يكاد قرن ونصف يكتمل منذ انطلاق حركة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي، تأريخًا لها بأشهر رموزها؛ السيد جمال الدين الأفغاني الذي زار مصر عام 1870 ثم استقر بها لاحقًا لسنوات عدة، ثم كان له دورٌ بارزٌ في تكوين مجموعة حملت على عاتقها قضية الإصلاح الديني؛ سواء بين المسلمين السنّة والشيعة.
مع ذلك لا يبدو أنّ مجتمعاتنا بنت على جهود الرعيل الأول؛ فما يزال سؤال الإصلاح الديني يُطرح في كل حين كأنما يُطرح للمرة الأولى، على غرار كافة الأسئلة التي تتعلق بالسلطة والحكم والقانون والحريات والتنمية وغير ذلك. رغم هذا لم تنقطع الجهود الفردية والجماعية في تناول موضوع الإصلاح الديني، ووُجد مفكرون وباحثون في البلدان العربية وذات الغالبية المسلمة كانت لهم إسهامات في ذلك الموضوع.
من بين تلك الجهود الجماعية التي تتميز بالاستمرارية والمراكمة تجربة جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية، التي تأسست عام 2002 في المنامة، عاصمة البحرين، وكان لرموزها حضور ونشاط فكري قبل ذلك بما يزيد عن عقد ونصف.
فما رؤية الجمعية لموضوع الإصلاح الديني؟ وكيف تتميز عن التجارب بين المسلمين السنّة لكونها نشأت بين مسلمين شيعة؟ وما الأسس والمناهج التي تعتمد عليها؟
سؤال الإصلاح المتجدد
تبدأ عملية الإصلاح من إدراك وجود مشكلة تحتاج إلى حلّ. لذلك تواصلت “مواطن” عبر البريد الإلكتروني مع جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية للسؤال حول المشكلات التي واجهت مفكري ورواد الإصلاح من المواطنين البحرينيين الشيعة في جمعية التجديد؟
ردّت الجمعية على سؤال “مواطن” بالقول: “تعاني أمتنا الإسلامية اليوم من أزمة هوية وثقافة جعلتها تتذيل سلم الأمم الأخرى، وبات جسدها مليئًا بعلل المذهبية والطائفية والقومية”. لا يختلف ذلك التشخيص عما شخصه الكثيرون من رواد الإصلاح على مدار عقود، وهو تشخيص يتعلق برؤية شمولية للأمة الإسلامية، ذلك المصطلح الذي يعتبر في حد ذاته قضية تحتاج إلى إعادة النظر فيها.
ومن خلال تصفح الإصدارات المتنوعة لرواد الجمعية، يمكن تحديد مشاكل أخرى تؤرقهم، ومنها؛ الخلافات المذهبية بين السنّة والشيعة على مستوى عام ومستوى خاص، يتعلق بدولة البحرين، القضايا المجتمعية العامة مثل الهمّ السياسي دون تبني رؤية أو خطّ لعمل سياسي، قضايا الواقع المعاصر من الحكم والديمقراطية، وبشكل عام مفهوم الدولة والمواطنة من منظور ديني وخصوصية المذهب الشيعي في ذلك، قضايا حقوق الإنسان بين المنظور العالمي ومنظور يتوافق مع الإسلام، العلم والدين، والآخر، وبمعنى أشمل التعايش البشري، وقضايا المرأة، إلى جانب الموضوع الأساسي للإسلام كدين، وهو الإيمان ورسالة الإسلام في الحياة، وما يتعلق بذلك من الاعتقاد والعبادات، وغير ذلك.
ما أسباب المشكلة؟
في حوار منشور على موقع الجمعية، مع رئيسها الفخري الأستاذ عيسى الشارقي، قال: “إننا أمة في مستواها المحافظ المتدين ما زالت تعيش في القرن الرابع الهجري وكل ما يجري في العالم لا يغير من واقعنا شيئًا، والمصيبة أنّ هذه الفئات المحافظة هي التي لا تزال تشكل عقل الأمة الديني، وما تزال تسل سيف التكفير والابتداع والزندقة على رؤوس المجددين والعلماء والفلاسفة. وما زالت تحارب كل فهم جديد يحاول إعادة صياغة العقل العربي والمسلم على وفق ما بلغه زماننا من تطور”.
