اليوم مع الإباضية الذين ينتسبون على الأشهر لفرقة الخوارج، لكن عند التحقيق يتبين أن هذه الشهرة ليست دقيقة؛ إنما هي من إملاءات التاريخ والعزلة الاجتماعية بين العرب؛ حيث قطن الإباضيون سواحل “عُمان والمغرب والجزائر”، فعاشوا بمعزل عن صراعات ومشاكل السنة والشيعة، حتى اكتسبوا وسط هذا السياق موقفًا سياسيًا وسطًا أقرب للزيود، مثلما تقدم في شرح مذهب الزيدية، ولأن حروبهم كانت أقل مما اعتاد عليه العرب في مناطق التماس السنية الشيعية، تميز مجتمعهم بالهدوء والبُعد عن الضجيج والصخب المرافق لتلك الحروب، ومع الوقت أضاف لهم ذلك الهدوء حكمة وبُعد نظر في الاستقلال عن الضجيج الطائفي المجاور؛ فالحكمة تخرج من رحم الهدوء اللازم للتأمل، والسلام شرط أساسي لاكتساب القدرة على التفكير العميق.
ولهذه الوضعية المميزة التي اجتمعت فيها عوامل الجغرافيا مع السياسة، أحسن العديد من فقهاء السنة ظنهم بالإباضيين؛ فينقل الشيخ “محمد أبو زهرة” (1898- 1974م) عنهم في تاريخ المذاهب الإسلامية عدة آراء:
“جملة آراء الإباضيين أن مخالفيهم من المسلمين ليسوا مشركين ولا مؤمنين، ويسمونهم كفار نعمة لا اعتقاد، وذلك لأنهم لم يكفروا بالله، ولكنهم قصّروا في جنب الله، ودماء المخالفين عندهم حرام، ودارهم دار توحيد وإسلام إلا معسكر السلطان، ولا يحل من غنائم المسلمين المحاربين إلا الخيل والسلاح، وكل ما فيه من قوة ويردون الذهب والفضة، وتجوز عند الإباضية شهادة المخالفين ومناكحتهم والتوارث معهم، ومن هذا كله يتبين اعتدالهم وإنصافهم لمخالفيهم” (صـ 74).
ومع ذلك عدّهم أبو زهرة من الخوارج وفقًا لتصنيفات الفقهاء الأقدمين، برغم أن أشهر صفات الخوارج المنقولة في كتب الحديث لم تنطبق على الإباضيين باعتراف أبي زهرة؛ وهي “قتلهم للمسلمين واستحلال دماء المخالفين”؛ فعن رسول الله عليه السلام قال: “إن من ضئضئ هذا، قومًا يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان”، (صحيح البخاري 3344، 7432) (صحيح مسلم 1064)؛ فلم يثبت أن الإباضيين قتلوا أهل الإسلام لأنهم مسلمين، لكن الثابت تاريخيًا هو خروج عبدالله بن إباض على مروان بن محمد الأموي، وهو صراع سياسي يشي بأن تهمة الخروج على الإباضية مصدرها ذلك الصراع تحديدًا.
أشير إلى أنني لن أعتمد الحديث عن الإباضية من كتب الملل والنحل المشهورة التي شكّلت عقائد المسلمين حديثًا نحو الفرق لأسباب؛ منها أن هذه الكتب مليئة بالأكاذيب على الخصوم، وصدرت من فقهاء سنة ضد خصوم سياسيين وعقائديين؛ إما بالأمر السياسي المباشر أو وفقًا لصراع مذهبي، علاوة على شيوع التكفير فيها، أذكر من ذلك كتاب “الفرق بين الفرق” لعبد القاهر البغدادي المتوفى عام 429 هـ، الذي كان تكفيريًا صِرفًا، ونصوصه مليئة باحتقار والتحريض على المخالفين
وقد وضحت هذه النزعة التكفيرية لديه في كتبه الأخرى على نفس السياق كفضائح المعتزلة والقدرية والكرامية، يكفي أن كتابه “الفرق بين الفرق” ذكرت فيه كلمة كافر (25 مرة)، وكفر (30 مرة)، وكفرة (18 مرة)، والكافر (12 مرة)، ومشركون (6 مرات)، والزنادقة (6 مرات)، وشرك (5 مرات)، ومشرك (5 مرات) غير ألفاظ أخرى كالقتل والزندقة والردة والمرتد والمرتدين..إلخ. غير أنه أحل دماء المعتزلة وقال بوجوب قتلهم في نفس الكتاب.
