في البدء كانت المجموعات البشرية أقل تنظيما وأقل كثافة، إلا أن طبيعة الحكم كان أكثر تسلطا، و يرتكز في أساسه على عاملين مهمين هما: الملكية والقوة، وإلى حد بعيد لا يزال هذان المرتكزان قائمين حتى اليوم في ظل الأنظمة الديمقراطية الحديثة، فما بالك بالأنظمة الشمولية التي تعتبر الإنسان مجرد ملكية تابعة للنظام وذلك ليس قائما على الولاء بقدر ما هو قائم على القوة، فالاستعمال المفرط للقوة واحتكارها يمُكن الأنظمة الشمولية من إخضاع إرادة الإنسان وتجريده من جميع القيم اللصيقة به كـ: الحرية والانفرادية والكرامة.
إلا أن الجدل الأهم يكمن في المسار الذي تشكلت فيه الأنظمة الشمولية، فهل هي مجرد سيرورة طبيعية للمجريات والأحداث التاريخية للشعوب وتجاربها، أم أنها على النقيض من ذلك قدر محتوم: راجع إلى قوى تتشكل من جماعات معينة تعمل على تمكين الشمولية في أنظمتها وبذلك يضمنون ديمومة الحكم والوقت، ورباء الثروة والملكية؟
الإنسان والحكم
لقد عاشت الجماعات البشرية حقبا زمنية ليست بالقصيرة، بالاعتماد على الفردانية المطلقة، إذ كانت الأفراد تعيش بمفردها ساعية للحياة، إلا أن سعيهم للحياة دائما ما كان مهددا، وبذلك كانت الإستراتيجية الوحيدة المتاحة للأفراد في ذلك الوقت هو الانضمام إلى جماعات سكانية تعزز فرصهم في الحياة، إلا أن ذلك كان ثمنه التنازل على الفردانية المطلقة، والولاء للجماعة فضلا عن خدمتها والتقيد بقوانينها، وبذلك فإن بروز فكرة الحكم “أن يعيش الفرد ضمن منظومة تحد من فردانيته ومن حريته” مقترنا بشكل مباشر بغريزة البقاء، فالحكم لم يكن أمرا قدريا على الإنسان أكثر مما كان خيارا استراتيجيا من أجل البقاء.
إلا أن الحكم على انتفاء القدرية في الحكم ”جعل الإنسان متقيدا بأنظمة حكم شمولية” لن يكون منطقيا فقط لأن مجموعات بشرية تجمعت بإرادتها من أجل تعزيز فرصها في العيش، فبفعل تطور هذه الجماعات البشرية بفعل الزمن من جهة وتطور الفكر البشري من جهة أخرى، أدى إلى تنامي وتعدد أساليب الحكم وأنماطه، فابتداء بنظام كبار العشائر مرورا بالأنظمة الملكية وصولا إلى الإقطاعية، تغيرت طبيعة التعاقد القائمة ما بين الفرد والجماعة، فإذا كانت في البدء اختيارية وطوعية ومحددة الأهداف “البقاء” فقد أصبحت طبيعة التعاقد وراثية، فالعديد من الشعوب عاشت ولا تزال تعيش ضمن أنظمة حكم لم تتعاقد معها بصفة مباشرة، بل توارثت عقدا اجتماعية مورثا، كتركة من أسلافهم، وهذا ما يمكن أن يعزز من منطقية الطرح القائل بقدرية خضوع الشعوب للأنظمة الشمولية.
المجتمعات الشمولية كما الأنظمة الشمولية تعتبر كل رأي مخالف تهديدا لكيانها ووجودها
ونظرا لكون الاتجاهين منطقيين في نفس الوقت، فأحيانا ما تكون الشعوب هي من تختار أنظمة شمولية تحكمها، وفي أحيان أخرى فإن هذه الأنظمة الشمولية تتشكل وفق ديناميكية اجتماعية تراكمية مرتبطة في الأساس بالزمن (التجربة التاريخية) وكذا بتطور الفكر البشري، إلا أن هذا الاتجاه سيكون أكثر منطقية لو سقطت جميع الأنظمة الشمولية بفعل بروز وانتشار الدولة الحديثة ونظام العقد الاجتماعي اللذين يحدان من شمولية أنظمة الحكم القائمة على الفردانية.