بناءً على ذلك فالمشكلة تحمل داخلها الحلّ، يقول المختصون في جمعية التجديد لـ”مواطن“، بأنّه “بعد أن هُجر القرآن الجامع، وجعلت الكلمة العليا للمرويات وآراء الرجال؛ فلم يعد إسلام اليوم هو الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله (ص).” تلك المشكلة مستمرة طالما “استمرت في تناول زادها من على موائد تراثٍ مسموم موضوع مدسوس؛ تراثٍ حوّل “الأمة الواحدة” إلى مذاهب وفرق وتيارات وأحزاب متنافسة متناحرة”.
تُعرف الجمعية في موقعها الرسمي التجديد بأنّه “غربال التراث، وتمحيص الموروث. التجديد هو شريعة احترام الشرائع، التجديد منطق إنساني لإرادة البقاء والعطاء”. بعد استعراض المشكلة من وجهة نظر جمعية التجديدً؛ فما الحلول؟
القرآن حاكم على التراث
في سبيلها لعلاج الآفة التي أدت لتكلس الدين الإسلامي في حياة المسلمين، تتبنى جمعية التجديد سبيل العودة إلى نبع الرسالة الإسلامية، وهو النصّ القرآني. جاء في المقابلة مع الجمعية “ضرورة إعادة غربلة التراث الديني للأمة، وتنقيح مروياته ومفاهيمه، وكشف التَّحريف والتَّزوير الذي لحق به عبر التاريخ، وبيان دورها في تشويه عقائد الدين، والدور الذي لعبه في التأسيس للتَّفسيرات والتَّأويلات الباطلة لآيات كتاب الله”.
كيف تعاطت الجمعية مع التراث؟
عن موقف الجمعية من التراث الديني الإسلامي أجابوا: “إعادة قراءة التراث لفحص ما ورثناه من الأسلاف، نأخذ بحكمة وصواب ما فيه، وإن كان ثمة زيف موضوع وتزوير رفضناه”. ولأجل تحقيق هذا الهدف تلتزم الجمعية بمجموعة من القواعد، هي بالترتيب (القاعدة الأولى: العرض على كتاب الله، القاعدة الثانية: العرض على العقل والمنطق، القاعدة الثالثة: العرض على الفطرة السليمة، القاعدة الرابعة: العرض على صحيح سيرة الرسول العملية، والقاعدة الخامسة: العرض على السياق التاريخي).
أحد الأمثلة لتوضيح موقف الجمعية، ما جاء في حوار رئيسها الفخري عيسى الشارقي، يقول: “لو ذهبت لأي قاض إسلامي شرعي اليوم لعاد إلى استعمال نفس آلية القدماء في إثبات النسب (الولد للفراش)، وهو لن يعتمد الأدلة العلمية الحديثة في قياس الخلايا والجينات التي أثبتت التجارب المتكررة صحة إثباتها للأنساب بنسبة 100%. ولكن هذا القاضي لا زال أسير النص الذي أضفى عليه الفكر الإسلامي صفة الخلود، مع أنه إنما كان أسير الظروف التي جاء فيها وإن كان نصًا من معصوم”.
ما منهج الجمعية في فهم القرآن؟
إن غربلة التراث تشمل غربلة التفاسير الموروثة للقرآن وعلومه، ويتبعها تأسيس منهج جديد يستفيد من الإنتاج الحديث في علوم التأويل واللغة، وتلك قضية أساسية يتناولها مجال “الهرمنيوطيقا“، الذي قدم إسهامات قيمة في فهم عملية “الفهم” نفسها؛ بمعنى أنه كيف تحدث عملية الفهم للقرآن الكريم، وما حدود هذا الفهم، وهل هناك فهم واحد لأي نصّ أم أكثر من فهم؟
أجابت الجمعية: “لا بد من إعادة الاعتبار للعقل باعتباره المُخاطب بالوحي مباشرةً؛ فبذلك سنرى نور القرآن وجماله الأخّاذ، بعدما عتّمناه بإسكات صوته واستنطاق غيره”. وتابعت: “ارتأت الجمعية أن تتبنى منهجًا مستنبطًا من القرآن نفسهً؛ فهذا المنهج لا يستنطق القرآن عبر مرويات أو أقوال رجال تناقض روح القرآن ذاته؛ لأنَّه المرجعية التي يجب أن تُعرض عليها كل رواية وفهم أنتجه السَّلف جزاهم الله خيرًا”.
