ليست كابل، إنها صنعاء الدولة اليمنية الحديثة التي تبشر بها “سلطات الأمر الواقع” التسمية الأممية للسلطات التابعة للحوثيين في صنعاء. بخطًى واثقة، تمضي سلطات الأمر الواقع في صنعاء في ترسيخ قيمها الأيديولوجية في الوعي الشعبي والتعليمي اليمني، لتنتقل بدورها في ضوء إستراتيجيتها لإعادة صياغة الهوية الدينية للمجتمع اليمني كخطوةٍ أولى لتثبيت مقعدها في الحكم الذي وصلته عقب انهيار العملية السياسية وفشل المرحلة الانتقالية عام 2015.
في هذه القصة، تروي مواطن جانباً آخر من قصة تحول العملية الأكاديمية في اليمن تحت سيطرة سلطات الأمر الواقع في صنعاء.
مشروع الهوية الإيمانية
في الذكرى الرابعة لانطلاق الحملة العسكرية السعودية في اليمن، السادس والعشرين من مارس 2019، حين دشنت سلطات الأمر الواقع مشروعها الخاص لبناء الدولة في معزلٍ عن بقية القوى السياسية المتصارعة. الهوية الإيمانية، عنوانٌ تكرر على أسماع اليمنيين في خطابات السلطة في صنعاء، بدؤوا يلمسون معانيه تدريجياً في التحولات الثقافية والاجتماعية التي تدفع لتحقيقها سلطات الأمر الواقع.
في الوثيقة التي أطلقت عليها سلطات الأمر الواقع “رؤية بناء الدولة اليمنية الحديثة”، يظهر مصطلح الهوية الإيمانية على رأس قائمة المبادئ العامة للرؤية بتعريفٍ يقول نصه: “الهوية الإيمانية بقيمها الأخلاقية والإنسانية للشعب اليمني الأساس الذي يقوم عليه بناء الدولة اليمنية الحديثة”. بناءً على هذه الرؤية التي أقرتها حكومة الإنقاذ لسلطات الأمر الواقع، بدأ مسلسل التحول الثقافي القسري في صنعاء في سلسلةٍ من الخطوات التنفيذية على المستوى المجتمعي والتعليمي والأكاديمي.
على الطريق ذاته كان للقطاع الأكاديمي وجامعة صنعاء على وجه الخصوص نصيبها من هذه التحولات التي شرعت فيها سلطات الأمر الواقع بفرض رؤاها الأخلاقية على مستوى المظهر الجامعي، الكادر الأكاديمي، المحتوى الدراسي، وأنشطة وفعاليات الجامعة.
مندوب الجماعة يحكم الجامعة
استحدثت سلطات الأمر الواقع منصباً في الهيكل الإداري لجامعة صنعاء تحت مسمى “مستشار رئيس الجامعة للشؤون الثقافية” إذ يحدد اجتماعٌ عقد ختام يناير مطلع العام 2021 طبيعة المهام المنوطة به في الجامعة، وقد نصت مقررات الاجتماع على ممارسته عملية الإشراف الثقافي على عملية توصيف المحتوى الدراسي للمراحل الجامعية المختلفة والإدارة الثقافية للأنشطة والفعاليات في الجامعة، يشمل ذلك الندوات والورش واحتفالات التخرج، جاعلةً المعيار الأساسي لتحقيق هذا الدور مرتبطاً بقيم ما تسميه رؤية بناء الدولة بالهوية الإيمانية.
مذبحةٌ أكاديمية
في خطوةٍ وصفها أكاديميون ضحايا لهذه القرارات بالمذبحة الأكاديمية، قامت سلطات الأمر الواقع بفصل 117 عضوا أكاديمياً في جامعة صنعاء وعشراتٌ في جامعاتٍ أخرى، بحسب بيان صادر عن نقابة أعضاء هيئة التدريس ومساعديهم في جامعة صنعاء، وذلك دون أن تتبع الإجراءات القانونية التي حددتها اللائحة التنفيذية لقانون الجامعات اليمنية. وقد أتيح المجال لاستبدال كوادر غير مؤهلة بالكوادر القديمة، كوادر لا تنطبق عليها الشروط والمعايير الأكاديمية التي نص عليها القانون.
وصف بعض الأكاديميين الذين فضلوا التحفظ على أسمائهم، ما حدث بأنه محاولة لإحلال بدلاء مؤدلجين يمكن أن يشكلوا نواة نخبةٍ أكاديمية تدفع لترسيخ مشروع جماعة الحوثيين السياسي الديني في العملية الأكاديمية.
مقررات دراسية جديدة
في العام 2017، أصدر المجلس الأعلى للجامعات في صنعاء قرارًا يفيد بإضافة مقرراتٍ سياسية جديدة تتعلق بالهوية الإسلامية والعربية والصراع الإسلامي العربي مع الاحتلال الإسرائيلي كمواد دراسية تفرض على طلبة الجامعات في مختلف التخصصات، رغم وجود مقررات تتعلق بالثقافة الإسلامية واللغة العربية. رغم ذلك تأخر تنفيذ القرار حتى العام 2018.
المقررات شملت رؤى وأفكار الحركة الدينية السياسية في صنعاء، جماعة أنصار الله الحوثيين، وأصبحت مقرراً دراسياً يدرسه الطلاب الجامعيون في الجامعات اليمنية في المناطق الخاضعة لسيطرة سلطات الأمر الواقع وتضاف إلى سجلهم الأكاديمي.