وضع كهذا يجعل من غير المفيد أن نعتمد كتب الملل والنحل القديمة للتعرّف على الإباضية؛ بل سنعتمد تعريفاتهم عن أنفسهم وكلام من تواصل معهم من أهل السنة مؤخرًا، طبقًا لحقيقة تاريخية أن العصر الذي فشا فيه التأليف في الملل والنحل بالعصر العباسي الثاني كان مريضًا بالعُزلة، وأصحابه على درجة كبيرة من الانغلاق الفكري والوهم، إضافة للصراعات المذهبية والسياسية الكبيرة التي أثرت على الفقهاء والمؤرخين في تصورهم للخصوم.
ينتسب الإباضيون اسمًا “لعبدالله بن إباض التميمي” المتوفى عام 89هـ، وفقهًا للتابعي “جابر بن زيد الأزدي” (21- 93هـ)، والذي شرحنا في أضواء على الخوارج من قبل أن كافة الفرق المنتسبة للخوارج ليست من قريش؛ فالإباضية هنا وفقِا لهذا الانتساب الاسمي ليست قرشية، ويظهر أن سببًا من أسباب افتراقها عن أهل السنة هي “الخلافة القرشية”، كون الغالب على سائر الإباضيين قبائل بني تميم والأزد وغيرهم، ولذلك يتخذ ضدهم أصوليو السنة بالخصوص موقفًا متشددًا لثبوت فرضية اتباع الخليفة؛ وبالأخص إجماع الخلفاء الأربعة لديهم، رغم ثبوت الخلاف حول ذلك الإجماع وحجيته عن فريق آخر من أهل السنة.
ففي موسوعة الفقه الإسلامي الصادرة عن وزارة الأوقاف المصرية جاء في صـ 78 “لا ينعقد الإجماع عند الجمهور باتفاق الخلفاء الأربعة أو الخمسة، مع وجود المخالف لهم من الصحابة، ولا ينعقد من باب أولى باتفاق الشيخين أبى بكر وعمر، وذلك لما سبق من أن الدلالة الدالة على اعتبار الإجماع حجة متناولة لإجماع أهل الحل والعقد كلهم؛ فلا خصوصية للخلفاء الراشدين
وفى حواشى هداية العقول للزيدية: “إن حديث ” اقتدوا بالذين من بعدي” ضعفه الذهبى، وحديث “عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي”، رواه أبو داود وضعفه ابن القطان، وحديث ” أصحابى كالنجوم ” ضعفه أحمد. وذكر ابن قدامة المقدسى الحنبلى فى روضة الناظر: أنه قد نقل عن أحمد رحمه الله ما يدل على أنه لا يخرج عن قول الخلفاء الأربعة إلى قول غيرهم، وكلام أحمد فى إحدى الروايتين عنه يدل على أن قولهم حجة، ولا يلزم من كل ما هو حجة أن يكون إجماعا” انتهى.
وهذا يعني أن حجية افتراق المذاهب عن السنة وفقًا لعدم حجية إجماع الخلفاء أو اتباعهم مشروعة؛ فالغالب على الآثار التي أمرت بهذا الاتباع أو كانت دليلاً على مشروعيته، هي آثار ضعيفة السند، وتكلم فيها أهل الحديث أنفسهم وشراح الكتب التسعة، مما يفتح الباب للقول بمشروعية تأويل الافتراق على قواعد السياسة، وبالتالي غلق الباب أمام تكفير الرأي الآخر وكافة المذاهب المختلفة التي كان جوهر خلافها مع السنة سيًاسيًا.
لن أعتمد الحديث عن الإباضية من كتب الملل والنحل المشهورة التي شكّلت عقائد المسلمين حديثًا نحو الفرق لأسباب؛ منها أن هذه الكتب مليئة بالأكاذيب على الخصوم
وينقل وهبة الزحيلي (1932- 2015) في شرح أصول الإباضية بما يوافق هذا الكلام “كان جابر بن زيد من العلماء التابعين العاملين بالقرآن والسنة، تتلمذ على ابن عباس رضي الله عنهما، وأصول فقه الإباضية كأصول المذاهب الأخرى المعتمدة على القرآن والسنة والإجماع والقياس والاستدلال أو الاستنباط بجميع طرقه؛ من الاستحسان والاستصلاح (المصالح المرسلة) والاستصحاب وقول الصحابي وغيرها.
