إقلع غماك يا تور وارفض تلف
إكسر تروس الساقية واشتم وتف
قال: بس خطوة كمان .. وخطوة كمان
يا اوصل نهاية السكة يا البير تجف
عجبي!
عبر هذه المقطع الغاضب والثائر من رباعيات الشاعر المصري صلاح جاهين ( 1930-1986) يفتتح الباحث الفنلندي صامولي شيلكه كتابه “حتى ينتهي النفط ..الهجرة والأحلام في ضواحي الخليج” الصادر في ترجمته العربية عن دار صفصافة بالقاهرة بترجمة عمرو خيري.
يهدي شيلكه المقيم في مصر منذ سنوات، والحاصل على الدكتوراه من جامعة أمستردام برسالة عن “موالد الأولياء في مصر” كتابه إلى العاملات والعمال في الغربة، خاصة العاملين في دول الخليج حيث تدور أحداث الكتاب، وهو دراسة أنثروبولوجية عن أوضاع العمال المغتربين في الخليج وتحديدًا دولة قطر.
يعتمد الباحث المتخصص في مجال الأنثروبولوجيا في بنائه للكتاب على تجربة شخصية عاشها مع صديقين مصريين سافرا للعمل في دولة قطر في نهايات العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، وعبر هذه الصداقة ينفتح شيلكه على عالم العمال المهاجرين في دول الخليج القادمين من مصر والسودان والهند ودول جنوب شرق آسيا.
“بصفتي صديقًا وضيفًا على اثنين من العمال، وبمعرفتي بالعامية المصرية، سرعان ما رحب بي العمال المصريون، وبعد ذلك تعرفت على بعض العمال الآخرين من نيبال، كانوا جميعًا غير راضين عن ظروفهم المعيشية وقوانين العمل، وفي مناسبات عدة أعربوا عن أملهم في مساهمتي في أن يعرف العالم بالظروف الصعبة التي يعيشون فيها”.
في القلب من مشهد العمال المهاجرين يقدم شيلكه نقدًا للسياسات الرأسمالية السائدة في معظم دول العالم بما تفرضه من تفاوت طبقي، وحروب، وصراعات، كما يرصد الآثار السلبية للعولمة بصورتها الاستهلاكية حيث تتضاءل وتتقلص حياة الإنسان في صورة جني النقود وادخارها وإنفاقها.
"لا أحب هذا المكان. كل شيء هنا يدور حول الفلوس. والمكان كله صحراء، لا وجود للون الأخضر. في نيبال كل شىء أخضر، وفي الربيع ترى الزهور كلها في الحقول والغابات الخضراء، وفي الأفق ترى الجبال البيضاء. نيبال بلد فقير كما تعرف، لهذا أنا هنا. أين أذهب غير هنا؟".
يصف شيلكه الحياة في دول الخليج بكونها تجسيدًا لمفهوم “الهايبر واقع” وهو شكل من أشكال محاكاة الحياة في صورة واقع فانتازي ممتلئ بالتناقضات والمبالغة في كل شيء “سعي دول الخليج لخلق فضاءات استعراضية للفُرجة لا يضاهيها شيء ربما كان منبعه أحلام نخب الخليج للسيطرة والهيمنة، ربما المولات والأبراج هي مجرد الحد الأقصى لخيال هذه النخب عما يمكن أن يفعلوا بثرواتهم المهولة”.
تعمل الشخصيات الرئيسية في الكتاب بوظيفة حارس أمن بأحد البنوك، يشير الباحث الفنلندي لعبثية هذه الوظيفة وعدم وجود أي جدوى لها سوى رغبة القطريين في محاكاة النموذج الغربي، فهم يأتون بهؤلاء العمال ويدفعون لهم أجورًا زهيدة من أجل “البرستيج” و”الفرجة” فقط، فالوضع في قطر آمن وعلى مدار سنوات طويلة لم يحدث أي خطر أو اعتداء يتطلب تواجد كل هذا الكم الحراس.