فصلٌ بين الجنسين
يسخر اليمنيون في وصف المشهد بأنه لا يختلف عما فعلته طالبان في أفغانستان قبل سنوات، فبعد أن ذابت الحدود بين الجنسين في السنوات السابقة إلى حدٍ ما شهدت فيه اليمن ارتفاعاً ملحوظاً في نسب التحاق الفتيات بالتعليم العام والتعليم الجامعي، الأمر الذي سمح بمشاركةٍ أوسع لهن في مظاهر الحياة العامة وإن بنسب متواضعة، يعود مسلسل عزل النساء عن الحياة الأكاديمية الجامعية بممارسة التمييز بحقها ووصم اختلاطها بالذكور بالعار والأمر المعيب.
طلابٌ وطالباتٌ جامعيات أفدن أيضاً عن تعرضهن لمضايقات من القوى الأمنية في الجامعات وطلاب ملتقى الجماعة في جامعة صنعاء وبقية الجامعات الحكومية، حيث يتدخل الطلاب التابعون للحركة والذين ينخرطون ضمن اتحادٍ طلابي يمثل جماعة أنصار الله الحوثيين في الجامعات ويقيمون الأنشطة المتعلقة بها، والتي أصبحت في الوقت نفسه تمثل شرطةً أخلاقية سرية في الجامعة.
المرأة.. شغل السلطة الشاغل
مع العلم بأنه لاتوجد نساء حاسرات الرأس لا يرتدين الحجاب في صنعاء، غير أن ارتداءهن ثياباً زاهية ملونة صار مؤذيا للذوق العام أو مخالفا لما يسمى بالهوية الإيمانية، تتعرض الطالبات منذ سنوات لمضايقات وتهديدات مسلحين يدعون أن لديهم توجيهات من رئاسة الجامعة بإلزامهن بارتداء ملابس سوداء والظهور بمظهر لا يتعارض مع ما يرونه مظهرا لائقا بالمرأة المسلمة.
كانت السلطات في البدء تنفي أن تكون تلك المضايقات بتوجيه منها وتصفها بأنها تصرفات فردية إلى أن تم تحديد مهام مستشار رئيس الجامعة للشؤون الثقافية فصارت تلك التصرفات واحدة من مهامه.
في السياق ذاته، تداول يمنيون تعميماً أصدرته جامعة العلوم والتكنولوجيا وفق توجيهات السلطات يلزم الفتيات بلبس ملابس وأحذية معينة، وتجنب استخدام العطور أو البخور والدخول للحرم الجامعي، فيما أصدر رئيس جامعة صنعاء المعين من قبل حكومة الإنقاذ التابع لسلطات الأمر الواقع تعميماً يفيد بمنع اشتراك الطلاب من الجنسين في مشاريع التخرج أو أي أنشطة جامعية أخرى، فيما قامت ببناء جدران داخل قاعات الدراسة في الجامعة تفصل بين الطلاب والطالبات وتحجب رؤيتهم لبعضهم داخل قاعات الدراسة.
لاحقاً وفي مطلع العام 2021، أصدر الملتقى الجامعي في جامعة صنعاء تعميماً يفيد بمنع إقامة احتفالات تخرجٍ مختلطة، وإقامتها منفصلةً للذكور والإناث كلٌ على حدة.
زنزانةٌ أكاديمية
واجه كثيرٌ من أعضاء الهيئة الأكاديمية ضغوط الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري على خلفية معارضتهم لسياسات الحوثيين والتغييرات التي يقومون بها في الجامعة أو انتقاد طريقة إدارتهم للبلاد، كان آخرها اختفاء عضو الهيئة الأكاديمية في كلية الهندسة بجامعة صنعاء، الدكتور أسامة الشبامي لتوجه أصابع الاتهام للحوثيين خلف اختفائه.
صرح محمد علي (اسمٌ مستعار) صديقٌ للدكتور الشبامي بأن السلطات أفادت بأن اعتقاله مجرد إجراءٍ روتينيٍ وسيفرج عنه لاحقاً. مضى حتى الآن أكثر من ثلاثة أشهرٍ على اختفاء الدكتور أسامه الشبامي منذ منتصف يونيو الماضي دون معرفة أسباب الاعتقال أو توجيه تهمٍ قضائيةٍ إليه.
تحت مزاعم تهمٍ تتعلق بما يسميه إعلام سلطات جماعة أنصار الله الحوثيين بالارتزاق والعمالة التي يتهم بها كل من يتفوه بما لا يرضي السلطات أو يمارس نشاطاً معارضاً لها، يتم اعتقال أكاديميين من جامعة صنعاء وجامعات أخرى، فيما يقبع الكثير منهم وراء القضبان منذ سنواتٍ دون تهمٍ قضائيةٍ موجهةٍ لهم أو محاكمات.
منذ سنوات لا يحصل الأكاديميون على أبسط مقومات الحياة، انقطاع المرتبات للسنة السادسة على التوالي وانقطاع الكهرباء، وأزمة المشتقات النفطية، وأزمة الغاز، وغلاء أسعار المواد الغذائية والأدوية وغياب الرعاية الصحية وسوء التغذية وانعدام الحريات الفكرية، كل هذا يواجهه الأكاديميون في اليمن رغم الجبايات والضرائب وفوارق المشتقات النفطية الكبيرة التي تتقاضاها السلطة في صنعاء.
دفعت المضايقات وتردي الأوضاع بالكثير من الأكاديميين للهجرة والانتقال للبلدان أخرى، ومن لم يستطيعوا مغادرة البلاد تركوا أعمالهم في الجامعات وامتهنوا مهناً حرفية بسيطة أو أصبحوا مشردين، حيث يتداول يمنيون قصصاً مختلفةً عنهم في وسائل التواصل الاجتماعي.