بقدر ما طرحت الحرب الروسية الأوكرانية من أسئلة سياسية واقتصادية، بقدر ما طرحت من تساؤلات أخلاقية عن مفهوم العنف وتمثلاته المختلفة في العصر الحديث، ليس فقط على المستوى العسكري، ولكن على مستوى التضامن الإنساني، والخطاب السياسي، والتغطية الإعلامية، والقوانين المنظمة للتعامل مع اللاجئين وضحايا الحروب.
من عنف الفرد إلى عنف الدولة، ومن القرون الوسطى إلى العصر الحديث، يتتبع الكاتب والمؤرخ الألماني يورج بابروفسكي في كتابه “العنف والإنسان” نشأة وتطور مفهوم وممارسات العنف الملازمة لرحلة الإنسان على كوكب الأرض، محاولًا فهم كيف يؤثر العنف على البشر ويعيد تشكيل حيواتهم.
الكتاب الصادر في ترجمته العربية عن دار صفصافة بالقاهرة، لا يهدف لإدانة فئة بعينها، أو مرحلة زمنية محددة بتهمة ممارسة العنف، كذلك لا يعيد ترويج الإجابات المكررة عن دوافع العنف وممارسة الإنسان له، بقدر يسلط الضوء على وجوه العنف المتعددة التي نتورط في ممارستها بوعي أو دون وعي.
يناقش الكتاب علاقة الإنسان بالعنف الممتدة عبر التاريخ، وفي مختلف الثقافات والمجتمعات، يقول بابروفسكي في مقدمة كتابه: “ينتشر العنف في كل مكان، يتضارب الناس ويتقاتلون مبررين ذلك بدافع الطاعة، أو لكونهم مجبرين، أو بحكم العادة، أو بدافع السعادة، لقد قضيت سنوات كثيرة من حياتي أبحث عن إجابة سؤال ما يفعله الناس في العنف؟ وكيف يشكل العنف الناس؟
ويضيف: “يغير العنف كل شيء، ومن يتعرض له يصبح شخصًا آخر، معايشة العنف شأنها شأن رحلة إلى عالم جديد؛ حيث تسود قواعد أخرى ويعيش أشخاص آخرون، ما أن تطأ قدمك موطن العنف حتى تعرف أنه لم يعد أي شيء كما كان، وقد كتب الجندي ويلي ريس يقول إنه لم يستطع مطلقًا نسيان وحشية العنف، والتي كان شاهدًا عليها، فقد نظر إلى قاع الروح الإنسانية ولمس فظائع الحرب، ويلي ريس، المهووس بالكتب، مرهف الحس، أصبح شخصًا آخر، منذ أن رأى الجحيم وقتل نساءً وأطفالًا، وأمطر جنود الأعداء بوابل من رصاص سلاحه الآلي”.
يغير العنف كل شيء، ومن يتعرض له يصبح شخصا آخر.
عنف غير مرئي
كانت الحرب العالمية الثانية وتبعاتها درسًا للدول والمجتمعات الغربية، استطاعت من بعدها تقييد الممارسات السلطوية العنيفة بقوانين تحمي الأفراد من توغل الدولة وأجهزتها الأمنية، لكن في ظل التطور التكنولوجي المتسارع في السنوات الماضية وتغير شكل الحياة على كافة المستويات، ظهرت أنواع جديدة من العنف، لم تعد تمارسه الدولة فقط، وأصبح متاحًا للشركات الكبرى ومراكز المعلومات والأفراد كذلك.
توغلت الأشكال الجديدة من العنف في حياتنا بصورة مخيفة، انتشرت عبر الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر، تسلقت الجدران والحوائط وأصبحت داخل بيوتنا. تمارس علينا ونمارسها طوال الوقت بوعي أو دون وعي، عنفًا غير مرئي مختلفًا عن صور العنف التقليدي التي نعرفها، ويؤثر على مشاعرنا وأفعالنا ويسبب أشكالاً مختلفة تسبب إيذاءً النفسي والجسدي.
