لا شيء أقرب إلى الحقيقة من تصور حياة بلا حياة، بلا اعتبارات إنسانية، حياة تجد فيها المرأة اليمنية نفسها في مواجهة ركام هائل من الضغوط الثقافية والمادية والنفسية، ويتهاوى أمامها كل معنى للكرامة؛ فتلجأ إلى الانضمام لطوابير الغاز وطوابير المساعدات الإنسانية.
استهتار السلطات في الشمال والجنوب الذي أذاقهن طعم الذل والعوز، لم يبق لهن سببا للرغبة في البقاء، حيث لا تصمد معاني اللباقة التي نشأن عليها أمام تحشيدهن للحصول على الفتات من مقومات الحياة. تراق مياه وجوههن أمام أبواب المؤسسات التي تمدهن بالقليل القليل من الطعام، الذي ربما لن يجدن وسيلة لطهوه.
لا تهرب المرأة اليمنية إذا هرب الرجل
لم يكن إعداد المرأة اليمنية لتحمل أيام كهذه كافيًا؛ فنساء اليمن لسن ألمانيات ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ فالمرأة التي حرمت من التعليم ومن العمل خارج المنزل، ومن الاعتماد على نفسها والتي أريد لها أتكون تحت رحمة أمزجة أقربائها من الرجال، في ليلة وضحاها تصبح في مواجهة مسؤوليات أكبر من قدراتها، بعد أن جردت من كل الأسلحة التي من شأنها تحقيق حياة كريمة لها ولأولادها، تجد نفسها عزلاء بلا حماية.
ما يتركه انقطاع المرتبات من أثر في الرجال لا تسلم منه النساء، ينضم كثير منهم إلى جبهات القتال كوسيلة للهروب من الواقع المأساوي تاركين للنساء كل الهموم.
(نجاة) زوجة أحد المقاتلين في صفوف السلطة التي تحكم الشمال، كانت قد أرغمت على الذهاب مع زوجها إلى جبال صعدة حيث لا تجد التعليم الجيد لأبنائها.
أشعر كما لو أني أبلغ من العمر مائة عام، لم أشعر أنني امرأة منذ سبع سنوات، بل مجندة تجنيدًا إجباريًا، أسكن أنا وأطفالي في ثكنة عسكرية، هذا يكفي، متى سأموت!!"
تقول نجاة في حديثها لــ (مواطن) بأنها تتمنى لو أنها تلقت تعليمًا متوسطًا على الأقل، لكانت هي من تعطي الدروس لأطفالها، فهناك في جبال صعدة حيث الحياة البدائية الصعبة جدًا، والأكثر مرارة من ذلك أنها تضطر لإعداد الطعام لعشرات المقاتلين يوميًا، ولو أنها لا تفعل ذلك لما استطاعت إطعام أطفالها.
تحت ضغط سنوات من الفقر والقهر والاحتياج، تقول نجاة ذات الثلاثين عاما، إنها تشعر كما لو أنها تبلغ من العمر مائة عام، وتردد كثيرًا “لم أشعر أنني امرأة منذ سبع سنوات، بل مجندة تجنيدًا إجباريًا، أسكن أنا وأطفالي في ثكنة عسكرية” وتقول “هذا يكفي، متى سأموت!!”
في قانون الحروب، الأضعف يحمل الأثقال
يرى العالم الدمار الذي تسببه الحروب على مستوى الكيانات الكبرى، دمار المدن، انهيار الاقتصاد، موت الآلاف، نزوح الملايين، انتشار الأوبئة، الصورة العامة موحشة، لكن لا أحد يكترث لما يحدث على مستوى الأسرة، ولا أحد يعنيه الألم النفسي للفرد الواحد، تواجه المرأة عنفًا أكبر جراء المتاعب النفسية التي تصيب الرجل، إحداهن تسرد قصتها لــ (مواطن) في لقائها معها.
هاجر زوجة أحد المقاتلين، وأم لطفلين، وطبيبة مختبرات، منذ سبع سنوات تخلى زوجها عن مسؤولياته كعائل للأسرة، تعمل هاجر في إحدى المختبرات الطبية لأجل إعالة أطفالها، يعود زوجها من معاركه كل شهرين ليجبرها أن تعطيه مبلغًا من المال تستقطعه من راتبها في كل مرة.
في كل مرة يقوم الزوج بابتزاز زوجته ماديا ينتهي جدالهم باعتداء جسدي
يقول زوجها إن عليها أن تدفع له مبلغا لأنه لا يمنعها من الذهاب إلى العمل خارج المنزل، إن والد هاجر لن يقبل انفصالها عن زوجها وعودتها إليهم إلا إذا تركت أطفالها لمصيرهم المجهول، من المؤكد أنها إذا انفصلت فلن يعيش أطفالها كما تعيش الأسر.