والمعتمد عندهم أن الإلهام من غير النبي ليس بحجة في الأحكام الشرعية على غير الملهَم، وأما المجتهد الملهم فليس الإلهام في حقه حجة إلا في قضية لا يوجد لحكمها دليل متفق عليه، وكأنه الاستحسان المعروف، وهم يتبرؤون من تسميتهم الخوارج أو الخوامس، وكانوا يعرفون بأهل الدعوة، وأهل الاستقامة، وجماعة المسلمين.” (الفقه الإسلامي وأدلته 1/ 46).
ومجمل ما كتبه الزحيلي في حق الإباضية أنهم يؤمنون بالاجتهاد والتجديد، وأن رأي المجتهد في الأخير “غير مُلزِم”، ويجري العمل به للاستحسان، وأن أصولهم الدينية والمعرفية لا تختلف عن أصول ومعارف كافة المذاهب الإسلامية الأخرى، مما يعني أن الخلاف السياسي حول قرشية الخليفة ليست أصلاً دينيًا، ويجري فهمها وفقًا للسياق والحجة الواردة في موسوعة الفقه الإسلامي الصادرة عن وزارة الأوقاف المصرية.
كذلك فاللشيخ “محمد رشيد رضا” (1865- 1935م) رأي شهير في الإباضية؛ حيث قال فيهم: “هم من أشد المسلمين استمساكًا بالإسلام، وما يخالفون به أهل السنة فهم فيه كأهل كل مذهب، عامتهم مقلدون، ومتعلموهم متأولون”، (مجلة المنار 24/ 401). وللشيخ أيضًا تقريظ ومدح لكتاب ” الذهب الخالص، المنوه بالعلم القالص ” وهو كتاب في أصول الإيمان والإسلام من العقائد والعبادات والآداب، من تصانيف أكبر علماء الإباضية وأشهرهم، وهو الشيخ “محمد بن يوسف أطفيش الجزائري” (1820- 1914م)، وتقريظًا ومدحًا آخر لمجلة “المنهاج” لصاحبها الشيخ الإباضي “أبو إسحاق إبراهيم أطفيش الجزائري” (1888- 1965م) (مجلة المنار 26/ 640).
ويمكن فهم دوافع مدح الشيخ رشيد رضا للإباضية رغم عدها من فرق الخوارج المعتدلين إلى موقفه السياسي من “الشيعة والخلافة”؛ حيث تبين أن كلام المنهاج للشيخ أبي إسحاق أطفيش الجزائري يوافق هوى رشيد رضا في موقفه الطائفي من الشيعة، ولدعوتهم للوحدة الإسلامية فيما اصطلح عليه آنذاك “بالجامعة الإسلامية” التي كانت بديلاً عند أغلب فقهاء المسلمين وحُلمًا شعبيًا هامًا في ذلك العصر لإحياء دولة الخلافة بعد سقوطها في تركيا سنة 1924م
ولدوافع مشتركة بين صاحب المنهاج والشيخ رشيد رضا أيضًا من المجددين والناقدين للفكر الإسلامي أمثال الشيخ “علي عبدالرازق” (1888- 1967م)، لدرجة وصف الشيخ علي من طرف رشيد رضا “براوندي العصر”، وهو وصف تكفيري كان دارجًا على ألسن بعض الأصوليين في وصف كتاب الشيخ علي المعروف “بالإسلام وأصول الحكم”، الذي أنكر فيه دولة الخلافة، وقد قال رشيد رضا في وصف الشيخ علي بالحرف ” إنه راوندي العصر في محاربة الإسلام، وناصر الإفرنج على المسلمين، ومؤيد دعاية الملاحدة اللادينيين بشبهات الدين”.