في الفصل الثالث من الكتاب بعنوان “إزالة الحدود.. الحداثة والعنف” يتساءل بابروفسكي: هل الإنسان المعاصر أقل عنفًا من إنسان العصور الوسطى، وإلى أي مدى ساهمت الحياة المدنية الحديثة في ترويض العنف البشري أم العكس؟ هل الإنسان المتحضر أصبح أكثر شراهة لممارسة العنف، لكن عبر صور جديدة ومختلفة عن صور العنف المعتادة؟
هل الإنسان المتحضر أصبح أكثر شراهة لممارسة العنف، لكن عبر صور جديدة ومختلفة عن صور العنف المعتادة؟
أسطورة التحضر
يوضح المؤرخ الألماني أن العنف لم يختفِ، بل أصبح من السمات الأساسية القرن العشرين “لم يسبق أن تعرض ناس للقتل والتعذيب بسبب نزاعات حربية، مثلما كان الحال في القرن المنصرم” مشيرًا إلى أن المدنية والتحضر لم يوقفا النخب الأوروبية عن ممارسة العنف، فقط تم نقل العنف، لأقاليم وبلاد بعيدة.
ويضيف: “عندما أخضعت القوات الفرنسية الجزائر لسيطرتها في منتصف القرن التاسع عشر، أُخمدت المقاومة بإرهاب الجزائريين بلا رحمة؛ حيث قطعوا رؤوس سكان القرى ودمروا منازلهم، فأصبحت بعض المناطق خالية من السكان، بعد أن مر بها الفرنسيون”.
يشير بابروفسكي إلى أن حق الدولة في احتكار ممارسة العنف بمثابة سلاح يمكن أن يستعين به الديكتاتوريون والحكام المستبدون والطغاة ضد شعوبهم أيضًا؛ فالدولة الحديثة لا تمتلك فقط وسائل مراقبة مواطنيها، والتحكم في كل خطوة يخطونها؛ وإنما يمكن للدولة أيضًا أن تزج بالمواطنين في السجون أو تحبسهم في المعسكرات أو ترحيلهم قسريًا خارج البلاد أو تسمح بقتلهم.
ويكمل: “يعد احتكار الدولة لممارسة العنف بمثابة تدبير وقائي، يحمينا؛ بعضنا من بعض ويحفظنا من أن نقع ضحايا لعنف شخصي، إلا أن ذلك الحق لا يحمينا من عنف أولئك، الذين يسيطرون على الأسلحة، فمن يضمن لنا أن تستخدم الدولة وسائل القوة التي تمتلكها في حفظ السلام فقط، وليس في نشر الإرهاب؟”.
حق الدولة في احتكار ممارسة العنف بمثابة سلاح يمكن أن يستعين به الديكتاتوريون والحكام المستبدون والطغاة ضد شعوبهم
عنف الأفراد
لا يبرئ بابروفسكي الأفراد من ممارسة العنف؛ فالدولة في النهاية ما هي إلا محصلة مجموع من الأفراد، كذلك لا يعتبر غياب سلطة الدولة، ضامنًا لتوقف العنف، مشيرًا إلى أن العنف والرغبات العدوانية واحدة من سمات البشرية المُحيرة، فرغم كل الدراسات الاجتماعية والنفسية عن أسباب العنف ودوافعه، إلا أن هناك ملايين من البشر مارسوا ومازالوا يمارسون العنف دون أن تنطبق عليه أسباب ودوافع العنف التي أشارت إليها الدراسات.
“نحن لا نريد أن ندرك أن بعض الناس يعتدون على أشخاص عُزل ويقتلونهم فقط؛ لأن ذلك يسبب لهم السعادة، وأن الحروب عندما تندلع تتبع منطقًا لا توجهه عبارات العقيدة والقناعات أو حتى الحجج، ولا نريد أن ندرك أن بعض الناس يتحولون إلى وحوش شرسة وجامحة إذا ما سمح لهم بارتكاب ما هو ممنوع وقت السلم”.
يختتم المؤرخ الألماني كتابه متسائلًا “أليس هناك أمل، بأن توجد نهاية للعنف؟ أليس احتكار الدولة لسلطة العنف يفترض أن يكون ضمانة للسلم؟” لا يقدم بابروفسكي إجابة واضحة ومحددة عن هذا السؤال، بقدر ما ينشغل بتفكيك مفهوم السلطة بصورة عامة، بوصفه أحد أبرز أدوات ترويض العنف أو تأجيجه.