أما منطلقات هذا المنهج عند الجمعية؛ فهي “المنهج هو العقل (المنطق العقلي وقواعد اللسان العربي المبين واللغة)، لكون القرآن يخاطب العقل في كل زمان ومكانً؛ فكل عاقل إذا ما تحرر من عواطفه وميوله فهو قادر على اجتناء الهدى من كلام الله”. ونشرت الجمعية هذا المنهج “القواعد التي نعتقد أنها تحكم قراءة النص “في كتاب “مفاتح القرآن والعقل”، وبحسب المقابلة تطور “هذا المنهج منذ ذاك؛ حيث أضفنا له قواعد جديدة تجد إشارات في برنامج “للتي هي أقوم” الذي بُثت حلقاته على منصة اليوتيوب أسبوعيًا في 72 حلقة للآن”.
لا بد من إعادة الاعتبار للعقل باعتباره المُخاطب بالوحي مباشرةً؛ فبذلك سنرى نور القرآن وجماله الأخّاذ، بعدما عتّمناه بإسكات صوته واستنطاق غيره
John Doe Tweet
قبل استعراض الخطوط العامة لهذا المنهج، لخصت الجمعية في ردّ على سؤال حول موقفهم من تفاسير القرآن بقولهم “هذه التفاسير شرّعت (باستخدام القرآن) عقيدة تنجيس وقتال المشركين (كافة)، وبأن (آية السيف نسخت ما قبلها)، وأسست لانتهاك كرامة المرأة وحرمانها من حقوقها الإنسانية، وثبتت عقائد تلبّس الجن والسحر والشعوذة، وكرست قصصًا للأنبياء غرائبية متعارضة مع الناموس وحقائق العلم، وغيرها الكثير من الآراء المشاكسة التي تقدح الشك في القرآن ككتاب هدى وتدفع بالشباب بعيدًا عن الإيمان، وبالمؤمنين لاختلاق تبريرات التوائية معقدة لتمرير آراء الرَّجال عوضًا عن استكشاف مراد الله وفهم أصالة كلمة الله في القرآن.”
منهج قراءة القرآن
قدمت الجمعية في ردها على أسئلة “مواطن” عددًا من الركائز العامة المتبعة في التعامل مع القرآن الكريم، وهي أشبه بالتكوين المعرفي لمن يتصدى لتقديم تفسير، وهي:
- حاكمية القرآن على المرويات وأقوال الرجال: يجب أن نتحرر من أسر فهم السالفين عند التعامل مع القرآن، وألا نخضعه لحيثيات الأحاديث والمرويات الأقل يقينًا منه.
- التنزيل الحكيم والواقع الرسالي: نصّ القرآن حي مرتبط ارتباطًا عضويًا بواقعه الذي نزل فيه؛ فالآيات لم تنزل في فراغ، وإنما نزلت وأطبقت بشكل محكم، على الواقع التي نزلت فيه لمعالجته؛ فنحن بحاجة لفهم واقع التنزيل الذي “اشتغلت” فيه هذه الآيات، لنعرف مراد النص بشكل واضح وجلي، يُعرف هذا بـ”السياق التاريخي”، والمقصد معرفة “روح النص” عبر استكشاف واقع الرسالة وانطباق معنى الآيات عليهً؛ فبهذا الفهم فقط، نستطيع استخراج مصاديق جديدة للمعنى المقصود في ظرف وواقع مغايرين عن الواقع الأول.
- حكمة النص القرآني: النص القرآني بالغ الحكمة، دقته بالغة جدًا، ولغته حيةً؛ فكل كلمة فيه لها معنى، وتستبطن معنى، وهذا من إعجاز النص القرآني، متعذر على القدرة البشرية أن تنتج مثله؛ فالنص له طبقات، وكل طبقة لها معنى وبعد جديد.
- اللسان العربي المبين: فلغة القرآن هي ملمة وشاملة، للفصحى ولما يقبع تحتها من اللغات العربية القديمة ولهجاتها. وبهذه الطريقة يتبين لنا أنّ للقرآن فهمين؛ معرفيًا ولغويًا أيضًا منطوٍ على تراث موغل في القدم، لا منبتر عن قواعده التراثية ولهجات الأمة منذ آدم (ع)؛ فعربية القرآن تختزن الكثير من الكلمات والتراكيب والتصاريف التي زالت في الفصحى، ولكن بعضها باقٍ متفرقٌ في لهجاتنا المحلية المتنوعة.
