تفاجأ العالم أجمع، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، خلال الأيام الماضية، بشاب لبناني اسمه “نشأت مجد النور”، يعلن نفسه نبيًا، عبر مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، دعا الناس خلاله لدين جديد، أطلق عليه مسمى “الديانة النورانية”، وهدد البلاد التي تعارضه بـ”زلازل” بصورة مستمرة؛ خاصة أنه لقى مساندة من مواطنته خبيرة الفلك الشهيرة، كارمن شماس، التي تساعده على الترويج لمزاعمه.
لكن الشاب لم يصمد كثيرا، وتراجع عن ادعائه بعد الهجوم عليه من قبل رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وتقديم دار الإفتاء اللبنانية، بلاغا للنيابة العامة ضده، ولم يكتف بذلك بل اعتذر أيضا للدار عما بدر منه.
وعلى الرغم من ذلك، وبعد أيام قليلة فقط، ألقت أجهزة الأمن السعودية، على شخص ادعى النبوة في المملكة، خلال فيديو جرى تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، هدد فيه المارة بسلاح أبيض، كما تضمن ألفاظا نابية وعبارات خارجة.
وقبل الواقعتين المذكورتين، شهدت منطقة الشرق الأوسط والجزيرة العربية، خروج العديد من الرجال والنساء يزعمون تلقي الوحي والنبوة، منهم لقيط بن مالك الأزدي، في عمان، الذي ادعى النبوة بعد وفاة النبي محمد في عهد خلافة أبي بكر الصديق.
لقيط بن مالك الأزدي يعلن نفسه نبيًا
في عهد النبي محمد كانت العلاقات بين المدينة وعُمان جيدة، يدل على ذلك ما رواه المؤلف العماني عامر المرهوبي، في مؤلفه الصادر عن وزارة التراث والثقافة العمانية بعنوان “عمان قبل وبعد الإسلام”، أن أبا بكر الصديق عندما استقبل وفدًا من أهلها بعد وفاة الرسول، رحب بهم أمام المهاجرين والأنصار، قائلا: “يا أهل عُمان، إنكم أسلمتم طوعًا، ولم يطأ رسول الله ساحتكم بخف ولا حافر، ولا جشمتموه ما جشمه غيركم من العرب بفرقة ولا تشتت شمل، فجمع الله شملكم على خير، ثم بعث إليكم عمرو بن العاص بلا جيش ولا سلاح فأجبتموه إذ دعاكم على بعد داركم، وأطعتموه إذ أمركم على كثرة عددكم”.
وتابع أبو بكر – وفقًا لما نقله “المرهوبي”- حديثه مع وفد العمانيين بقوله: “فأي فضل أبر من فضلكم وأي فعل أشرف من فعلكم؟ كفاكم قول رسول الله شرفًا إلى يوم الميعاد، ثم أقام فيكم عمرو ما أقام مكرمًا، ورحل عنكم إذ رحل مسلمًا، وقد من الله عليكم بإسلام عبد وجيفر ابني الجلندي (ملوك عمان آنذاك)، وأعزكم الله به وأعزه بكم، فأظهرتم ما يضاعف فضلكم، وقمتم مقامًا حمدناكم فيه ومحصتم بالنصيحة وشاركتم بالنفس والمال، فيثبت الله ألسنتكم ويهدي قلوبكم”، لكن لم ترد هذه الرواية إلا في مؤلفات العمانيين، دون غيرها من كتب التاريخ.
لقيط بن مالك هو أحد شيوخ الأزد، من قبيلة معروفة، وقد عارض قبول أتباعه التعاليم الجديدة التي أتى بها عمرو بن العاص، عندما بعثه النبي إلى أهل عمان.
