قبل عدة سنوات، كانت كلمة ومفهوم «المؤثر – influencer» تُطلق علي قائد رأي أو مفكر أو مثقف، لِأن دورهم الطبيعي هو التأثير في الناس، وتغيير القناعات والتوجهات والأفكار من أجل توجيه المجتمعات نحو التغيير الإيجابي. أَمَّا في أيامنا هذه، فقد انفلتت المعايير والمفاهيم بشكل كبير، ولم يُعد التأثير هو ذلك التأثير.
اِختِطَافٌ المُصطَلَح
منذ دخلت الرأسمالية إلى كلمة ومفهوم «الإنفلونسر» غيرت معناها وبدلت مفهومها تمامًا، فصارت دلالة المصطلح الاستعمالية والوظيفية مختلفة عن السابق، وتحولت الكلمة من صفة إلى مهنة! فصك لنا معجم الرأسمالية التعريف الجديد لكلمة «المؤثر-influencer» وعرفها بأنها: «التعاون مع العلامات التجارية والتأثير على الآخرين من أجل حثهم على شراء المنتجات»! ويبدو أن الرأسمالية نجحت في بث هذا المفهوم؛ فمعايير ومفاهيم التأثير القديمة أصبحت من الماضي، وصرنا اليوم أمام مفهوم جديد برأسمال مرتبط بالشكل، ومعتمد بالأساس على الصورة ونسبة المشاهدة وعدد المتابعين. ذاك هو الطاغي والمنتعش في رأسمالية الإنفلونسرز، والتي أصبحت صناعة كبيرة تُدر مليارات الدولارات.
♦ هل يمكن للمجهولين أن يصبحوا إنفلونسرز مؤثرين ؟
في الآونة الأخيرة، أراد الكاتب والصحفي التقني «نيك بلتون Nick Bilton» توثيق ما يجري في عالم الإنفلونسرز، فشرع إلى القيام بعمل تجربة اجتماعية تَهدفُ إِلى فَحص وتحليل هذه الظاهرة، والكشف عن المستفيد الأكبر منها، والتقي «بلتون» بخبراء من المحتوى الرقمي، ومستشاري وسائل التواصل الاجتماعي، وأدرج روايتهم في تجربته التي سجلها في الفيلم الوثائقي «Fake Famous».
وكانت بداية التجربة أن قام «بلتون» وفريق عمله بنشر دعوة عامة لأي شخص يطمح في أن يصبح «مؤثرًا influencer» بالحضور إليهم، ليفاجأ فريق العمل باستجابة عدد كبير (5000 شخص)، وليطرح «بلتون» السؤال عليهم: لماذا تريد أن تكون مؤثرًا – influencer؟
كانت معظم الإجابات تدور حول الدوافع النفعية للأشخاص، والإحساس بالذات وتغير نمط الحياة وجعله أقرب إلى نمط الاستهلاك، وبالتالي هُم يُرِيدُونَ أن يصبحوا مؤثرين لا لإفادة الناس والشعور بالهدف والمسؤولية المجتمعية، ولكن لتغيير مستواهم الاجتماعي، والانطلاق من زاوية «المؤثر – influencer» للحصول على ما يريدونه.
وبالطبع تختلف الأسباب لدى جميع الإنفلونسرز، لكن بالنظر إلى الواقع، نجد أن الإجابات التي طرحها الأشخاص المتواجدون في الفيلم هي السمة الغالبة لدى معظم الإنفلونسرز.
ومن بين هذا العدد الكبير الطامح إلى دخول عالم الإنفلونسرز، اختار «بلتون» منهم ثلاثة أشخاص عاديين وغير مشهورين أو موهوبين، ولديهم عدد قليل من المتابعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ثلاثة أشخاص في العشرينيات ويعيشون في «لوس أنجلوس»: «دومينيك – dominik» شابة تعمل في متجر للملابس، ثم «willy – وايلي» مساعد لوكيل عقارات، ثم «كريس – Chris» يعمل أيضا في متجر للملابس، وكل طموحهم هو أن يصبحوا إنفلونسرز مشهورين، وهنا يأتي دور الكاتب والمخرج «نيك بلتون Nick Bilton» ليأخذ الأشخاص الثلاثة في تجربة أشبه بالرحلة من أجل السفر بهم إلى وطن الإنفلونسرز!