من جانب آخر يمكن فهم هذا المدح كرد جميل لتقريظ الشيخ الإباضي “أبي إسحاق إبراهيم أطفيش الجزائري” لتفسير المنار، ومما جاء فيه أن الإباضية قالوا في هذا التفسير “إنه من أسمى التفاسير وأوفرها ثروة، وأشملها لحقائق من التفسير مفقودة من مناهج المفسرين، وليس السيد مفسر المنار ممن يحشر ما هب ودب ويجمع ما يملأ الأوراق، ويمتد إلى ترهات الإسرائيليات التي شوهت جمال كثير من الكتب، وما ليس له علاقة بالتفسير، إلا حب الاستكثار والولوع بالتخليط، حتى صار الكتاب أشبه ما يكون بقصص الرواة اليوم” (مجلة المنهاج ج 1 و 2 م 6).
استخدام منبر الصلاة لتصفية الحساب السياسي كان مرصودًا ومرفوضًا عند سلف الإباضية
فمن الواضح أن مجلة المنهاج الإباضية كانت تنتقد شيوع الإسرائيليات في التراث، ومفسرو الإباضية يبتعدون عن تلك الأخبار المضطربة ولا ينقلونها في تصانيفهم المختلفة من باب “أميتوا الباطل بالسكوت عنه”، وكذلك نقد الإباضيين لقصص الرواة وتمتعهم بملَكة النقد لمنتجات هؤلاء القصاصين بما يتوافق مع صريح العقل والقرآن، وما تواتر من السنة النبوية وفقًا لمنهج الشيخ رشيد رضا الذي كان كثير النقد للتراث ورد الإسرائيليات والطعن في الأحاديث الخرافية وخبر الواحد، حتى لو كانت مما جاءت به كتب الصحاح الكبرى في البخاري ومسلم.
ونظرا لما قلناه في المقدمة بأن الخلاف قد يكون سياسيًا ثم يتطور لعقائدي والعكس؛ فالإباضية اختلفت مع السنة سياسيًا حول مركزية وحجية الخليفة، وهذا بالأصل صراع سياسي أثّر ذلك على رأيها الفقهي والعقائدي، الذي يعد من أشهر ما أجمع عليه الإباضيون (عدم جواز المسح على الخفين)، وهو رأي اجتمع فيه الشيعة والخوارج والإباضية على عدم مشروعية صلاة من يمسح على الخفين، ويمكن فهم ذلك من فرضية تاريخية قالت بأن الخليفة الأموي كان يصلي بخف ثقيل الوزن؛ فكان يتكاسل عن خلعه للوضوء؛ فأفتى له فقهاء البلاط الأموي بجواز هذا الأمر كي لا يضعوا مجالاً للشك في مشروعية صلاة الخليفة، وبالتالي عدم جواز إمامته، ومن قرائن هذا الأمر وضع الفقهاء والمحدثين السنة روايات المسح على الخفين بالعقائد ودمجها مع روايات طاعة الإمام رغم تبعية هذا الحكم لأبواب الفقه مصدرًا، (انظر الصحيحين).
والآثار الواردة عن الإمام “جابر بن زيد” كثيرة في رفض المسح على الخفين واعتبار ذلك جائزًا في الوضوء؛ منها “كيف يمسح الرجل على خفيه والله تعالى يخاطبنا في كتابه بنفس الوضوء”، ومنها ما عزاه لعائشة وابن عباس: ” ما رأيت رسول الله مسح على خفه قط”.
كذلك فالسياسة كانت حاضرة في رفض الإباضية لدعاء القنوت؛ إذ كان لعن وسب وتكفير الخصوم السياسيين شائعًا في القرنين الأول والثاني الهجريين، وهي الفترة الزمنية التي تشكلت فيها أصول وعقائد الإباضية، وهو ما نراه اليوم في قنوت شيوخ ودعاة الإسلام السياسي في الدعاء على الرافضة والنواصب والصليبيين واليهود والعلمانيين.إلخ؛ فاستخدام منبر الصلاة لتصفية الحساب السياسي كان مرصودًا ومرفوضًا عند سلف الإباضية، لكن لم يتوسع الشارحون بما يكفي لهذا الربط بين رفض القنوت والسياسة، برغم وضوح مصدره في الروايات التاريخية، والذي منها حديث “إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس”، وبلفظ آخر “صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الآدميين”؛ فالواجب عند الإباضية أن تكون الصلاة إما بالقرآن أو بالأدعية التي تناجي الله وتستغفره وترجوه؛ لا بتصفية الحسابات السياسية والشخصية بين البشر.
