في فيديو لا تتجاوز مدته نصف دقيقة، يسأله مراسل إحدى القنوات أثناء حضوره للتكريم بمهرجان الأقصر السينمائي: كلمنا عن انطباعك حوالين المهرجان؟، فيجيبه: أنا لسه جاي حالا فمعنديش انطباع. يتابع المراسل: من وجهة نظرك شايف المهرجان أهميته ايه بالنسبة لإفريقيا..؟ ليقاطعه الفنان: ده كلام كبير قوي، مبحبش أدخل في مواضيع أكبر من دماغي، أنا إنسان تافه، فمتحملنيش أكتر من كدة، أنا عزموني قالولي تعالي هاتتكرم، فجيت اتكرم…
دفعتني طرافة الفيديو مع إعجابي بالفنان عمرو عبد الجليل إلى تتبع فيديوهاته ثم لقاءاته الحوارية، لاكتشف أن ما ارتجله أمام المراسل لم يكن من باب خفة الدم فقط أو امتدادا لما يجسده في أعماله السينمائية والتلفزيونية، بل هو موقف من الحياة، موقف تستطيع أن تطلق عليه موقف الـ”ولا حاجة” مع ذلك فهو مفرط في البلاغة، حتى كأنه يقول “كل حاجة”.
في أحد البرامج الحوارية يسأله المذيع عن كيفية حصوله على أدواره، يرد عمرو: أنا مش فاهم هي الدنيا ماشية ازاي ومحبش افهم.
ــ في العيد اللي فات كان فيه معركة تكسير عظام على مين نمرة واحد ومين أعلى إيرادات، أنت شايف المعركة دي ازاي: محضرتهاش والله.. انا كان ليا فيلم في العيد اللي فات بس معتركتش في المعركة.
ــ سبب عدم توافر مواهب بحجم ما كان قديما في الأدوار الثانية والثالثة: أنا مبعرفش أرد على الأسئلة دي؛ لأني مبعرفش أنظر.
ــ المذيع: مرة استضافوني في “الستات ميعرفوش يكدبه”، فمقدمة البرنامج قالت لي: أنت عامل زي الميه، لا لون ولا طعم ولا ريحة، أنا اتضايقت…
عمرو: أنا والله لو حد قال لي كدة اتبسط جدا، المذيع: حتى في أدوارك؟!، عمرو: طبعا، ياريت. المذيع: لا لون ولا طعم ولا ريحة!، عبد الجليل: بس متنفعش تعيش من غيرها.
ــ نزلت الميدان في 25 يناير… في 30 يونيو؟
لا، لأن ماليش رأي أقوله، ماليش موقف، حيث ان انا مش فاهم حاجة.
ما يميز عمرو عن غيره ممن يقفون عند نفس العتبة، أن فناننا لا يتكلف هذا الموقف بأي صورة، لا يدعي أو يتظاهر بأي درجة، موقف الـ”ولا حاجة” طبيعة لديه (حيلة لاواعية) مثلما هو خيار، ورغم أنه قد يبدو لأول وهلة موقفا سلبيا، لكن إذا تجاوزت الانطباع الأول ستدركه على خلاف ذلك بالكلية.
في بلد ديدنه الطغيان من حيث هو وصمة مجتمعية قبل أن يكون نظاما سياسيا، تصبح ذاتية الفرد مهددة طوال الوقت بفعل ثقافة تسعى دائما لمحو "الفردية"، مستهدفة أن يمسي المرء آلة بين آلات، لا يحس معنى لاستقلال أو إرادة أو حرية، ويكرس ذلك إلى حالة من الجمود، لا يكاد المجتمع يبدر عنه ما يوحي بتململه منها حتى يسارع إلى الارتكان إليها، نافرا من أي تغيير.
تفسح تلك الحالة مساحة أوسع لنماء الطبيعة الوحشية داخلنا لتتغلب بسهولة على الجانب الإنساني، أمر يمكن أن نلمسه في كل ما يعرض لنا من نقاشات ـ بفضاء التواصل الاجتماعي مثلا ـ حول قضايا لا تمس حتى مصالحنا المباشرة ولا تتعلق بمعتقداتنا وطريقة معالجتنا العنيفة لها.
هذه الصورة تجعل من حيلة عبد الجليل اللاواعية (موقفه) هي الأبلغ في مواجهة قمع الثقافة، لينجو بإنسانيته متمثلة في “فردية” محاصرة بغابة من المحرمات والممنوعات وحواجز من النمطية تطال حتى أبسط الأمور، مثلا حين يسأله المراسل أسئلة بليدة، غرضها تحريض عمرو على تقديم إجابات مستهلكة.