مُلفِت... لكنه فارغ
يبدأ الفيلم بمشهد معبر جدًا، نرى فيه مجموعة من الأشخاص الذين جاؤوا خصيصًا لزيارة جدار وردي شهير «Paul Smith Wall» في مدينة لوس أنجلوس، وهو من أكثر الأماكن التي يتم تصويرها على «Instagram»، وأصبح في الفترة الأخيرة أحد أشهر مناطق الجذب السياحي في لوس أنجلوس، ويوضح لنا مخرج الفيلم أن هؤلاء الأشخاص جاؤوا إلى هذا الجدار من أجل اِلتقاط الصور فقط.
لكن لماذا أصبح هذا الجدار العادي مشهورًا جدًا؟ وكيف تحول جدار لا يظهر فنًا ولا تاريخًا أو أعجوبة معمارية، أو حتى يثير أي تجربة عاطفية، إلى هذه القيمة الكبيرة؟ إنها ببساطة مشهورة بكونها مشهورة!
فالرغبة في تحقيق الشهرة حفزت الناس على التحرك بغرابة في كل شيء، وإعطاء قدر كبير للأشياء الفاقدة للمعنى أصلًا، بل وجعل الأشياء المشوهة تبدو في أروع صورها، فبسبب ترويج بعض الأشخاص إلى الجدار، وجعله مرتبطًا بالشهرة وبنمط حياة معين، حفز ذلك الأشخاص نحو الذهاب والسفر إلى هذا الجدار، والتقاط الصور لنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي؛ أملاً أن تنال الصورة إعجاب الآلَاف من الأَشخاص. هل تصدق أن البعض اشتُهِر بسبب ذلك؟ وهنا يتحول الإنسان نفسه إلى لوحة فارغة بلا ملامح، تمامًا كجدار بول سميث!
صناعة المؤثرين… كيف تتم صناعة الإنفلونسرز؟
يستمر الفيلم في تقديم الأشخاص الثلاثة الطامحين إلى دخول عالم الإنفلونسرز، ويبدأ «بلتون» مع فريق عمله من خلال خطوتين فقط:
الأولى هي «تزييف الشهرة»، والثانية هي «تزييف نمط وأسلوب الحياة»؛ فيبدأ أولاً بعملية شراء متابعين، وهي خطوة سهلة جدًا تتم عبر أحد المواقع التي تقوم ببيع متابعين مزيفين لمواقع التواصل الاجتماعي، ويتم من خلالها شراء آلاف الروبوتات التي تضخم عدد المتابعين، وتوزع الإعجابات والتعليقات في كل مرة تنشر فيها محتوى جديدًا، ويمكنك حتى اختيار جنس الروبوتات وميولها السياسية، فالروبوتات تجعل الأرقام تبدو أفضل، وإن كانت مزيفة! وتجعل الشخص يبدو مشهورًا، أو أكثر شهرة مما هو عليه.
ويذهب «بلتون» إلى أن معظم الإنفلونسرز وحتى الأشخاص الذين حققوا نجاحًا كبيرًا مثل «كيم كارداشيان»؛ يقومون بشراء الروبوتات من أجل تضخيم حساباتهم على مواقع التواصل، كي يكسبوا صفقات أفضل مع المعلنين والجهات الراعية. ويشرح «بيلتون» عن السبب في غض الطرف عن هذه الممارسات من قِبَلِ شركات التواصل الاجتماعي، فيؤكد على أن هذه الممارسات المزيفة تساوي عائدات مالية متزايدة!
ويؤكد «بلتون» علي أن الروبوتات تشكل نصف التفاعل على منصة «Instagram»، ويبرهن علي ذلك بوجود 40 مليون حساب أمريكي، لدى كل أَحَدٍ منهم أكثر من مليون متابع، وأيضًا 100 مليون حساب، لدى كل أَحَدٍ منهم أكثر من 100 ألف متابع، فكيف إذًا يمكن اعتبار أن أكثر من 140 مليون شخص – أي ما يعادل أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة – إنفلونسرز مشهورين! وَعلى قَدرِ ما يَبدُو الموضوع في غاية الغرابة والابتذال، إلا أنه بعد فترة قصيرة يولد نتائج حقيقية، ويتحول التأثير المزيف الذي تم شراؤه إلى شَيءٍ حقيقي.
وبعد أن قام «بلتون» بشراء المتابعين، يقول إنه دفع حوالي 120 دولارًا للحصول على 7500 متابع و2500 تفاعل، يأخذنا بعدها إلى الخطوة الثانية، وهي تزييف نمط وأسلوب الحياة بالنسبة للأشخاص الثلاثة، فيقوم صناع الفيلم بعمل جلسة تصوير احترافية، تُظهِر «دومينيك» «وايلي» «كريس» في أسلوب حياة فاخر، كي يتم خداع المتابعين.