المجتمعات الشمولية
ننطلق هنا من منطق أن أنظمة الحكم لا تعدو كونها انعكاسا لطبيعة الشعوب، فما الأنظمة سوى إفراز شعبي تُعبر نخبه عن طبيعته، فشمولية الأنظمة من شمولية مجتمعاتها، وكما أن للأنظمة الديمقراطية سمات محددة تقوم عليها فكذلك الأنظمة الشمولية تقوم على سمات معينة ومدى توافر مثل تلكم السمات، يشير إلى مدى شمولية المجتمعات، وتتمثل أغلبية تلك السمات في:
الرأي الواحد: تقوم الأنظمة الشمولية على مبدأ الفكر الواحد، وكذلك الشعوب الشمولية تفعل، فهي ليست بسبيل انتهاج الرأي الواحد وحسب، وإنما هي قائمة على الإقصاء الممنهج لجميع الأفكار المخالفة لرأي الأغلبية، فلكم أن تتصوروا وضع الأقليات السياسية والدينية والفكرية التي تعيش ضمن الشموليات الاجتماعية، وأساليب التخوين والاضطهاد التي تتعرض لها،
فالمجتمعات الشمولية كما الأنظمة الشمولية تعتبر كل رأي مخالف تهديدا لكيانها ووجودها، وبذلك فإن العديد من الأقليات الراضخة تحت أنظمة الحكم الشمولية إنما هي تفضل قمع النظام على قمع المجتمع، وأحينا هي ترتمي في حضن أنظمة شمولية لا تتورع على ممارسة أقصى أنواع الفواجع السياسية والإنسانية، فقط هروبا من الشعوب الديكتاتورية التي تمارس شموليتها بطرق لا يمكن لأعتى الدكتاتوريات تصورها، ومنه فإن الأنظمة الشمولية تتعلم أساليبها الإقصائية والوحشية من شعوبها، فهي من رحمها تولد.
السلطوية: تفيد السلطوية في معانيها؛ الممارسة المفرطة للسلطة، أو الممارسات غير الشرعية باسم السلطة، وتعد أحد مرتكزات الأنظمة الشمولية فضلا على كونها سياسة عامة للتحكم بالشعوب، إلا أن ممارسة السلطوية تفيد كذلك في معانيها وتجلياتها المختلفة؛ التدخل المفرط في سلوكيات الأفراد وتوجيهها وفقا لمنافع تتعارض مع منفعة الفرد، وهذه سمة ثابتة في المجتمعات الشمولية، إذ تقوم هذه الأخيرة على محاصرة الفرد والتدخل في شؤونه الشخصية، ففي المجتمعات الشمولية الجميع يراقب الجميع في سلوكياته وأفكاره بحثا عن أي نشوز من شأنه المساس بالتوجه العام للمجتمع،
فضلا عن تقييد حرية الإنسان في توجهاته العقدية والسياسية والجنسية، فكل هذه المشارب تخضع لسلطة المجتمع، إذ تحدد التوجهات التي يتعين على الأفراد التقيد بها، وبمنهجية سلطوية، فإن النشوز والاختلاف عنها يعني الشذوذ، والشذوذ عن سلطة المجتمع يستوجب الإقصاء، فكم من المتنورين الذي راحوا ضحية مجتمعات سلطوية، تدنس أفكارهم وشخصياتهم، ويشتهرون بكونهم أعداء للمجتمع وقيمه، فتستباح أعراضهم ودماؤهم إرضاء لسلطوية المجتمع، ومنه فإن سلطوية الأنظمة الشمولية ليست سوى امتداد لسلطوية شعوبها.
الخنوع: من سمات المجتمعات الشمولية أنها تستجيب للسلطوية بالخنوع، فكلما ازدادت مظاهر القهر والخنوع كلما ربت سمات الخنوع لديها، وبفعل الزمن يصبح الخنوع ظاهرة متأصلة ومتوارثة، تنتقل من جيل إلى آخر، فالمجتمعات الخانعة لا تستجيب فقط لسلطة الأمر الواقع، وإنما تتخذ من الخنوع أيديولوجية قائمة بذاتها، يتخذون من نصوص الدين وشعارات كالسلم والأمن مرتكزات لتبرير الخنوع كنوع من أنواع الروح الوطنية، وبذلك تصبح مثل هذه الشعوب ركيزة من ركائز الأنظمة الشمولية، تستغلها هذه الأخيرة لبسط سيطرتها أكثر فأكثر، وكذلك تجدر الإشارة إلى أن الشعوب الشمولية لا تتخذ من الخنوع سمة متفردة بذاتها، بل تعمل وفق منطق التفكير الازدواجي، إذ إنها تتخذ من التسلط سمة مزدوجة للخنوع، فبقدر استجابتها بالخنوع أمام مثير السلطوية،
فهي كذلك تستثار بفعل العامل نفسه (أي الخنوع)، فتتخذ رد فعل شرطي يتمثل في السلطوية والقمع، ونضرب مثلا في ذلك (خنوع الفرد، والمرأة، الأقليات العرقية، والدينية…) التي تذوق من مرارة السلطوية الأمرين (سلطوية النظام وسلطوية الشعب)، ومن مظاهر سلطوية الشعوب نجد بأنها تتخذ فكرا واحدا، وتستعمل العنف اللفظي والجسدي على جميع الأفراد الذين ينتهجون أفكارا مخالفة، كما أنها شعوب عنيفة، موغلة في ثقافة التخوين فكل شخص مهما كان مثقفا أو ذا سلطة أو حتى إن كان مواطنا بسيطا فإنه يخون ويضطهد حين ينتقد الطبيعة الشمولية للمجتمع، فنرى أن الأنظمة الشمولية مهما بلغ سلطانها فهي لا تستطيع المجاهرة بمنطق غير منطق الأغلبية الشعبية وبذلك فإن الأنظمة الشمولية تخضع كذلك بمنطق لخنوع لتوجهات الأغلبيات الشمولية.