وخلال فترة خلافة “الصديق”، ظلت العلاقات بين المدينة وعمان كما كانت أيام النبي محمد، باستثناء حادثة واحدة، يقول عنها عامر المرهوبي: “كانت وما تزال محل جدل، وهي معركة دبا (بلدة قريبة من صحار)، شمال غربي مسقط العمانية”، مشيرًا إلى أنه “لدينا رواية (ابن الأثير الجزري) عن معركة عنيفة دارت في هذه البلدة بين المسلمين بقيادة الأميرين عبد وجيفر، والمرتدين، الذين ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي، في عهد أبي بكر بقيادة شخص يدعى (ذا التاج لقيط بن مالك الأزدي)، وهو الذي نادى بنفسه نبيًا”.
في السياق ذاته، يشير سامي المغلوث، في كتابه “أطلس حروب الردة: في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق”، إلى أن “أهل عمان كانوا قد استجابوا لدعوة الإسلام، وبعث إليهم النبي محمد، عمرو بن العاص، وأحد رجالاتها مصدقًا، هو حذيفة بن محصن الغلفاني (البارقي)، فجمع الصدقات وبعثها إلى المدينة، ثم بعد وفاة النبي ارتد أهلها، فدعاهم حذيفة إلى الرجوع، فأبوا وأسمعوه شتمًا لرسول الله وأبي بكر، وكان الذي تولى الردة في هذه البلاد رجل يقال له (ذو التاج) لقيط بن مالك الأزدي، وكان يسمى في الجاهلية (الجُلندي)، ملك عمان، فادعى النبوة، وتبعه الجهلة من أهل عمان”.
ويوضح عامر المرهوبي، أن لقيط بن مالك كان أحد شيوخ الأزد، من قبيلة معروفة، وقد عارض قبول أتباعه التعاليم الجديدة التي أتى بها عمرو بن العاص، عندما بعثه النبي إلى أهل عمان.
وفي الوقت ذاته، أشارت رواية إلى أن أهل عمان تذمروا من الزكاة التي فرضت عليهم، وكان ذلك دافعًا إلى ردتهم، وفقا لـ”الطبري”، في مؤلفه “تاريخ الأمم والملوك”؛ إذ يقول: “قال قرة بن هبيرة (على ما يبدو أنه رجل من أهل عمان)، لعمرو بن العاص: (يا هذا إن العرب لا تطيب لكم نفسًا بالإتاوة، فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم)”.
ما قصة لقيط بن مالك الأزدي؟
وقصة لقيط بن مالك الأزدي هذا، تحدث عنها إسماعيل بن كثير في الجزء السادس من مؤلفه الأشهر “البداية والنهاية”، قائلا: “أما أهل عمان فنبغ فيهم رجل يقال له ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي، وكان يسمى في الجاهلية (الجلندي)، فادعى النبوة، وقهر جيفر وعبادًا، وألجأهما إلى أطرافها (أطراف عمان) من نواحي الجبال والبحر، فبعث جيفر إلى أبي بكر الصديق فأخبره الخبر، فبعث إليه بأميرين وهما حذيفة بن محصن الحميري، وعرفجة البارقي من الأزد”.
هذه القصة رواها أيضًا المؤلف صبحي سليمان في كتابه المعنون بـ”سلطنة عمان بين الحاضر والماضي”، مؤكدًا: “تبعه بعض أهل عمان، وتغلب على جيفر وعبد ابني الجلندي، وأرسل جيفر إلى أبي بكر ليخبره بما كان، فبعث الأخير إليهم بعثين بقيادة حذيفة بن محصن وعرفجة بن هرثمة لقتال المرتدين في عمان ومهرة (شرق اليمن)، على أن يبتدئا بعمان، كما أمر عكرمة بن أبي جهل أن يلحق بهما مع بعثه”.
