“لم تكن ممارسة الجنس خمس مرات يوميًا كافية”
ما سبق ليست مبالغة؛ إنما لمحة من تجربة عاشتها إحدى مدمنات الجنس، وهي أم بريطانية لثلاثة أطفال، عصف إدمان الجنس بحياتها ودمر علاقاتها الاجتماعية، وتحول الجنس إلى شيء لا تستطيع الخلاص من التفكير فيه؛ فكل شيء حولها يذكرها به، وتفسر ما حدث بأنه مرتبط بمعاناتها من الاكتئاب ونقص هرمون السيروتونين، ولم تكن النتيجة النهائية للأسف سارة فقد انتهت علاقتها بزوجها على نحو غير متوقع.
لا تعد التجربة السابقة الوحيدة في عالم إدمان الجنس، فيحكي الشاب البريطاني غراهام كيف دفعه إدمان الجنس إلى خيانة زوجته مع المئات من العاملات بمقابل وصل إلى مئات الجنيهات الإسترلينية شهريًا، مما ولد لديه شعورًا مستمرًا بالذنب.
وحتى نقارب الصورة الحقيقية لإدمان الجنس، يصفه غراهام بأنه يشبه إدمان الكحول، فالمدمن يسقط في حلقة تزداد اتساعًا في عقله ويشعر بالنشوة وهو في العلاقة الجنسية لكن بعد ذلك تنقلب السعادة إلى ندم، لتتحول حياته إلى متتاليات بائسة لا تنتهي.
ونظرًا لأن معظم البشر يرون الجنس من الأشياء التي لها تأثير إيجابي على الحياة؛ فهم لا يفهمون بسهولة كيف يمكن أن يتحول إلى إدمان يؤدي بصاحبه إلى الجحيم، وهذا الفهم المجتمعي السائد ساهم للأسف في قلة الجهد البحثي تجاه هذا النوع من الإدمان، لكننا سنحاول الوصول إلى جذوره وتحليلها وتقديم الحلول الممكنة له أيضًا.
تعددت المسميات والأثر واحد
وفقًا للباحثين في الصحة النفسية؛ فإن إدمان الجنس يتم التعبير عنه باستخدام مسميات متعددة مثل: فرط الرغبة الجنسية، أو اضطراب السلوك الجنسي القهري أو الهوس الجنسي، وجميعها مصطلحات تهدف إلى وصف سلوك الشخص الذي يفقد السيطرة على رغبته الجنسية.
وتتنوع الأشكال التي تظهر من خلالها حالة عدم السيطرة لتشمل الاستمناء المفرط واستهلاك المواد الإباحية بانتظام، وممارسة الجنس عبر الهاتف أو الإنترنت وكذلك الانخراط في العلاقات مع العاملات في الجنس.
وقد ذُكر مفهوم إدمان الجنس للمرة الأولى من جانب الدكتور الأمريكي باتريك كارنز المتخصص في علاج إدمان الجنس في كتابه “الخروج من الظل“: فهم إدمان الجنس” الصادر في منتصف الثمانينات، والذي برهن من خلاله على أنه رغم اشتراك إدمان الجنس في الأعراض مع اضطراب الوسواس القهري واضطراب السيطرة على الانفعالات، إلا أنه لا ينتمي إليهم بشكل متطابق فهو اضطراب نفسي منفصل.
ومن العوامل التي ساهمت في دخول إدمان الجنس دائرة الضوء في السنوات الأخيرة، كان ما حدث عام 2009 عندما صرح الممثل الأمريكي ديفيد دوشوفني بأنه يعاني من إدمان الجنس، رغم أنه كان متزوجًا ويظهر للجمهور أنه يحيا حياة أسرية سعيدة، وقد دفع إدمان الجنس دوشوفني إلى الدخول في رحلة لإعادة التأهيل والتعافي.