أبلغ من رصد نزوع الثقافة ـ بصفة عامة ـ إلى القمع هو عالم النفس الشهير كارل يونج، في استعراضه لمفهوم القناع persona، وتستطيع التعرف عليه في سلوك كل منا حين نتخلى عن مكونات بذواتنا، استجابة لثقافتنا وإرضاءً لمجتمعنا، ساعيين إلى تشكيل صورة مثالية عن ذواتنا نرتضيها لأنفسنا ويرضاها محيطنا، أما المضامين “الفكر ـ عاطفية”، التي لا ننجح في استدماجها داخل الـpersona فيتم إهمالها ونسيانها أو إنكارها وكبتها رغبة في القبول المجتمعي.
مفهوم الـ persona مأخوذ من القناع في العمل المسرحي، يضعه الممثل كي يتقمص دورا مقتبسا من الحياة الجماعية مستبعدا ذاته ليجسد الشخصية المطلوبة، وفي الحياة الواقعية تتمدد مهمة القناع ـ تحقيقا للتوازن ـ لتشمل إخفاء المكون المجتمعي داخل الذات وإيهامها أن ذلك المكون ينتمي لفرديّتها.
القناع هو عملية تضليل محكمة توهم المرء أن المكون النفسي المجتمعي لديه “فردي” والعكس، أن ما يبدو “فردي” ربما كان في العمق مجتمعيا، لكن مهما بلغ إحكام القناع فإن الذات اللا واعية “الفردية” تنزع إلى مقاومة القمع والتعبير عن نفسها، حتى ولو في أبسط صورة، مثلما يكون في الأحلام.
في حالة عبد الجليل فإن ذاته اللاوعية، كانت أكثر جذرية في لجوئها إلى تلك الحيلة لمقاومة قهر الثقافة وطغيان المجتمع.
موقف الـ”ولا حاجة” يعطل عمل القناع، أو على الأقل يجعله عند الحد الأدنى، فالذات في حِل ـ بما أنها “مالهاش رأي تقوله، مالهاش موقف”ـ أن تتكلف آراء أو تستبطن أنماط تمليها الثقافة ويشجعها المجتمع، لتُحيد نزوع الثقافة إلى القمع وشغف المجتمع في التسلط، بهذا تنجو الذات من طغيانهما، محافظة على إنسانيتها، دون خسائر كبيرة.
سبب غياب الخسائر أن “الفردية” في موقف الـ”ولا حاجة” لا تمارس الكبت بصورة قوية، كذلك لا تدخل في صراع مع ثقافة ومجتمع قمعيين من أجل تحقيق فرديتها، بينما تلحق الخسائر ذات تكبت ميولها ورغباتها وتلجم آرائها ونزوعها لصالح صورة مثالية ينبغي عليه تمثلها، أو تدخل في صراع مع مجتمعها في سبيل تحقيق فرديتها، وكلما كانت الشخصية متفردة اتسعت الفروق بينها وغيرها، لتتسع الشقة مع المجتمع وبالتبعية تزداد فداحة الكبت أو حدة الصراع.
مع هذا ينبغي التنبه إلى أن “الفردية” لا تعادي المجتمع، فالتفرد يعني فيما يعنيه “القيام بالمهام الجماعية للفرد بصورة جيدة”، وعلى نحو أكثر إبداعا، إنما تتعارض “الفردية” مع ثقافة تنزع إلى قمع الذات وكبت تميزها.
يجعلنا التفرد على ما نحن عليه حقا وليس شخوصا آخرين، مستهدفا تحرير الذات من الصور الزائفة للقناع. تحرضك “الفردية” على التخلص من ثقل غامض تستشعره داخلك أو نحو الآخرين بحكم انتظام سلوكك أو سلوكهم وتفكيرك أو تفكيرهم داخل قوالب نمطية معادية للتفرد بما هو اختلاف وتمايز، مشجعة على التكلف والادعاء والمداراة من أجل تحصيل القبول المجتمعي، ولا يمتد الأثر السلبي بذلك إلى فرادة المرء وقدرته على الإبداع، بل يضم إليه أيضا الصحة النفسية.
وفق تلك الصورة تمسي حيلة عمرو اللاواعية هي المثلى، ليحتفظ بفرديته أو إنسانيته في منأى عن قمع الثقافة وطغيان المجتمع، محققا لذاته التوازن والاستقرار النفسي، مع اعتبار أن الـ”ولا حاجة” ـ في حالة عبد الجليل ـ ليس خيارا متكلفا بقدر ما هو طبيعة، ولا يعبر ذلك ـ كما قد يظن البعض ـ عن بلادة، فمن غير الجائز وصف ذات موهوبة، لممثل هو الأكثر قدرة على الارتجال بين أبناء مهنته؛ بصفة كهذه، أنه صاحب موقف ـ بتعبير نيتشه ـ سطحي من شدة عمقه، ليكون عبد الجليل الأكثر جذرية والأبلغ في مواجهة قهر الثقافة واعتساف المجتمع بموقف الـ”ولا حاجة”.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.