دارت معركة طاحنة بين الفريقين كادت أن تنتهي بهزيمة المسلمين، لولا وصول مدد لهم من بني عبد القيس وناجية في الوقت المناسب
وعندما علم “الأزدي” بمجيء جيش المسلمين، خرج في جموعه فعسكر بمكان يقال له (دبا)، كانت سوق تلك البلاد، ويؤكد ابن كثير أنه “جعل الذراري والأموال وراء ظهورهم؛ ليكون أقوى لحربهم، واجتمع جيفر وعباد بمكان يقال له صحار فعسكرا به، وبعثا إلى أمراء الصديق فقدموا على المسلمين فتقابل الجيشان هناك، وتقاتلوا قتالا شديدا، وابتلي المسلمين وكادوا أن يولوا، فمن الله بكرمه ولطفه أن بعث إليهم مددًا في الساعة الراهنة من بني ناجية وعبد القيس (من قبائل البحرين المجاورة)، فلما وصلوا إليهم كان الفتح والنصر، فولى المشركون مدبرين، وركب المسلمون ظهورهم فقتلوا منهم عشرة آلاف، وسبوا الذراري، وأخذوا الأموال والسوق بحذافيرها، وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر في المدينة مع أحد الأمراء”.
ويشير “سليمان” إلى أنه دارت معركة طاحنة بين الفريقين كادت أن تنتهي بهزيمة المسلمين، لولا وصول مدد لهم من بني عبد القيس وناجية في الوقت المناسب”، وقتل المسلمون من عدوهم نحو عشرة آلاف، وقد غنموا الكثير في تلك المعركة.
القضاء على المرتدين في عمان
وفي مؤلفه المعنون بـ”حروب الردة (دراسة تحليلية)”، اتفق أحمد سعد العش، مع الطرح السابق، مؤكدًا: “وكاد النصر أن يكون حليف المرتدين من أهل عمان، وصبر المسلمون في قتالهم، فأمدهم الله تعالى بمدد من المسلمين في اللحظات الحرجة، فأقبل عليهم مدد عظيم من بني عبد القيس وغيرهم من قبائل البحرين، حتى حمي ظهرهم وشد أزرهم وضاعف قوتهم، ودفعهم يهاجمون لقيطًا ومن معه، ويقتلون منهم عشرة آلاف، ويسبون نساءهم وأبناءهم”، مشيرا إلى أنه “بهذا النصر تم القضاء على المرتدين من أهل عمان”.
ويكشف الطبري في كتابه المعروف بـ”تاريخ الأمم والملوك”، ما حدث بعد ذلك، قائلا: “ورأى عكرمة وحذيفة أن يقيم الأخير بعمان حتى يوطئ الأمور، ويسكن الناس، وكان الخمس ثمانمائة رأس، وغنموا السوق بحذافيرها، فسار عرفجة إلى أبي بكر بخمس السبي والغنائم، وأقام حذيفة لتسكين الناس، ودعا القبائل حول عمان إلى سكون (الإقامة) ما أفاء الله على المسلمين”.
ونقل المؤلف الكبير ما أنشده الشاعر العماني عباد الناجي، في هذه الواقعة:
لعمري لقد لاقى لقيط بن مالك ** من الشر ما أخزى وجوه الثعالب
وبادى أبا بكر ومن هل فارتمى ** خليجان من تياره المتراكب
ولم تنهه الأولى ولم ينكأ العدا ** فألوت عليه خيله بالجنائب
ويوضح عبد العزيز الحميدي، في كتابه المعنون بـ”الخلفاء الراشدون مواقف وعبر”، أن “أدعياء النبوة في ذلك الزمن كان لهم رواج؛ لما رأى زعماء القبائل من سرعة إقبال العرب على أتباع النبي محمد”، لافتًا إلى الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك: “وهكذا رأينا أنه قد برز في كل قبيلة أو في مجموع القبائل رجل من طلاب الجاه والشهرة، فجمع الناس من حوله وأعلن انفراده بالمسؤولية، وشق عصا الطاعة، فمنهم من تذرع للوصول إلى مقاصده بادعاء النبوة، ومنهم من اكتفى بما ورثه في الجاهلية من شرف وسيادة”.