عمان تصدر لاجئين أيضاً.. في مطار هيثرو في العاصمة البريطانية لندن، فارٌّ من سطوة السلطة الدينية قادما من الولايات المتحدة، الفاروق الصلتي، مواطنٌ عماني يُقدم على خطوة اللجوء، بعد حملة اعتقالات واسعة في سلطنة عمان، طالت ناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي تدفع بها المؤسسة الدينية في عمان لأسبابٍ تتعلق بحريات الفكر وحريات التعبير.
الفاروق الصلتي، وهو طالبٌ عمانيٌ مبتعث في الولايات المتحدة، ارتبط بنشاطٍ مع بعض الشخصيات التي تم اعتقالها سابقاً على وسائل التواصل الاجتماعي في مساحات نقاشٍ دينية على موقع تويتر. الصلتي، حسب قوله، تعرض سابقاً للتهديد على خلفية نقده للمؤسسة الدينية وسيطرتها على الخطاب العام في عمان حيث يقول: “كان لي نشاط قبل عدة سنوات على موقع الفيسبوك Facebook على إثره تلقيت أول تهديد من شخص يعمل لدى السلطات بأنني تجاوزت إحدى الخطوط الحمراء؛ بالرغم من أن المنشور الذي نشرته لم يكن يتحدث إلا عن فكرة القطيع والراعي على المستوى الديني، لأضطر بعدها لإغلاق حساباتي على وسائل التواصل الاجتماعي”.
عاد الفاروق الصلتي كما يقول بداية العام 2021 للنشاط مجدداً على وسائل التواصل الاجتماعي والدعوة لنقد الموروث الديني في مساحات النقاش التي كان يشترك فيها عمانيون آخرون تعرضوا للاعتقال خلال الأشهر الماضية والإخفاء دون توجيه تهمٍ رسمية لهم، حيث قامت “مواطن” بتغطية أحداث الاعتقالات في قصصٍ صحفية سابقة.
غيث الشبلي، وهو أحد المواطنين العمانيين الذين تم اعتقالهم مبكراً أواخر يوليو الماضي، كان يناقش مسائل متعلقةً بنقد الموروث الديني والتطرف والآراء المعارضة للسلطات الدينية في البلاد، كان أحدها مناقشة آراء المفتي العماني، أحمد الخليلي، في كتابه مصرع الإلحاد ـ قبل أن يأتي الرد الذي وصفته مصادر مطلعة على الشأن العام في عمان لمواطن بأنه يظهر حجم توغل المؤسسة الدينية في السلطة وتنامي نفوذها الذي يظهر ضعف السلطات الحكومية أمامها.
سلطة المفتي أكبر
رصدت مواطن في يونيو الماضي حملة اعتقالاتٍ دفعت المؤسسة الدينية حسب مصادر خاصة للقيام بها والسعي لقمع أي نشاطٍ فكريٍ ناقدٍ أو معارض لتوجهات ورؤى المؤسسة الدينية في عمان. حيث يصف مصدر لمواطن، الذي آثر التحفظ على ذكر اسمه لدواعٍ أمنية، في هذه القصة بأن المؤسسة الدينية في عمان أصبحت تظهر بصورةٍ أكثر حضوراً في الشأن العماني العام، وبصورة تخالف توجه السلطات السياسية حد ذاتها.
ويضيف لمواطن: "إن توغل السلطات الدينية وظهورها في الشأن العام بتدخلاتٍ أكثر وضوحاً يرجع لضعف السلطة الحالية، إذ إنه لم يكن للمؤسسة الدينية هذه الجرأة للتدخل في الشأن العام في عهد السلطان السابق قابوس بن سعيد، أما الآن فنحن نرى بأن المؤسسة الدينية والمفتي أصبح يحرض الجمهور المتدين لتضييق الحريات والأوضاع الاجتماعية أمام المخالفين، ويستخدم نفوذه المتنامي في السلطة لقمع ما تبقى من حرية تعبير على وسائل التواصل الخاضعة للرقابة".
يقول الفاروق الصلتي في حديثه معلقاً على هذه المسألة المتعلقة بدور المؤسسة الدينية في قمع واختفاء عمانيين شاركوا في مساحات النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي: “مشكلتي، وكذلك كثير من العمانيين، هي السلطة الدينية في عمان ومدى سيطرتها على الوعي الجمعي، حيث إنها توجهه للوجهة التي تريد متى ما أرادت. لذا فنحن نعترض على المواد التي يحتويها قانون الجزاء العماني والتي تدعم السلطة الدينية بصورة واضحة متجاهلة الأقليات وبالأخص اللادينيين”. ويضيف، الصلتي بأن قانون الجزاء العماني يسهم بشكلٍ كبير في خدمة أغراض المؤسسة الدينية وقمع المخالفين لها في عمان.
وحسب القانون العماني تنص المادة 269 من قانون الجزاء العماني على أنه:
يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن (3) ثلاث سنوات، ولا تزيد على (10) عشر سنوات كل من ارتكب فعلا من الأفعال الآتية:
أ– التطاول على الذات الإلهية، أو الإساءة إليها، باللفظ أو الكتابة أو الرسم أو الإيماء، أو بأي وسيلة أخرى.
ب- الإساءة إلى القرآن الكريم أو تحريفه، أو تدنيسه.
ج – الإساءة إلى الدين الإسلامي أو إحدى شعائره، أو سب أحد الأديان السماوية.