- هويات السور: لكل سورة وحدة موضوعية تربطها في نظم واحد من ألفها إلى يائها. والتعاطي مع كل سورة يجب أن يتم على هذا الأساس، بأن هناك موضوعًا مركزيًا تختص به هذه السورة وتعالجه، وجميع التفرعات الموضوعية داخل السورة تنتظم تحت مظلة واحدة حاكمة هي جوهر السورة. وبالتالي ليست السور مجموعة آيات مبعثرة لصّقت ببعضها بعضًا تحت إطار سورة اعتباطية المسمى.
- أهمية السياق: يجب التعامل مع الآيات على أنها خطاب متصل ذو سياق منتظم حكيم، وليست جملًا تقفز من معنى لآخر أو من موضوع لآخر، دونما رابط سياق يجمعها؛ فسياق الآيات (النصي) عامل مهم بالإضافة إلى سياقها التاريخي (زمن التنزيل) والمعنى الحاكم للسورة (هوية السورة).
- المحكمات والمتشابهات: المحكمات مجموعة من الثوابت العقلية، والقيمية، والعلمية، والقرآنية، التي ينبغي أن تخضع لها بقية آيات القرآن الكريم (المتشابهة)؛ فلا يمكن أن تخرق آية ما محكمًا قرآنيًا، أو سنة كونية، أو قيمة أخلاقية، أو قاعدة عقلية.
- أسماء الله لها تراتبية: في كثير من الأحيان تكون أسماء الله في الآيات هي العلل الفاعلة، وليست مختارة عبثًا أو عبطًا؛ فتذييل الآيات بأسماء الله الحسنى يعطي مفتاحًا إضافيًا لمعرفة المراد من الآية: “فغفور رحيم” لا تعطي نفس المعنى لـ “عزيز حكيم”، لذلك معرفة سر استخدام كل اسم حسب المورد يعين على اكتشاف المعنى.
أما عن تطبيقات تلك المرتكزات؛ فهي منشورة في سلسلة “للتي هي أقوم” في اليوتيوب وبحوث “السراة” للجمعية.
المرويات المنسوبة للنبي والأئمة
مقارنةً بقضية فهم القرآن الكريم، تتحمل المرويات المنسوبة للنبي، ثم الأئمة في المذهب الشيعي، الجزء الأكبر من أزمة الفكر الديني الإسلامي، وعلى تلك المرويات التي تُقدر بعشرات الآلاف تأسس التدين السائد في الإسلام. تطرح جمعية التجديد هذا الموضوع “المذاهب الإسلامية تأخذ عمليًا بالحديث أولًا، وبالقرآن ثانيًا، رغم أن الجميع يقول بأنه الثقل الأول، وهو المصدر الأساسي في الدين، لكن الموروث والواقع يثبت أن فهم القرآن خاضع لاتجاهات الحديث، والتي في بعض الأحيان تكون غير متجانسة مع بعضها بعضًا؛ فما بالك بتجانسها مع آيات القرآن؟!”.
ارتأت جمعية التجديد أن تبني منهجهًا في الحديث على الشيء الوحيد المهم في الحديث وهو "المتن، ولا تنظر إلى السند ولا تعتبر به كثيرًا
John Doe Tweet
وأضافت: “هذا العلم برمته ضعيف البناء، هو ضحية لمجموعة ضخمة من العوامل اللاعبة والمتحكمة من قبيل: ربط دقة الحديث بعقيدة المرء، وجود التحيزات اللاواعية في أنفس الرواة وعلماء الرجال، التأثير السياسي في تفضيل رواة على غيرهم، الوضع والاختلاق الناجم عن صراعات المذاهب، تحفيز عنصر الطعن في الآخر لتثبيت العقائد المرادة”.
وعن منهج الجمعية في التعامل مع تلك المرويات: “نرى أن كل حديث محترم إن كان له مصداق في الواقع ويخاطب العقل ولا يتعارض مع القرآن بغض النظر عن الراوي، وما نرفضه هو، ما يعارض القرآن والعقل والضمير والسيرة العملية للرسول الأكرم التي بيَّن معالمها القرآن”.
لذلك ارتأت جمعية التجديد أن تبني منهجهًا في الحديث على الشيء الوحيد المهم في الحديث وهو “المتن، ولا تنظر إلى السند ولا تعتبر به كثيرًا؛ فقد تجد حديث آحاد يتفق بشكل كامل مع روح القرآن، وقد تجد حديثًا يصححه الجميع وهو مخالف لصريح القرآن والعقل والمنطق والضمير”.