إدمان أم رغبة طبيعية زادت عن الحد؟
مثلما ذكرنا ينظر الكثيرون إلى الجنس على أنه أحد مباهج الحياة الصحية؛ لذا فلا ضير إن زاد قليلًا عن حده، إنما مسألة كونه ينقلب إلى إدمان؛ فحتى اليوم لا تحظى بالقبول على نطاق واسع، وذلك يؤثر سلبًا على المدمنين. فقد أجرى أحد المواقع الإلكترونية المتخصصة في تقديم المساعدة لمدمني الجنس استبيانًا لقياس نسبة المدمنين الذين ذهبوا إلى الطبيب النفسي، فكانت نتيجته أن 91% منهم لم يطلبوا المساعدة المتخصصة نهائيًا.
وبحسب الطبيبة النفسية البريطانية أبيغال سان فإن السلوك الجنسي قد يحول الجنس إلى إدمان عند الأشخاص الذين يعانون من عدم القدرة على التحكم في أنفسهم، وبحد تحليلها فحينها يصبح الجنس من الأعراض الثانوية التي تعكس وجود مشكلات نفسية أكثر تعقيدًا مثل الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، ولا يكون سوى آلية للتكيف مع المعاناة النفسية، وتشير سان إلى أن تصنيف الاضطرابات الجنسية ذات الصلة بإدمان الجنس على أنها نوع من الإدمان لن يفيد بالضرورة من يعانون منها.
يعد الرأي السابق معتدلًا بالمقارنة مع ما يؤكده عالم النفس الأمريكي دايفيد لاي مؤلف كتاب “خرافة إدمان الجنس“، فهو يرى أن السلوك الذي يوصف بأنه إدمان للجنس غالبًا ما ينتج عن مشكلات مزاجية لم تعالج مثل القلق، وذلك يجعل من الصعب الاتفاق على أن إدمان الجنس اضطراب مستقل بذاته، ويثير الجدل بقوله إن النظر إلى الجنس والعادة السرية على أنها تتساوى مع إدمان المخدرات والكحول يبدو مثيرًا للضحك؛ فمدمنو الكحول قد يلقون حتفهم عند الإقلاع عن تناوله.
إلا أن الواقع ربما ينافي ذلك الرأي، فبحسب العديد من نماذج حالات مدمني الجنس فالأمر قد يصل بهم إلى حد ممارسة السلوكيات الجنسية الخارجة عن السيطرة في مكان العمل، مما قد يعرضهم للفصل وفقدان مصدر الدخل، وفي حالات متقدمة يدفعهم إدمانهم إلى الاغتصاب والقتل. وبرؤية علمية صريحة أشارت دراسة أجرتها كلية الطب بجامعة كونيتيكت إلى أن نظام المكافأة الذي ينشط عند إدمان الجنس هو نفسه الذي ينشط في حالات إدمان المخدرات، مما يؤكد أن إدمان الجنس يسير في نفس المسارات الفسيولوجية والنفسية للإدمانات التقليدية.
ما الذي يوصل مدمن الجنس إلى هذه المساحة المظلمة؟
رغم أن الأسباب الجذرية لإدمان الجنس ليست واضحة بما يكفي حتى اليوم، إلا أن خبراء الصحة النفسية توصلوا إلى مجموعة من الأسباب المحتملة، وفي مقدمتها أسباب عضوية بحتة مثل تشوه الفص الجبهي.
فوفقًا لدراسة نشرتها المجلة الدولية للصرع والسلوك فإن فرط النشاط الجنسي قد يترافق مع إصابات وأورام في الفص الجبهي والصدغي بالدماغ، وبالطبع تزداد الاحتمالية عندما يجتمع هذا المحفز مع تحديات نفسية أو اجتماعية. ويتشارك في العنصر العضوي عامل آخر يتمثل في تأثير بعض الأدوية، فبحسب ما توصلت إليه دراسة علمية نشرتها مجلة جاما العالمية، فإن بعض علاجات مرض باركنسون ارتبطت بزيادة أعراض السلوك الجنسي القهري. بالإضافة إلى عامل آخر وهو اختلال توازن المواد الكيميائية الطبيعية في الدماغ مثل السيروتونين والدوبامين والنورابينفرين، وجميعها مواد تنظم الحالة المزاجية يكون ارتفاعها مثيرًا للانخراط في السلوكيات الجنسية القهرية.
