في حلقة نقاشية منذ أعوام، وفي إحدى ندوات المرحوم الفنان خالد حمزة، كنت من الذين أدلوا برأيهم في تفسير أزمات المتطرفين دينيًا وطريقة تفكيرهم.
مما قلته يومها إن المتطرف دينيًا يعيش في مرحلة الطفولة، وهي التي يتمتع فيها بطريقة تفكير حسية ومادية صرفة، لا ترى ولا تنظر أبعد مما تحت قدميها، مما يُعرضهم لصراعات وحروب وعنف، وإن ظنوا أن هذا العنف سيتوقف، نراه قد اشتعل في مكان آخر وضد عدوّ مختلف، قد يكون من أقرب الأقارب، وتلك الجزئية تفسر إلى حد بعيد كيف تنشأ الحروب الأهلية والبينية بين الجماعات، وتنشق على إثرها الفرق والتيارات المتطرفة، وأحيانًا تحترب الدول التي تجمعها روابط الدين والعرق واللغة؛ فهذه الأمور مثلما كانت وسائل تجمُّعًا؛ فهي في ذاتها وسائل افتراق إذا جرى تناولها بشكل حسي طفولي.
فالصغار بعُمر الطفولة لا يهمهم من أين حصلت على تلك الأموال، وكيف اشتريت هذا الطعام أو تلك اللعبة، لكن يهمهم الاستمتاع بها، وإلا فردود أفعالهم جاهزة؛ وهي البكاء، هذه السلوكيات الطفولية وُصفت بالبراءة، لأن الطفل يفعلها دون دراية أو إدراك؛ فهو في طور البناء، وفي مرحلة تشكل وعي غير مسؤول عنها، لكن حين يفعل الكبار هذه السلوكيات؛ فهم في موقع المسؤولية المباشرة، لأن وعيهم قد اكتمل، ومراحل نموهم العضوي والنفسي قد اكتملت، وكذلك هم في كامل إدراكهم العقلي الذي صاروا بناء عليه مواطنين مُكلّفين؛ فتصرفهم الطفولي قد يعرضهم لارتكاب الجرائم الممنوعة قانونًا؛ مثل السرقة والاعتداء، والذي يمكن وصفه هنا بأن الطفل ما زال يقطن العَرَبة ولا يغادرها، وبالتالي هو غير مسؤول عن القيادة، لكن الكبار غادروا العربة إلى القاطرة، وبالتالي صاروا مسؤولين عن قيادة أنفسهم بالكامل.
الذي يحدث هو امتلاك الكبار طريقة تفكير غير حسية، تمكنهم من تفسير العوارض والنوازل، وكذلك فهم النظريات والقوانين والوصول إلى البراهين، والأهم من ذلك قدرتهم على البحث عن الحقائق؛ فالطفل رغم تمتعه بأحاسيس بصرية وسمعية ولمسية؛ لكنه عاجز عن الربط بين موضوعات هذا الإحساس أو فهم العلاقة بينها؛ فضلا عن قلة حيلة الطفل وهشاشة خبراته ومحدودية تجاربه.
هذه مقدمة لفهم موضوعنا اليوم، وهو الأسباب النفسية وراء ارتكاب الصهاينة جرائمهم في فلسطين وأماكن أخرى؛ فالصهيوني، مثلما قدمت في أربع حلقات سابقة على مواطن تجدونهم هنا و هنا و هنا و هنا، يعاني من التطرف الديني الذي أوهمه بحقه التاريخي والديني في فلسطين، وأن كل من يقاوم أو يرفض هذا الحق شرير معادٍ للسامية، بالضبط مثلما توهم الداعشي بحقه التاريخي والديني في أرض الغير، وأن حقوقه الأصلية في استباحة أراضي المخالفين محفوظة، وأن كل من يقاوم أو يرفض هذا الحق هو كافر شرير مستباح الدم؛ فالتطور المعرفي الذي يمكن هؤلاء من التفكير المجرد، وتفسير الإشارات والرموز والنظريات والاستماع لوجهة نظر المخالفين، أو الإيمان بحقه في التعبير، لم يكتسبها المتطرف بعد؛ كونه لا يزال في مرحلة الطفولة، ولا يملك من أساسيات الفكر سوى الطريقة المادية الحسية ما قبل العقل ومرحلة اكتمال النمو الذهني عند الأطفال.