طبقت الجمعية ذلك المنهج على العديد من المرويات المنسوبة للنبي محمد والأئمة، وهي موجودة تحت عنوان (أغلال العقل) على موقع “يوتيوب”.
قضية الشريعة الإسلامية
تمثّل تلك القضية واحدة من أهم القضايا الجدلية في تاريخ المسلمين منذ ما يزيد عن قرنين ونيف؛ حين أدخل حاكم مصر محمد علي باشا (ت 1848) القوانين الحديثة نقلًا عن الدول الأوروبية. وتسبب السجال الدائر حول مفهوم الشريعة بوصفها منبع تشريع وقوانين في حالة العنف المسلح التي ارتبطت بالجماعات المصنفة إرهابيًا، التي تنطلق من خلفية مسلمة، ويعتقد أفرادها وغيرهم بضرورة تطبيق شرع الله وفق ما جاء في كتب الفقه، وهي القضية المعروفة باسم “الحاكمية” عند أبي الأعلى المودودي وسيد قطب ومن تابعهما.
أما عن موقف جمعية التجديد فهو: “الجمعية ليست حوزة علمية ولا طريقة صوفية ولا مذهبًا من المذاهب، وبالتالي ليس لها سعي إلى تأسيس “شريعة” إسلامية جديدة كنسخة مغايرة لما يملأ كتب الفقه الإسلامية؛ فنحن ننتقد التركيز على الشريعة والفقه، ونرى أنه مبالغ فيه ومضخم، حتى أصبحنا أمة مبتلاة بقشور الشريعة”.
وجاء في المقابلة: “صحيح أن للشريعة والفقه الإسلامي مكانهما الصحيحين في تبيان العبادات والمناسك والشعائر، كالصلاة والصوم والحج؛ هذه الأمور الشعائرية الخاصة بين العبد وربه، نعم بالإمكان تنظيمها في منظومة فقهية، ولكنَّها تحتاج إلى الابتعاد عن التَّزمت والتَّشدد وانتهاج روح التَّيسير للعباد؛ فهذا هو روح الإسلام الذي أتى به النَّبي”.
وأما المساحات الحياتية فهي بحاجة “لتشريع متجدد مواكب للعصر باشتراك كل العقول المختصة بالقضية، السياسي في السياسة، وعالم الاجتماع في الاجتماع، والقانوني في القوانين، والمعلم في التَّعليم، وغيرها من مساحات الحياة”.
تؤكد الجمعية على أنّ التشريع ليس محتكرًا على رجل الدين؛ بل “حركة إنسانية متجددة، مواكبة لظرفها الراهن، ولكنَّها تظل تحت حاكمية “روح الإسلام” -أي مبادئه- ومقاصده وقيمه من قبيل: العدل، ورفع الظلم، وتحقيق كرامة الإنسان، تحقيق الازدهار، رفع الفساد، المحافظة على الحقوق، رفع مستوى الوعي، تحرير وتمكين الناس.. إلخ.”
الإمامة والحكم عند الشيعة
الإمامة هي القضية هي التي فرّقت بين المسلمين، وجعلتهم سنّة وشيعة وخوارج، ثم فرقت بين الفرق الشيعية على حسب الموقف من الإمامة. بدايةً تعتبر نظرية ولاية الفقيه حلًا لمسألة الإمامة في ظل غيبة الإمام المهدي (وفق المنظور السائد في المذهب)، ومرّت بمراحل فكرية وممارسات سياسية بين المكون الشيعي في إيران، وصولًا إلى تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979. ولكون جمعية التجديد قامت على يد مواطنين في دولة البحرين، من المكوّن الشيعي الإمامي الاثني عشري؛ والذي يؤمن أفراده بعودة الإمام الثاني عشر، المهدي، طُرح سؤال على المفكرين في الجمعية، حول موقفهم من إنشاء الدولة في عصر الغيبة.
أجابوا: “الدولة تعني القانون كيفما كانت، ونحن مع كل قانون يحفظ كرامة الإنسان، ونرفض الروايات التي ابتنى عليها مفهوم التمهيد لقيامة دولة وارثة تطلب بثأر الأسلاف من الأخلاف؛ فتلك روايات وضعتها بطانة طامحة للسلطة، وقد قامت رجالات عبر التاريخ باستغلالها طلبًا لثأر آل بيت النبوة”.