فَمَثَلاً تَظهَر «دومينيك ووايلي» على أنهما يحتسيان عصير التفاح على أنه شامبانيا، وفي حالة أخرى تضع دومنيك رأسها في حوض سباحة للأطفال مليء بالورود، لتجعل الأمر يبدو وكأنه في فندق فخم!
وفي الصورة الأكثر غرابة، يقوم «بلتون» بتزييف رحلة طيران خاصة لدومنيك باستخدام مقعد المرحاض وبشكل يحاكي نافذة الطائرة! وعند نشر هذه الصور يقومون بإضافة اللوكيشن في الأماكن المشهورة، ويعلق بيلتون: «نحن ببساطة نفعل ما يفعله الكثير من الإنفلونسرز، نحن نزيف الأمر… الجميع تقريبًا يفعل ذلك بشكل أو بآخر».
فراغ النجومية… سلعة تملأ الشاشة
كانت المفاجأة سريعة جدًا، وبدأ المتابعون الوهميون في جذب انتباه الأشخاص الحقيقيين، وقفز حساب «دومينك» بشكل جنوني وصل إلي 250 ألف متابع (وهي الآن إنفلونسرز مشهورة ولديها ما يقرب من 324 ألف متابع على Instagram)، وعلى الفور قامت العلامات التجارية بالتواصل معها، وأرسلت لها الكثير من الدعوات والمنتجات المجانية، بدءً من النظارات الشمسية والملابس والالكترونيات.. وُصُولاً إلى المجوهرات الباهظة!
وأصبحت «دومينيك» تُطور جمهورًا من خلال نشر مقاطع فيديو عن حياتها الشخصية اليومية – كيف تأكل وتشرب، والأماكن التي تسافر لها والمطاعم التي تأكل فيها – ومن خلال عرضها لتفاصيل حياتها اليومية يتم الإعلان عن المنتجات التي تقوم بفتح صناديقها أمام الكاميرا، ومن ثم تُحدث الناس عن تجربتها الرائعة مع هذه المنتجات التي أرسلتها لها الشركات. وتقوم «دومينيك» بربط هذه المنتجات بمفاهيم عاطفية بعيدة كل البعد عن المنتج، فكل ما تقوم به: هو مشاركة الناس في أدق تفاصيل حياتها اليومية مع احتضان منتج، وبهذا يصبح الشخص إنفلونسر على مواقع التواصل، ومع الوقت يصل الأمر به إلى أن يكون سفيرًا لإحدى العلامات التجارية، والمدافع عنها إن تطلّب الأمر.
ومن بين الأمثلة الكثيرة على ذلك في العالم العربي: الإنفلونسر «عالية هاني» – لديها “2 مليون” متابع – وكانت سفيرة للعديد من العلامات التجارية، وبنظرة سريعة على صفحات «عالية» على مواقع التواصل، لن تجد لها منشورًا أو فيديو بدون إعلان عن منتج تجاري، والعجيب أنه تم تكريمها من قبل الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا، وقامت بإلقاء ندوة للطلبة!
باهت بلا لون ومكرر بلا تمييز.. كيف يعيش الإنفلونسرز؟
واحدة من أكثر النقاط الهامة التي ركز عليها الفيلم؛ تسليطه الضوء لطبيعة أسلوب وحياة المؤثرين، وكيف أن نمط حياة الإنفلونسر يجعله طول الوقت تحت الضغط النفسي والعصبي، لا ننسى أن الشرط الأساسي لأن يكون الشخص إنفلونسر؛ هو في وجود عدد كبير من المتابعين – بغض النظر عن السبب الذي تابعوه – وحتى مع زيادة أعداد المتابعين، فإن هذا يزيد من الضغط عليه، ويركز على ما يريده الجمهور؛ لينساق وراءهم ويشكل حسب توقعهم، وليس من هو حقًا، وهو ما سيجعله يعيش بين مطرقة المتابعين، وسندان رضا الشركات.
وبالتالي فالإنفلونسر يستمد قيمته من الأرقام، عدد المتابعين Followers والمشاهدات والإعجابات likes، والتعليقات comments، بل إن هذه الأرقام هي ما تصنعه فعلًا، وهي تعتبر العملة الحالية لإنفلونسر اليوم! إضافة إلى أن الإنفلونسر مُضطَرٌ أيضًا إلى تزييف أسلوب حياته، وحتي وإن أظهر كل تفاصيل حياته على الناس، فإنه سيتظاهر دائمًا بأنه يعيش أسلوب حياة رائعًا ومختلفًا عن سائر الناس، وبالطبع لن يستوعب الناس أن حياة الإنفلونسرز الحقيقة ليست دائما كما يصور، وأن غرف معيشتهم لا تغمرها أشعة الشمس الحقيقية دائما.