ولفتة أخرى دالة على أن التوجه السياسي كان مؤثرًا في الفقه، من ذلك قول الإباضيين بفساد صيام من أصبح جُنُبا، والفرضية تقول إن خصوم الإباضية السياسيين كانوا يغزون ويغنمون الجواري فيُكثرون من ممارسة الجنس، وضع كهذا مع شُحّ الماء في الصحراء، يعني أن صيام هؤلاء أصبح فاسدًا، فلجأ خصوم الإباضية للفتوى بأن صيام من أصبح جُنُبا صحيح ولا شئ عليه، رغم أن حديثًا شهيرًا قال فيه رسول الله “من أصبح جُنُبًا أصبح مُفطرًا”
أو برواية أخرى “إذا نودي للصلاة، صلاة الصبح وأحدكم جنب؛ فلا يصم يومئذ”، (مسند ابن حنبل 8145) (صحيح ابن حبان 3485) (صحيح الألباني 3/ 11). علمًا بأن روايات صوم النبي في الجهة المقابلة إذا أصبح جُنُبًا حاضرة عن عائشة كان يرد فيها السنة على خصومهم؛ مما جعل هذه القضية من أبرز مواطن الفقه المختلف عليها بين السنة والإباضية رغم مركزيتها ومساسها بصحة الصوم
كذلك فالسياسة كانت حاضرة في رؤية الإباضية للصحابة؛ فهم يرون الصحابي كغيره من البشر؛ يتفاضلون عند الله وفقًا لعملهم لا وفقًا لدرجة صُحبته وقرابته للرسول، وهذا الذي ميّز فكر الخوارج بالعموم عن مذهبيّ السنة والشيعة، الذي قال الأول بعدالة الصحابة والثاني بعصمة الأئمة، بينما قال الإباضيون باحترام هؤلاء جميعًا ولكن وفقًا لعملهم لا درجة قربهم وصحبتهم، وفي ذلك عدة أدلة قرآنية صريحة
منها قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون”، [الحجرات : 2]، وقوله أيضًا “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه” [الفتح : 10]، وقوله أيضًا: “وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم” [التوبة : 101].
أما تعريف الإباضية لأنفسهم فهم لا يُحبّذون وصفهم بالإباضية، كون المذهب لديهم أعلى وأسمى من الانتساب لشخص ابن إباض، ويقولون إن عادة السنة والشيعة نسب مخالفيهم في الرأي والدين لأشخاص بغرض الاحتقار والتوبيخ والسيطرة على هذا الرأي بتضييق مساحته الجغرافية والفكرية؛ فيكون حصر الدين في شخص ما هو يؤسس فعليًا لعدم التعاطف معه والنظر لما هو أشمل، لذا فهم يُسمّون أنفسهم “بأهل الحق والاستقامة”، وبلفظ آخر “أهل الاستقامة”، ويدعمون مذهبهم بأن أقوال وأفكار التابعي “جابر بن زيد” ليست بدعًا من القول بل هي السنة الصحيحة المأخوذة عن ابن عباس والسيدة عائشة وابن عمر وأنس بن مالك وكثير من الصحابة ممن قرّظوا جابرًا وجعلوه فقيها لا يُشقّ له غبار.
أما تعريف الإباضية لأنفسهم فهم لا يُحبّذون وصفهم بالإباضية، كون المذهب لديهم أعلى وأسمى من الانتساب لشخص ابن إباض
وكتاب الأخبار المُعتمد لديهم هو مسند الربيع، المنقول عن الإمام “الربيع بن حبيب بن عمر الأزدي” (80- 175 هـ)، الذي نقل أحاديثه عن الإمام “أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة”، الذي نقل بدوره عن التابعي “جابر بن زيد” الذي نقل بدوره عن عائشة وابن عباس وأنس بن مالك.وغيرهم؛ فتكون سلسلة الحديث المعتمدة لدى الإباضية (الربيع بن حبيب عن مسلم بن أبي كريمة عن جابر بن زيد)، وهؤلاء الثلاثة هم مصادر العلم الكبرى في المذهب الإباضي نظرا لأن الإباضية ليست مذهبا عقليًا كالمعتزلة يرى التأويل والفلسفة؛ بل هو أقرب لمذهب الحديث مع حفظ الفارق بينه وبين السنة والشيعة في المسائل السياسية التي أشرنا إلى بعضها منذ قليل.