تُحلّ تلك القضية عند رواد الجمعية بتبني رؤية مختلفة لقضية “الإمام المهدي”. جاء في ردّ الجمعية لـ”مواطن” بأنّ “جميع آل البيت (ع) قد نسبت إليهم البطانة المحيطة بهم أنهم يغيبون؛ فما أن يموت أحد منهم حتى يُدّعى بأنه غاب وسيعود وينشر العدل، وتؤول الأحاديث الواردة فيه.” وأضافت الجمعية في المقابلة “هذه مسألة شديدة الحساسية تاريخيًا؛ فللبطانة الطامعة في الوصول للسلطة بآل البيت في حياتهم وبعد مماتهم يدٌ فيها، وفي كثير من الأكاذيب المنسوبة لأهل البيت (ع)، لأنها ترفض زوال نفوذها وتقاوم بضراوة، ونحن لا نريد توظيفنا في مشاريع الريب؛ بل نريد للمكون الشيعي الانصهار في هوية وطنه ليتنعّم بالانتماء له والانتماء لأمته”.
تقليد الفقهاء
كما أوجدت قضية غيبة الإمام المهدي (وفق المذهب) العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى جواب بين المسلمين الشيعة، منها سؤال الحكم والدولة السابق عرضه، وسؤال آخر يتعلق بالقضايا الدينية، أو قضية تقليد الفقهاء. يقول المرجع السيستاني: “يجب على المكلف الذي ليست له القدرة على استنباط واستخراج الأحكام الشرعية أن يقلّد المجتهد الأعلم القادر على ذلك؛ فعمل مكلف كهذا من غير تقليد ولا احتياط هو باطل”.
لا نعتقد بوجود تضارب بين العلم والدين بشكل مطلق، وإن وجد فهذا التضارب أوجده المتدينون وليس الدين؛ فالدين يدعم العلم ويحض عليه
John Doe Tweet
بدورها عرضت الجمعية في الإجابات التي تلقتها “مواطن” موقفها فيما يلي: ” التقليد بأوصافه الحالية حادث لا يزيد عمره عن 200 سنة، ولا أصل له في القرآن؛ بل القرآن ضده، ومن يقرأ القرآن بتجرد وتحرر سيجد أكثر من جواب. إذن هو كان ومازال مسألة جدلية، وفيها آراء كثيرة تتأرجح بين حرمة التقليد ووجوبه وبطلان عمل العامي دون تقليد. وللتوضيح فنحن لسنا ضد التقليد مطلقًا؛ فقد ذكرنا أننا لسنا ضد التقليد التربوي التعليمي الذي يعين العبد على تحصين استقلاليته؛ بل جمعية التجديد ضد تسييس الدين من خلاله، وقد اقترحنا التحول للاجتهاد المؤسسي كحل متكامل في حلقات أغلال العقل”.
التقارب بين السنّة والشيعة
كانت قضية الإمامة هي سبب العديد من الصراعات التي شهدها تاريخ المسلمين، ولا تزال حاضرة كعنصر اضطراب في التعايش بين السنّة والشيعة؛ سواء كدول أو كمواطنين في دولة واحدة. تقول الجمعية في إجابتها لـ”مواطن“: “مسألة الإمامة لا تستحق أن تكون بحال من الأحوال مسألة مفاصلة بين إيمان وكفر؛ فكثير من المؤمنين في زمن الأئمة لم يعرفوهم إلا كأبرار ومصلحين، وقد ذكرنا في سلسلة حلقات “أغلال العقل” بأن الإمامة هي قضية اجتهاد ذاتي في أحسن أحوالها”.
حرية الاعتقاد والمجتمع
تناولت الجمعية العديد من القضايا الجدلية في الفكر الديني مثل حقوق الإنسان، ومنها حقّ الاعتقاد، وردًا على سؤال حول دور الدولة تجاه الدين وحرية الاعتقاد؛ أجابوا: “نحن لا ندعو أحدًا للخروج من دينه لدين آخر، ولا من مذهب لمذهب آخر، ولا حتى فرض الدين على من لا يعتقد بدين ما دام يحترم حق الآخر في التدين والاعتقاد، ونحن نحرص على أن يتمسك الإنسان بدينه وعقيدته، كما نعتقد بأن عليه واجب أن يفحص وأن يبرهن لنفسه صحة ما يعتقد؛ فيتمسك بما يقره الوحي من اليقين، ويتخلى عن الزوائد الملحقة بالدين، التي جعلتنا مذاهب فرقت الأمة وجعلتها شيعًا متنافرة”.