كم مرة «شاهدت إنفلونسرز Couples» مسرورين في حياتهم، ثم تصيبك الدهشة عندما تسمع أنه تم انفصالهم، وفجأة يبدأ كل واحد فيهم بالحديث عن مدى صعوبة الحياة مع الآخر، على سبيل المثال ما حدث بين الإنفلونسر «أحمد السالم» وزوجته «ملكة كابلي» وهي إنفلونسر مثله، حيث قام كل واحد فيهم بمعايرة الآخر، وتحدث الزوج عن غياب السعادة مع زوجته!
وأصبح الناس يدركون أن المطلوب هو اللقطة نفسها، حتى ولو كانت اللقطة استثمارًا في أدق تفاصيل الحياة الأسرية والشخصية، وللتأكيد على مدى هذه السخافة، يعلق «باراتوندي ثورستون» بقوله: «يشتري الناس أجهزة إضاءة لتصوير حياتهم الخاصة بحيث تبدو رائعة للأشخاص الذين يرغبون في أن يكونوا جزءً من تلك الحياة».
وكل هذا من شأنه أن يصيب الإنفلونسر بمشاكل نفسية خطيرة، وهو ما حدث فعلاً للعديد منهم، ولعل أشهرهم: هي «Laina Morris» والتي وصلت لأعلى المراتب في عالم الإنفلونسر، قناة يوتيوب ناجحة تضم أكثر من 1.26 مليون مشترك، ومئات الملايين من المشاهدات، حققت كل شيء، لكنها فقدت المعنى تمامًا من وراء كل ذلك، ودخلت في مرحلة اكتئاب قررت على أثرها اعتزال هذا المجال، وقامت بتصوير فيديو وداع أخير، تكلمت فيه عن جزء بسيط من حياة القلق والتوتر التي تعيشها خلف الكاميرا، ومع ذلك، كانت الصدمة الأكبر بالنسبة للجمهور، لأن الجمهور يرى معظم الوقت الوهم الذي عرضته الإنفلونسر!
وعلينا أن نعلم أن هذه الظاهرة لا يوجد لها أَي ضوابط مهنية معينة تلتزم بها، ولذلك تحكمها الفوضوية بشكل ما، مع تركيزها على ما يطلبه الجمهور، وهو ما أدى إلى انتشار محتويات العنف والجنس…إلخ!
هل يؤثر الإنفلونسرز علينا بالسلب؟
«كل شيء في هذه الصناعة مزيف» هكذا عبر «بلتون» ولطالما كان مدافعًا عن وسائل التواصل الاجتماعي، ويكتب حول التأثيرات الإيجابية لها على المجتمع، إلى أن انتهى به المطاف إلى التحذير منها ومن هذه الظاهرة مُشِيرًا إلى أن الإنفلونسرز لا يجعلونك تشعر بالرضا تجاه نفسك.
فبينما أنت تتابع وتشاهد هؤلاء الإنفلونسرز وتقوم بالتفاعل معهم، فإن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتعداه بكثير.. يصل إلى تصديق المعاني المزيفة التي يحملها الإنفلونسرز، وتفسير الحياة والواقع من خلال وهم شاشات الإنفلونسرز، ومقارنة هذا الوهم بالواقع الأصلي الذي تعيشه، وهذا هو عين الإشكال في هذه الظاهرة – هيمنة الوهم على وعي الإنسان وفقدان معانٍ حقيقية مقابل معانٍ مزيفة – فمن خلال تصدير المعاني المزيفة، سيتم بناء واقع موهوم وفق آليات تزييف المعاني والمشاعر عوضًا عن الحقيقة!
والمتابع يعجب بشخص الإنفلونسر ويثق به أكثر من المنتج نفسه! لاسيما وأن الإنفلونسر يعتمد بالأساس على مستوى المشاعر والسلوكيات لدى الأفراد، ويجعلك هذا تشعر بالرغبة في شراء الأشياء التي يعرضها عليك، والإحساس بأن السعادة تكمن في المزيد من الاستهلاك، حتى وإن كنت في غير حاجة لذلك!