في كل مرة يقوم الزوج بابتزاز زوجته ينتهي جدالهم باعتداء جسدي، تقول هاجر إن زوجها بعد أن عاد من معركته الأخيرة كان قد فقد إحدى رجليه، يردد الناس “إنه عقاب الله، تقول هاجر” إنهم لا يعرفون أن العبء قد صار أضعافًا”
ليست أرواحًا شريرة، إنها فقط مصابة بفقر الدم
في الحروب يكون غياب الرعاية الصحية وسوء التغذية هو سيد الموقف، تعاني الكثير من اليمنيات من أمراض سوء التغذية وفقر الدم جراء المجاعة التي تكتسح البلاد وفق تقارير الأمم المتحدة، والأمر يزداد سوءً عندما تضع المرأة مولودًا في هذه الظروف، لتتوالى بعد ذلك النكبات الصحية، نزيف الولادة فقر الدم، ثم اكتئاب وهلوسة، وللقارئ أن يتخيل ما تفعله الأمراض النفسية في مجتمع يؤمن بالخرافة.
أميرة امرأة حديثة الولادة جاءت مع زوجها من إحدى القرى النائية، لتزور مشعوذًا في صنعاء قد أخبرها بأنها مصابة بالأرواح الشريرة، وأن عليها أن تزوره كل أسبوع ليجد حلولا لمشكلتها، يبتزها في كل مرة لتدفع له مبالغ قد تكفيها وأبناءها لمدة عام كامل!
يبدو الأمر كما لو أن أميرة قد اختارت بمحض إرادتها طريقة العلاج تلك، إنها الطريقة التي اعتاد عليها مجتمع لا يجيد ربط الأسباب بالنتائج، ولا يمتلك بدهيات التفكير الرياضي المتسلسل، تلك الثقافة المورثة جعلت البحث عن الحلول عشوائيا وغير منطقي.
طاحونة الحرب تسحق النازحات
كثيرة هي القصص التي ترويها النازحات تبدو لمن يسمعها فيلمًا تراجيديًا لا يحدث ولن يحدث إلا في خيال كاتب كئيب سوداوي، الأمر هنا يختلف تمامًا، هذه التراجيديا هي الواقع، هي المعنى الذي يكتنف الحياة. كل لحظة سعادة وحياة كريمة تبدو خارج المنطق، الحرب هنا قد شكلت المنطق حسب هواها.
تقول نازحة من الحديدة الكثير من النازحات الفقيرات يتعرضن للتحرش من قبل ملاك البيوت وأصحاب الأموال، وتلجأ البعض منهن لبيع أجسادهن، لأنهن لا يملكن بضاعة غيرها!
إن العالم يصاب بالخرس عندما يتعلق الأمر بالنساء القادمات من الحديدة!
قصص الاستغلال الجنسي لا تروى إلا بأسماء مستعارة، كان ذلك هو الشرط الذي وضعته النازحة لكي تروي قصتها لمواطن، بالرغم من أنها فقدت القدرة على الابتسام منذ زمن.
تقول ابتسام إنه ثمة سببان لسوء الحالة التي تعيشها، الأول هو لونها الداكن، الثاني أنها نازحة فقيرة.
في طريقها إلى صنعاء بعد أن فقدت الأمل في مسقط رأسها، وفقدت شقيقها الوحيد في إحدى المعارك العبثية، استقرت هي ووالداها وأختها الكبرى في مكان لا ترغب في ذكر اسمه، وعملت في تنظيف مركز صحي، وكانت ترى أن عودتها إلى البيت بعد انتهاء دوامها كل يوم سيكلفها مبلغًا لن تستطيع دفعه، فاضطرت إلى المبيت في المركز ذاته، الذي تعمل فيه، تعرضت للتحرش من الطبيب نفسه، ولم تخبر أحدًا بذلك لأن ذلك سيفقدها مصدر دخلها الوحيد، كانت تظن أنها قادرة على رفض ما يطلبه منها الطبيب.
ابتسام ذات السادسة عشرة تقول إنها لا تتذكر المرة الأولى التي مارست فيها الجنس مع الطبيب، ولا تستطيع تذكر السبب الذي جعلها بعد ذلك تسلم جسدها طوعًا له، إلا أن مستواها المعيشي تحسن بعد ذلك.
كثيرًا ما تشعر ابتسام بالذنب بسبب فعلتها تلك، لذلك فقد فكرت كثيرًا بإصلاح غلطتها فروت مشكلتها لطبيب آخر، توسلت إليه أن يحل مشكلتها، لأنها ستتزوج عما قريب.
الآخر ليس أقل انتهازية من الأول، كان رده عليها “الجنس الآن مقابل البكارة غدا”، هذا الطبيب ذاته، هو من يدعوها بــ (الخادمة) إشارة إلى لونها الأسود. اليوم تستقر ابتسام وعائلتها في صنعاء ووضعها لا يقل سوءً.
حيثما يوجد الفقر توجد تجارة الجنس، المشكلة ليست مقتصرة على نازحات الحديدة، إلا أن الحرب تلجئ النساء اللاتي لا ينتمين لقبيلة إلى امتهان أجسادهن، فيسهل الوصول إليهن أكثر من غيرهن، واستغلالهن فعليا حينما يغيب القانون النافذ، فمن يملك القوة والنفوذ هو من يعزف على وتر القانون، القانون هنا “لن يسمع صوتك إن لم تنتم إلى قبيلة أو تمتلك مالا”.
اقرأ أيضا: تحت ظلال الحرب.. ماذا لو كنت امرأة يمنية؟