وعن دور الدولة تجاه الدين، قالوا لـ”مواطن“: “السياسة شيء والدين شيء آخر، لكنا نرى أن تسييس الدين أو أسلمة السياسة خطأ أسقط الأمة في النزاع وفكّك العلاقات حتى تمزقت الأوطان”.
جدلية العلم والدين
طرحت “مواطن” سؤال: ما منهج الجمعية في تناول القضايا التي تتضارب بين العلم والدين؟ مثل نظرية التطور ونظريات الفيزياء عن الكون؟ فأجابت الجمعية: “لا نعتقد بوجود تضارب بين العلم والدين بشكل مطلق، وإن وجد فهذا التضارب أوجده المتدينون وليس الدين؛ فالدين يدعم العلم ويحض عليه، ورجال الدين قد يذهبون في اتجاه معاكس لهذا التوجه العقلاني”.
وأضافوا أنّ “هناك أخطاء عميقة في القراءة الدينية، والأدهى منها هو التعصب لرأي الرجال، هذا التعصب يسهم في ترسيخ كهنوت مستبد بالدين على عقول الناس؛ فعلى الجميع الحذر من تكريس الاستبداد بالدين”.
وإجمالًا نقول: “فيما يخص تناول القضايا التي تتضارب بين العلم والدين؛ مثل نظرية التطور ونظريات الفيزياء الحديثة عن الكون، ليس من سمة المؤمن إنكار العلم وحقائقه إلا من جهل حقيقة هويته الإيمانية، أو من ادعى امتلاك الحقيقة المطلقة، ونحن لا ندعيها قطعًا وما ينبغي لأي أحد؛ بل إننا نفرح كلما برزت حقيقة، لأن الحقائق حتمًا في خدمة الإنسان ورقيه؛ فليس من الإيمان تجاهلها”.
ومن بين القضايا التي تعرضت لها الجمعية، مكانة المرأة في الإسلام، وموضوع الحجاب، وموضوعات التربية وغير ذلك، مما يزخر به موقع الجمعية، ويعتبر كتطبيق للأفكار التي تقوم عليها.
سهام النقد
وُجهت انتقادات عديدة إلى مؤسسي جمعية التجديد من خصومها من الشيعة، وعلى رأس تلك الاتهامات، انطلاق الجمعية من رؤية تهدف إلى التحضير لظهور الإمام المهدي. تُرجمت تلك التهمة إلى وسم يلصقه منتقدو الجمعية بها على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو “بدعة السفارة” من مسمى “النواب الأربع أو السفراء الأربع” للإمام المهدي في الغيبة الصغرى؛ حيث كانوا حلقة الوصل بين الإمام والمسلمين الشيعة بحسب السائد في المذهب.
أما عن أهمية فكرة “السفارة“؛ فتنبع من المفهوم السائد لدى المسلمين الشيعة: “أفضت تجربة السفراء الأربعة إلى التمهيد لمفهوم الوكالة العلمائية العامة عن الإمام المهدي”. لهذا إذا ادعى شخص السفارة وكان له مؤمنون بدعوته؛ فسيأخذون عنه لأنه صلة وصل بالإمام الغائب، كما حدث مع الحركة الشيخية.
من سنن التغيير أن ينكر أهل السائد على المجددين طرح أفكار تحرك مياه الفكر الساكنة، لأنهم يخافون التغيير، هذه العقلية ذمها النص (القرآن) وينكرها العقل
John Doe Tweet
ردت الجمعية على هذه الاتهامات لـ”مواطن” بالقول: “الغالبية الساحقة من الانتقادات تأتي من بعض مشايخ الدين، التي تسيس وتأزم وتضر بالبلاد والعباد لتحصين مصالحها الخاصة، وتهدف لتنفير الناس من فكر جمعية التجديد بأكاذيب وافتراءات وقصص مختلقة، غرضها التشويه والتضليل والوقيعة، وحرف الأنظار عن البحوث والأفكار التي تقدمها جمعية التجديد، ولتغطية ضعف أدائها السياسي الفاقع، كزعامات متشددة أدخلت الناس في الوطن في عسر ومواجهات وآلام هم في غنى عنها، بدل تحفيز وعيهم ودفعهم للاستقلالية والانصهار في وطنهم”.