محمد الفزاري، الكاتب العماني ورئيس تحرير شبكة مواطن، في حديثٍ له عن السلطة الدينية في عمان في برودكاست تابع ل “شبكة الميادين الإعلامية”، يُرجع سبب تضخم السلطة الدينية في الفترة الحالية، وخصوصاً بعد رحيل السلطان قابوس، للاستبداد السياسي الذي مارسه السلطان السابق على مدى عقود من احتكار السلطات في شخصه بنظام حكم الفرد، حيث يقول: “كان السلطان على رأس كل السلطات الثلاث، بل حتى على كل الوزارات السيادية، نحن نتحدث هنا عن نصف قرن، وهنا نتخيل حجم الفراغ الذي تركه السلطان الراحل الذي من الطبيعي أن لا يستطيع السلطان الحالي ملأه، ومن الطبيعي أن تكون السلطة الدينية كثاني أقوى سلطة في عمان من يستطيع ملئ هذا الفراغ”.
يضيف محمد الفزاري حديثه حول مدى واقعية تضخم هذه السلطة في عمان ووجودها الحقيقي على أرض الواقع للمسافة التي تعمدت فيها الأسرة الحاكمة الإبقاء عليها بينها وبين الحكومة والسلطة الدينية من جهة والسلطة القبلية من جهةٍ أخرى، حيث يقول: "حافظ النظام كسلطةٍ سياسية على مسافةٍ بينه وبين السلطة الدينية والقبلية، فلا يقترب منها بحيث يلغيها ولا يبتعد عنهما للدرجة التي تسمح لهما بالتضخم والخروج عن إرادته".
للوقوف على هذه الأسباب التي جعلت السلطة السياسية تتعمد الإبقاء فيه على السلطات الدينية والقبلية في عمان والمحافظة على مسافةٍ متوازنة للسيطرة عليها يقول الفزاري: كان الغرض هو استخدام هذين السلطتين لتحقيق مصالح السلطة السياسية، ولذلك فإنه ورغم أن فترة نصف قرنٍ كانت كافيةً لإلغاء هذين السلطتين، اختار النظام الإبقاء عليهما من أجل مصالحه، لكن المعادلة بدأت تختل، حيث نلاحظ في أكثر من موقف بأن السلطات الدينية بدأت تتجاوز المساحة التي سمحت لها السلطة السياسية بالتحرك داخلها”.
ويضيف الكاتب العماني محمد الفزاري :” إن قوة السلطة الدينية حالياً ليس بسبب تحالفها مع السلطة السياسية بقدر ما هو عائدٌ لسبب ضعف السلطة السياسية ذاتها أصلاً، وهذا يعود لعدة أسباب، اجتماعية ودينية وسياسية”.
اعتقالاتٌ واسعة
غيث الشبلي، مواطنٌ عمانيٌ كان يقيم مساحات نقاشٍ على وسائل التواصل الاجتماعي قامت السلطات باستدعائه أواخر يوليو الماضي ليختفي بعدها دون ردودٍ رسمية حول وضعه والتهم المنسوبة له، فيما أشارت مصادر مواطن في قصةٍ صحفيةٍ سابقة بأن غيث يواجه الآن أربع تهمٍ وجهتها السلطات له، منها الدعوة إلى ممارسة الرذيلة، الإساءة للأديان وازدراؤها والتجديف في الذات الإلهية، وهي تهمٌ قد يواجه على إثرها عقوبةً بالسجن لمدةٍ تصل لعشر سنوات.
في حديثه مع “مواطن”، يصف الفاروق الصلتي ما تعرض له أصدقاؤه في مساحات النقاش التي كانوا يشاركون فيها لا يترك مجالاً أمام أحد للتعبير، فيما يصف عودته لعمان في ظل هذه الأوضاع بضربٍ من الجنون حيث يقول: “بعد أن ضجت الساحة العمانية بسبب المساحات التي أقمناها أنا ومجموعة من الناشطين الذين تم اعتقالهم تيقنت أن رجوعي لعمان هو أشبه بالانتحار فلم يكن لدي الخيار إلا إكمال حياتي في الخارج”.
عقب اعتقال غيث، قامت “مواطن” بتغطية حملة اعتقالات جديدة يونيو الماضي وصفتها مصادر مواطن بأنها تقضي على هامش التعبير الضيق المتبقي في عمان، طالت عمانيين وعمانياتٍ آخرين ينشطون في مساحات نقاشٍ على موقع تويتر تناقش موضوعات مشابهة لتلك التي كان يناقشها غيث الشبلي في مساحاته التي اعتقل إثرَها.
وفي تعبيره عن خطورة الوضع بالنسبة له وللمواطنين المعتقلين على خلفية تعبيرهم عن آرائهم وتوجيههم النقد للمؤسسة الدينية وخطابها في عمان، يقول الفاروق الصلتي في حديثه مع "مواطن": "العقبات والمخاوف لم تمنعني من مغادرة عمان بل من الرجوع إليها".
حسب المعلومات الواردة لــ “مواطن” كانت حملة الاعتقالات الجديدة شديدة، إذ قامت القوات الأمنية بمداهمات منازل المواطنين العمانيين الذين قامت باعتقالهم وتفتيش منازلهم، كما قامت السلطات باقتحام شقة ناشطةٍ عمانية نسوية تدعى مريم وتفتيشها دون أي مذكراتٍ أو تهمٍ رسمية علنية وجهتها بحق المعتقلين، بالإضافة إلى تحفظ السلطات عن الرد بخصوص مطالبات حقوقيين ومواطنين عمانيين للكشف عن أوضاعهم أو الرد على تقارير مواطن السابقة الخاصة بهذه القضية.