وعن الفارق بين الإباضية والخوارج يقول الشيخ “عبدالعزيز بن سعود المعولي”، وهو من فقهاء الإباضية في سلطنة عُمان: “إن أهل النهروان المُحكّمة ومن بينهم صحابة كانوا رافضين لأمر التحكيم مستندين لحكم الله بقتال الفئة الباغية؛ فاعتزلوا الفتنة وخرجوا لمنطقة النهروان، وكان منهجهم عدم استعراض القوة، وعدم استباحة الدماء والأموال، إلا أن نافع بن الأزرق وجماعته الأزارقة، وكذلك النجدات والصفرية سرعان ما انفردوا بفكر جديد مبني على تكفير المخالفين واستحلال الدماء وتكفير أهل الكبائر، وبذلك أصبحوا ومن تبعهم في فكر القتل والتكفير من الخوارج، بخلاف الإباضية الذين لم يوافقوهم الرأي، ولذلك حدث قتال بين الصفرية بقيادة “شيبان الخارجي” ضد الإباضية بقيادة الإمام “الجلندي بن مسعود” .(مذهب الإسلام الأول صـ 7).
ومن كلام الشيخ المعولي يظهر أن سلف الإباضية رفضوا التحكيم بين عليّ ومعاوية بالفعل، وكانوا من جُملة من عُرفوا بالمُحكّمة الأوائل الذين كان من بينهم ” عبدالله بن وهب الراسبي”، الذي حكينا بعض أمره وجماعته الحرورية في مقالنا على مواطن في فبراير الماضي بعنوان “أضواء على مذهب الخوارج“، ويظهر أيضًا أن تسمية الخوارج لم تكن شائعة في ذلك العهد، ولكن بعد استشراء خطر جماعات الخوارج الكبرى كالأزارقة والنجدات والصفرية؛ فتكون المعادلة هي (مُحكمة انشقت إلى حرورية الذين انشقوا بدورهم إلى نجدات وأزارقة وصفرية)؛ فالإباضية وإن كانوا من المحكمة الأوائل ويظهروًن ميلا للحرورية، لكنهم خصوم لجماعات الخوارج الأخرى، لذا فلم يحصلوا على رضا الأغلبية الشعبية أو القوى الكبرى النافذة.
وقد حكى الدكتور “محمد سليم العوا” في سلسلة حلقات عن الخوارج هذه الفروقات بين الخوارج والإباضية مستشهدًا بأقوال كثير من علماء السنة في نفي خارجية الإباضيين، وتمايز أهل عُمان بالخصوص عن فكر الخوارج وبراءتهم من مذهب التكفير والقتل الذيْن دمّرا كثيرًا من أهل الإسلام ومجتمعاته.
ومُجمل القول: أن جمهور السنة يرى الإباضية خوارج لموقفهم السياسي من عدم تقديس الصحابة، أو القول بعدالتهم واعتماد كتب حديث أخرى غير التسعة، وجمهور الشيعة يرى الإباضية خوارج أيضًا لأنهم قاتلوا الإمام عليّ في النهروان، ولأنهم صوّبوا رأي المحكمة الأوائل في تخطئة الإمام علي في التحكيم حسب وجهة نظرهم، بينما الخوارج حاربوا الإباضية لأسباب لم تذكرها كتب التاريخ، وإن كان يظهر منها موقف سلف الإباضية من عدم تكفير الصحابة وآل البيت
ومسند الإمام “الربيع بن حبيب” المعتمد عند الإباضية ينقل مئات الأحاديث عن الصحابة والسيدة عائشة، لذا فسيظل مشهد الإباضية غامضًا، ويكمن غموضه في أن هذه الجماعة والفرقة أخذت لنفسها تيارًا مستقلاً وطريقة فكر مختلفة عن السائد، وهذه سمة من سمات العقل النقدي، لذا فليس من المستغرب أن معظم من ينتمي لهذه الفئة يقبل قضايا التنوير والنقد ولديه ملكة البحث العلمي بتجرد، وشخصيًا أعرف فئة كبيرة منهم بالآلاف؛ سواء من الأصدقاء والقراء لديهم حب الاطلاع ورفض تقديس البشر دينيًا، مما أهلهم لأن يكونوا من كبار الباحثين في الشأن الديني.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.