسه الجامعية في كلية وست منستر. درس العلوم الإسلامية من جامعة شيكاغو، وعاش في مصر سنوات طويلة عمل خلالها مديرًا للمدرسة اللاهوتية في حي العباسية بالقاهرة، ثم انتدب عميدًا لمعهد الدراسات الشرقية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة (1939) وتقلب في التدريس حتى اختير مديرًا لمعهد الدراسات الآسيوية في جامعة ماك جيل (1963).