تقديس الشخصيات: تقوم المجتمعات الشمولية كما هي أنظمتها على مبدأ تقديس الشخص بدل الفكر، فهي تعتد بالشخصيات الديكتاتورية التي تتمكن من فرض نفسها على الساحة السياسية، فبمعية البروباغندا الإعلامية، تعمل هذه الشعوب على تعظيم دور الديكتاتوريين بحيث تصبح أسماؤهم مرادفة للوطنية والنضال من أجل الوطن، كما يتم إضفاء صفات دينية عليهم، كالتقي، والمفدى، عبد الله، وخادم الحرمين، ومن سلالة الرسول، حافظ كتاب الله، المجاهد، الشهيد …إلخ.
والمجتمعات الشمولية لا تقدس الدكتاتوريين فقط، فكل مسيطر جائر سواء باسم الجاه أو المال أو الدين أو العلم، يلقى من المجتمعات الشمولية القدر الكافي من التقديس، إذ ترتكز مثل هذه الشعوب على مبدأ القبلية والتعصب، والتي تتسم بطبقية مزدوجة: علية القوم، وعامة الناس، وبذلك تعتد المجتمعات الشمولية بالشخصيات التي تتمكن بصفة أو بأخرى من فرض نفسها على الساحة، وبذلك تسيطر هذه الأخيرة (طبقة علية القوم) والتي غالبا ما تكون تحت سيطرة الأنظمة الشمولية، بتوجيه الرأي العام للمجتمع والسيطرة عليه، وفرض أنماط فكرية وأيديولوجية معينة، إذ إن الشعوب الشمولية لا تستجيب للمنطق والفكر بقدر ما تستجيب لتزكية الأشخاص الذين يعتبرون (رموزا وقدوة) لسائر العموم من الشعب.
المثالية: الأصل في النزعة الإنسانية هي محاولة بلوغ المثالية، والوضع الطبيعي والصحي للمجتمعات يكمن في سعيها لبلوغ الكمال والمثالية، إلا أن المجتمعات الشمولية على النقيض من ذلك تماما فهي تحمل نزعة مفادها أنها بلغت المثالية (فهي مثالية في الأصل)، وأنها أحسن وأفضل الشعوب “خير أمة أخرجت للناس” وبذلك فهي ترى أن جميع الشعوب الأخرى هي مجرد شعوب ضالة أقل قيمة منها وعليها تكون مثلها سواء بالرضى أو الإكراه، وهنا تكمن المشكلة؛ إذ إن الشعوب الشمولية ليست فقط عاجزة عن إدراك نواقصها، بل تعتبر تلك النواقص والآفات امتيازات وفضائل،
وبذلك تتربع المجتمعات الشمولية على عرش التخلف والخراب والانحلال الخلقي والقيمي، فهي لا تتقبل الانتقاد من منطلق مثاليتها، فهي تعتبر الحوار جريمة والنقد إساءة وتهجمًا، وبذلك تبقى مجتمعات منغلقة ومنعزلة في مثالية وهمية، تعيش مآسيها بنكهة من الانتصار الزائف، وبذلك فإن المثالية هي من أهم وأخطر سمات المجتمعات الشمولية، فهي لا تقوم على ضمان استمرارية النظام الشمولي وحسب، بل تعمل على جعل المجتمعات كيانات فاقدة للأهلية الإنسانية، فبقدر ما تشكل خطرا على ذاتها فهي تشكل خطرا على العالم، فليس عليك سوى أن توهم طاغية بأنه على حق كي يحرق العالم وينتشي بنصره فوق الرماد والخراب.