ويرى الناس الإنفلونسرز – كما يصورون – على أنهم يتمتعون بنمط حياة مذهل في كل شيء: يعيشون في إجازة، ويأكلون أفضل الأطعمة، ويرتدون أفضل الملابس، ولديهم أفضل المنتجات، تغمر غرف معيشتهم البهجة والسعادة، وهذا سيضع المتابع في دائرة المقارنة، ولعله يشعر بالسوء والعجز، لأنه لا يفعل مثلما يفعل الإنفلونسر، وسيؤدي به الحال إلى السخط والإحساس بأنه حياته ونمط عيشه ممل وسيء، وليس كحياة الإنفلونسرز السعيدة!
وَسَوَاءٌ أدرك جمهور من يتابعون الإنفلونسرز أم لا، فإنهم في الحقيقة مجرد رقم اقتصادي وواجهة إعلانية يستخدمها الإنفلونسرز في حساب الأرباح، ويستفيد منها أصحاب العلامات التجارية! وَسَوَاء أدركوا ذلك أم لا، فإن حياة الإنفلونسرز ليست دائمًا كما تبدو، وغرف معيشتهم لا تَغمُرُهَا السعادة دائمًا.
إنفلونسر بعقيدة رأسمالية
على الرغم من تَعَدُّدِ سلالات الإنفلونسرز المختلفة، فإن التأثير على المتابع لم يعد في حدود الأفكار والمعتقدات فحسب، بل امتَدّ إلَي أسلوب النظر إلى الأشياء، وعلى جل تجليات الحياة اليومية، فالإنفلونسر اليوم هو الذي يصنع ويخلق الواقع وفق منظور الرأسمالية، إنه يبني وطنًا سطحيًا مزيفًا، “وهذا ما تنبه له السوسيولوجي الفرنسي «جون بودريار Baudrillard Jean»: حيث يكشف لنا كيف استطاعت أيقونات الإعلام اليوم أن تشيد مجتمعًا على رؤيتها، مجتمعًا استهلاكيًا يؤمن بالمظهر والسطحية والسرعة، وحياة السعادة في استهلاك المنتوجات والترفيه والتسلية، كما تسعى لصناعة المجتمع وفقًا لرموزها” ( بحسب ياسين عتنا، في البروباجاندا الإعلامية وصناعة الواقع ).
فالظاهرة لم تعد مجرد عرض للمنتجات ولأسلوب حياة كل فرد فيها، بل صار الأمر أيديولوجية تفرض نفسها، وتسعى إلى بث قيم ومعتقدات جديدة، وتبرع في التسويق لهذه الأيديولوجيا بأسلوب جذاب وغير أخلاقي، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى نحر الثقافة الوطنية أمام تزايد الأيديولوجيا الأقوى؛ الساعية لفرض نسق واحد من القيم حتى ولو تعددت أشكالها.
بماذا سيحلم مواليد شبكات التواصل الاجتماعي؟
لعل أهم ما تميز به الوثائقي؛ هو استثارته لأسئلة مثيرة للاهتمام في أوقاتنا؛ منها رغبة الأجيال الصغيرة في أن يصبحوا إنفلونسرز، فمثلاً يذكر «بلتون» أن الأطفال في أمريكا يريدون أن يكونوا إنفلونسر أكثر من أي مهنة أخرى، وأظهر البحث الذي ظهر في الوثائقي: أنه بينما كانت الأجيال السابقة تطمح لأن يَرَوا أَنْفُسهم معلمين ورواد فضاء وأطباء، فإن عددًا كبيرًا من جيل الألفية الصغار يطمح إلى أن يكون إنفلونسر مشهورًا.
ففي ظل المشهد الثقافي الممزق وغياب التوجيه الأسري والاجتماعي الصحيح؛ فإن هذه الأيديولوجيا ستجد طريقها إلى الصغار، وحاليًا بدأ الترويج في العالم العربي لنموذج الطفل الإنفلونسر! الذي يقلد الإنفلونسرز الكبار، ويمكنك الآن أن تلاحظ ازدياد أعداد الأطفال الإنفلونسرز في العالم العربي، ومن أشهرهم الطفلة الإماراتية غلا الجسمي ذات التسع سنوات، وأيضا الطفلة المصرية زينة وشقيقتها، والطفلة المغربية غالية ريحانة.
ويبدو أن هذه الظاهرة ستتنامى بشكل أكبر مما هي عليه اليوم، خصوصًا مع التشجيع عليها، فهل سيكون نموذج الإنفلونسر أكثر الخيارات طموحًا للشباب وحلم للأجيال القادمة؟