وتابعوا في الرد: “ما يقوم به بعض المشايخ من حملات تشويه يبررونه شرعًا بزعم أنهم يستجيبون لأمر الرسول (ص)، ورسولنا قطعًا براء من هذا الإثم، ويستشهدون بمروية مكذوبة ينسبونها له (ص)؛ فيقولون إنهم مأمورون بالكذب والبهتان والوقيعة والبراءة من أهل البدع، وهو عنوان عام يطبقونه على كل مختلف معهم في الرأي، حتى إن ابن الحوزة العلمية الحيدري والمرحوم فضل الله وغيرهما لم يسلموا منها”. وفي ردّ الجمعية طالبت بمراجعة إنتاجها المتنوع المنشور على موقعها على الإنترنت، مؤكدة أنّها لا تخفي شيئًا.
والتهمة الثانية المرتبطة بما سبق، هي تبني العمل السري للتمهيد لعودة الإمام المهدي، وأجابت الجمعية لـ”مواطن“: “نؤمن بشرعية الدولة لأنها خيار شعبها، وندعو الجميع للانصهار في الهوية الوطنية الجامعة، والتبرؤ من إثم تسييس الدين لأنه مخالف لمقاصد الديان؛ فلماذا سنحتاج للعمل السري؟!”.
بشكل عام، ومن خلال تصفح العديد من إصدارات الجمعية المنشورة؛ فلا وجود لشيء يتعلق بالعمل السري للتمهيد لظهور المهدي، وللمفارقة فإنّ إصدارات الجمعية التي تقدمها للجميع في جوهرها والأسس التي تستند عليها تُعنى بفحص ومراجعة ونقد وإعادة فهم وتعريف معظم العقائد الاثني عشرية، كالإمامة والشفاعة والعصمة والرجعة وتوابعها من سفارة وغيرها؛ فإذا كانت الجمعية تدعو إلى عرض المرويات والأحاديث كافةً على العقل؛ فإن الأخير في زمننا هذا ربما لا يقبل فكرة الغيبة والمكانة المنسوبة للأئمة في المذهب وبالتأكيد فكرة السفارة.
وتعرض المنتسبون إلى الجمعية إلى مضايقات واستهداف ممنهج من العديد من المواطنين الشيعة، بتحريض من بعض رجال الدين؛ خصوصًا في ظل الدور السياسي الكبير لرجال الدين الشيعة في البحرين. كما صدرت أحكام قضائية بحقّ عدد من منتسبي الجمعية بعد حملات التحريض والتشويه واجتزاء الآراء، وهو سلوك رافض للاختلاف والتعددية في دول المنطقة في المجال الفكري قبل السياسي.
ختامًا قالت الجمعية: “من سنن التغيير أن ينكر أهل السائد على المجددين طرح أفكار تحرك مياه الفكر الساكنة، لأنهم يخافون التغيير، هذه العقلية ذمها النص (القرآن) وينكرها العقل، وللشيخ محمد عبده مقالة في هذا السياق في كتابه الإسلام بين العلم والمدنية؛ حيث يذكر ثمانية أصول للإسلام، وقد عَدَّ (النظر العقلي لتحصيل الإيمان) أولها، وهذا يفتح الباب واسعًا للتفكير المستقل، ثم يرفع منزلة العقل بـ(تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض) في الأصل الثاني، لأنه المخاطب ومناط التكليف، ويدعو في الأصل الثالث إلى (البعد عن التكفير)، لأنه آفة تفضي للجمود والتخلف، ويحث على حمل أقوال كل مفكر على الإيمان حتى إن وجدوا أن 99 وجهًا؛ منها يحتمل الكفر وواحد فقط يحتمل الإيمان؛ فما أحكمها من مقولة تحفز العقل وتدعو لبناء بيئة التسامح لفتح المجال لتدافع الأفكار”.
في ميزان الحركة الإصلاحية
إن كان النقد السابق ذكره لا يتعدى كونه موقفًا جامدًا رافضًا لأي اختلاف، كما هو حال المواقف السائدة من أي حركة أو تيار تجديدي؛ فهناك نقد قد يُوجه إلى جمعية التجديد بناءً على إنتاجها ورؤاها ومناهجها، وهو النقد البناء الذي يعتبر أحد أوجه الفعالية والحيوية في الثقافة، على غرار نقد المشاريع الإصلاحية والفكرية للمفكرين العرب، كما انتقد جورج طرابيشي مشروع محمد عابد الجابري؛ في عدد من المؤلفات أثرت النقاش حول القضايا الدينية والثقافية العربية، وهو النقد المنتظر من أهل الاختصاص الذين يحملون قيم التجديد والإصلاح، ويلتزمون بالأسس والقواعد الأكاديمية والمناهج في دراسة العلوم الدينية.
التعليقات 1