“عمل الحراس ممل للغاية، العمل في البنك على سبيل المثال يتمثّل في الوقوف عند مكتب الاستقبال، وعند مدخل الموظفين، وحراسة المدخل المفضي منطقة انتظار السيارات، والعمل بحجرة الكنترول حيث توجد الشاشات التي تعرض ما تسجله الكاميرات، ورغم أن العمل ليس شاقًّا كان الرجال يشعرون باستنفاد طاقتهم، كان توفيق يعاني من اضطرابات في النوم وفقدان للشهية”.
يشير شيلكه إلى أن العنصرية المتجذرة في المجتمعات الخليجية تجاه الوافدين خاصة أصحاب الوظائف المتدنية، أصبحت سمة مجتمعية سائدة تمتد جذورها حتى بين الوافدين ذاتهم، فرغم فقرهم وتشاركهم في ظروف العمل القاسية وتعرضهم للقهر والتهميش، إلا أنهم بدلًا من أن يتحدوا لمواجهة هذه المنظومة الظالمة، يمارسون هم أنفسهم قهرا وعنصرية ضد بعضهم بعضًا.
واصفًا كيف استقبله العمال المصريون بترحاب كبير لكونه شخصا أبيض وأوروبيا، في حين يتعاملون مع رفاقهم العمال من الجنسيات الأخرى بتعال وعنصرية، والأمر يتكرر بصورة عكسية، فكل تجمع عرقي يكتسب قدرًا من القوة يبدأ في ممارسة نفوذه على الفئة الأضعف.
بأسلوب ساخر ومحرض يوضح شيلكه مدى قوة العمالة الوافدة “المهدرة” ودورهم الأساسي في بناء المجتمعات الخليجية: “إذا اتخذ المهاجرون موقفا موحدًا فسوف يسيطرون على دولة قطر بأكملها في نصف ساعة دون إطلاق رصاصة واحدة، لكن لأن الكراهية المتبادلة بين تلك الجنسيات أكبر من كراهية أصحاب العمل ونظام الاستغلال القائم في دولة قطر فلن يحدث هذا”.
يختتم شيلكه كتابه موضحًا أن العمال الوافدين يعتقدون أنه بعد سنوات من العمل الشاق في الخليج سيتمكنون من العودة لوطنهم بمدخرات تكفيهم لعيش حياة مستقرة، لكنهم يجدون أنفسهم في مواجهة واقع أكثر تعقيدًا وقسوة مما تخيلوا.
اقرأ أيضا: قطر وجيرانها تاريخ حافل بـالأزمات
“ليس الفشل هو المشكلة، إذ إن الهجرة لو كانت فشلًا واضحًا، كان الناس ليكفوا عن الهجرة ويعودوا لبلادهم وينتهي الأمر، المشكلة الحقيقة في الهجرة للعمل هي النجاح الضئيل، أن يوفر المهاجر ما يكفي بالكاد ليستمر في العمل والحلم في حدود متواضعة، الأجور رديئة لكنها موجودة، وطالما استمر تدفقها فالعودة النهائية تعني العودة إلى اللاشيء”.
ويضيف: “العمال المهاجرون يعانون من الاغتراب، وفي الوقت نفسه ليست أمامهم خيارات عديدة متوفرة، كانت خياراتهم محدودة أصلًا لحظة تقدمهم إلى مكاتب العمالة في بلادهم. والآن لا يمكنهم اختيار البحث عن وظيفة أخرى بسبب نظام الكفالة، الاختيار المتاح أمامهم، هو إما العمل حتى انتهاء العقد، وإما العودة إلى الوطن خاسرين خاوي الوفاض”.
- صامولي شيلكه باحث أنثروبولوجيا وُلد في فنلندا عام 1972، ويعمل منذ عام 2009 باحثاً في مركز دراسات الشرق المعاصر في برلين. يعتمد شيلكه منهج “الأنثروبولوجيا التحاورية” الذي يسعى لتوليد النظريات حول سمات الحياة اليومية عن طريق الاستماع إلى الناس ونقل كلامهم بحيادية وتفسيره بالاستعانة بنظريات العلوم الاجتماعية المختلفة، من أجل فهم الواقع المُعاش.