وإذا ما انتقلنا إلى الجانب النفسي سنجد أن الحالة النفسية تلعب دورًا محوريًا في دفع الشخص نحو إدمان الجنس، فالصدمات النفسية في مرحلة الطفولة بالأخص المتعلقة بالجانب الجنسي والنشأة الجافة الخالية من المشاعر، واضطرابات الصحة العقلية الأخرى مثل القلق والاكتئاب تكون محفزًا لا يستهان به لإدمان الجنس،
على سبيل المثال الأشخاص الذين تم تشخيصهم بالاضطراب ثنائي القطب يكون لديهم ميل نحو الهوس، مما يجعلهم أكثر عرضة للانخراط في الأنشطة الجنسية الخطرة دون خوف من العواقب الكارثية التي قد تنتج عنها.
متى تضيء الإشارة الحمراء معلنة الوصول لإدمان الجنس؟
توجد عدة أعراض لإدمان الجنس تختلف في حدتها لكن وجود بعضها يشير إلى أهمية طلب المساعدة، فمثلًا يعاني مدمن الجنس من عدم القدرة على التحكم في رغبته الجنسية، لتكون النتيجة سلوكيات جنسية متكررة بشكل مرضي، ويوصله هذا النمط الجنسي غير الصحي إلى الاصطدام بمشكلات في مناحي أخرى من حياته؛ سواءً في العمل أو في حياته الاجتماعية والزوجية، وينطلق في سباق لا نهاية له وراء الأنشطة الجنسية، ورغم أنها لا تشعره بالرضا عن حياته إلا أنه لا يستطيع التوقف عن ممارستها.
وذلك يذهب به إلى مرحلة أعقد بمعاناته من مشاعر القلق أو الخزي أو الاكتئاب، وقد تظهر عليه علامات الاكتئاب السريري وأحيانًا التفكير في الانتحار، وهذا بالطبع متصل بحالة العزلة التي سيكون قد وصل إليها بعدما تخلى عن واجباته الوظيفية والأسرية بشكل كبير. وتوجد أعراض أخرى لإدمان الجنس وفقًا للخبراء النفسيين مثل الإفراط في الاستمناء بشكل قهري، بالأخص إذا كانت الممارسة تتم في أوقات غير مناسبة أو بشكل ينتج عنه ألم جسدي، وأحيانًا يخرج الأمر عن السيطرة أكثر لتظهر سلوكيات محفوفة بالمخاطر مثل الاستمناء في الأماكن العامة أو ممارسة الجنس دون وسائل وقائية، فيزيد ذلك من احتمالية الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيًا.
هل من سبيل إلى علاج؟
يبدأ علاج إدمان الجنس بعمل تحليل لشخصية المدمن وجمع المعلومات الكافية عن طفولته وحالته الصحية والأسرية والمهنية؛ بهدف الوصول إلى حقيقة ما إذا كانت هناك اضطرابات نفسية أخرى يعاني منها؛ مثل الاكتئاب أو القلق أو تعاطي المخدرات. وتهدف هذه المرحلة الأولية إلى تحقق التشخيص السليم وعلاج المشكلة من جذورها، وهناك عدة أساليب لعلاج إدمان الجنس، منها إعادة تقييم الأفكار المشوهة التي تقف وراء الممارسات الجنسية القهرية، ومن ثم العمل على التحكم فيها.
ويلجأ بعض المعالجين النفسيين إلى نهج العلاج النفسي الديناميكي الذي يركز على علاج الصعوبات العاطفية للمدمن، والتي غالبًا ما تكون قد نشأت في مرحلة الطفولة، وأحيانًا يتم اللجوء للأدوية النفسية التي تعالج الاضطراب ثنائي القطب لدورها في تقليل الحوافز القهرية المرتبطة بالأنشطة الجنسية.
أما في المراحل المتقدمة لإدمان الجنس فيُستعان بمضادات الأندروجين للعمل على تقليل الرغبة الجنسية، أو يُطلب من المريض الدخول إلى مصحة نفسية فترة لا تقل عن شهر حتى يستعيد السيطرة على رغبته الجنسية.