الغرور: تنبثق سمة الغرور كنتيجة حتمية لسمة المثالية، فبقدر ما تعتقد أنها مثالية لا يشوبها النقص، بقدر ما تكون مغرورة للغاية، فالشمولية الاجتماعية تجعل من الشعوب تعتبر نفسها أعلى قيمة من بقية الشعوب “الميز العنصري”، فهي تعامل الشعوب الأخرى بازدواجية قيمية، إذ إنها صاحبة الدماء الصافية، والعقيدة السمحة، والفكر السديد، لذا نجد أنه من السائد في تشريعات وقوانين مثل هذه المجتمعات أن الأجنبي لا قصاص في دمه، وأن دماءه لا تعادل دماء مجتمعاتها الصافية، وكذا فإن الغريب عن المجتمع لا يمكنه إبداء رأيه، أو إبراز خصوصياته الثقافية والفنية، أو طقوسه الدينية، فهي في تصور الشمولية الاجتماعية ليست حقوقًا وحريات فردية، بقدر ما هي ممارسات دونية تهدد القيم والمعتقدات المثالية لشعوبها.
العاطفية: يشير الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير” إلى أن الجماهير غوغائية ولا تستمع لصوت المنطق، ووحدها الخطابات العاطفية هي التي تؤثر فيها وتستجيب لها، ففي فكر لوبان فإنه كلما ازداد عدد الجمهور كلما نقص دور العقل والمنطق، وبما أن المجتمعات الشمولية هي مجتمعات قبلية تقوم على الجماهير وتقدس الجماعة، فهي بذات المنطق مجتمعات عاطفية لا تستجيب للعقل والمنطق، فوحدها الخطابات العاطفية والشعبوية هي السائدة في أوساطها، وبذلك فإن القواد الذين يعتزمون السيطرة عليها لابد من أن ينتهجوا خطابا عاطفيا وشعبويا، بالاعتماد على النزعات الوطنية والدينية والقبلية.
الجماهير غوغائية ولا تستمع لصوت المنطق، ووحدها الخطابات العاطفية هي التي تؤثر فيها وتستجيب لها
غوستاف لوبون
في الختام وبناء على سمات المجتمعات الشمولية، فإنه من المجحف بمكان اعتبار الأنظمة الشمولية قدرا محتوما على الشعوب، وإنما هي ديناميكية اجتماعية؛ أي أن الأنظمة الشمولية هي وليدة شعوب شمولية، وانتفاء القدرية في الطرح قائم على فعل الثورة، وأن الطريق نحو الحرية والديموقراطية مرهون بمدى نضال الشعوب من أجلها، فلا يمكن تصور نظام ديمقراطي في ظل الشمولية الاجتماعية، تسيطر فيها الجماعة على الفرد، والقوي على الضعيف، والرجل على المرأة، والغني على الفقير، والكبير على الصغير.
وأن السبيل المثلى لإقامة الثورات لا يكمن في السعي نحو إسقاط طبقة حاكمة، واستبدالها بأخرى من رحم ذات الشعب التي ستتولى شؤون العامة بشكل شمولي كما فعلت سابقاتها إن لم تكن أكثر شمولية منها، فما الطبقات الحاكمة سوى جزء من الشعوب متشبعة بقيمها وممارستها، ومنه فإن الثورات القادرة على النجاح وبناء أنظمة ديمقراطية قائمة على المواطن ومن أجل المواطن، لابد من أن توجه نحو الشعوب؛ فوحدها الثورة الاجتماعية هي الكفيلة بوضع حد للشمولية الاجتماعية.
ولا يمكن كذلك أن تصور انتقالا ديمقراطيا في ظرف قياسي بفعل إسقاط الطبقات الحاكمة، وإنما بناء مجتمعات الحرية والتوافق يتطلب القدر الكثير من الوقت والجهد، فإن أغلب الثورات الناجحة على مر التاريخ قد أخذت عقودا وقرونا من الزمن ولنا في الثورة الفرنسية خير مثال، ويتخلل المسار الثوري الكثير من النكسات، ووحدها العزيمة الفردية هي التي تمكن الثورات من النجاح، وبقدر ما قد تكون الأنظمة الشمولية قدرية فإن فعل الثورة يجعل منها مجرد حلقة في مسار التاريخ، وكونها ديناميكية اجتماعية هي الأقرب للمنطق، والديناميكية الاجتماعية تستوجب التغيير بفعل إرادة الإنسان والمجتمع.