إن الصهيوني والداعشي هنا يبكيان إذا لم تُعطهم أرض الغير، بالضبط كما يبكي الطفل إذا سرق لعبة طفل آخر وأردت انتزاعها منه؛ فالوعي بقيمة وفداحة السرقة أخلاقيًا؛ لا يوجد عند الطفل كما لا يوجد عند الصهيوني بالضرورة؛ فإذا كان الطفل معذورًا ببدائيته وبراءته المتفق عليهما؛ فكيف نعذر الصهيوني وهو ناضج!؟
الحياة في ظل الضغط النفسي
يقول عالم النفس الإنجليزي “غريج ويلكنسون” في كتابه الضغط النفسي: “إن أصعب ما في الضغط النفسي هو الاعتراف به، أما ما يلي هذا الاعتراف فهو سهل نسبيًا، ما إن تعترف بمرورك بمرحلة ما من الضغط النفسي مع ما تسببه من ردات فعل، يصبح تحديد الأسباب ومعالجتها والتخلص من أعراض الضغط أمرًا بسيطًا” (صـ 28)، وهذه المشكلة التي عرضها “ويلكنسون” يعاني منها الصهيوني الذي وقع تحت أزمات الضغط النفسي في ردات فعل غير محسوبة؛ حيث أقدم على احتلال أراض مصرية وسورية ولبنانية بعدما احتل أرض فلسطين؛ فهو الذي ظن بخياله أن وصوله لحكم فلسطين وقيام دولة أرض الميعاد هو منتهى حياته ولا طموحات أكبر من ذلك؛ فلو كانت مصر وفقًا للوعد الإبراهيمي المقدس هي أرض إسرائيلية؛ فماذا نسمي احتلاله لأرض سوريا ولبنان؟
إن عدوان الصهيوني على أرض غير فلسطينية لم ينجم عن مشروع أو طموح أكثر من ردة فعل للضغط النفسي الذي عانى منه بعد قيام دولته، والسر في أنه لم يعترف بهذا الضغط النفسي، وكبريائه وغروره منعاه من الاعتراف بسر أزمته الكبرى بعد عام 1948، وهي (انعدام الأمن) والعيش في ظل طوارئ مستمرة تهدد حياته وأملاكه؛ فلو اعترف بأنه يعاني من هذا الأمر، وهو فقدان الأمن، سيُشجع العرب على ضرب مزيد من الإسرائيليين ومصالحهم ، لكنه لم يعترف، ويبدو أن سياسة الظهور بالقوة والشدة والبأس منذ قيام إسرائيل لا زالت قائمة، ونفي الخسائر أو تأثير الحروب العربية الإسرائيلية على الداخل الإسرائيلي لا يزال مستمرًا. في ظل سياسة تعويض هذه الخسائر من الصهيونية الدولية، ومركزها في بريطانيا والولايات المتحدة مثلما تقدم شرحه في حلقات سابقة.
التطبيع بالنسبة للصهيوني، طوق نجاة وحبل إنقاذ وشريان يمدهم بالطاقة والحياة، مما يثبت حرص الصهيوني على التطبيع مع العرب حاليًا، وأن ذلك التطبيع بالنسبة له حياة أو موت؛ بل من خلاله سوف يجري رسم مستقبل إسرائيل وضمان بقائها
John Doe Tweet
ولتخيل نفسية الإسرائيلي تحت وقع هذا الضغط النفسي الكبير، والذي يدفعه لهذا الحجم الضخم من العنف، تصور أنك تجلس في بيت مفتوح، وجميع من فيه (يكرهونك ويقاطعونك)، والبعض منهم يؤذيك بلسانه ويده، وفي نفس الوقت أنت مُجبَر على المكوث في هذا المكان، ماذا ستشعر؟ أذكر أنني سألت أحد الأصدقاء هذا السؤال؛ فكان جوابه بوضوح (دا أنا يجيلي جلطة واروح فيها)، سألته: وهل ستمارس العنف؟ قال: لا يوجد أمامي حل آخر؛ إما سأصرخ أو أضرب دون حساب النتائج.
هذا بالضبط شعور الإسرائيلي المضغوط؛ فجميع شعوب ودول الجوار العربي والإسلامي يكرهونه ويقاطعونه، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل العديد منهم يضربونه. تأتي له الضربات من سوريا والعراق ولبنان وفلسطين واليمن، غير الازدراء والكراهية والمقت الذي يلقاه في الإعلام والسوشيال ميديا من كافة الشعوب العربية، وفي مقدمتها مصر والأردن أقرب الجيران، هذا شعور لا يُطاق، وهدم تام للأمن الشخصي والقومي، وحالة طوارئ لا يتحملها بشر، لذلك تسعى بعض القوى العظمى لنجدة إسرائيل من هذا المصير بالدعم المادي والمعنوي والإعلامي والعسكري والاقتصادي الهائل، ولولا هذا الدعم المستمر منذ الأربعينيات، لسقطت إسرائيل بفعل التآكل الذاتي. (يجدر بي هنا أن ألفت انتباهك إلى أنني أشرت لأسباب الكراهية المشروعة من العربي للصهيوني نتيجة جرائمه واحتلاله في مقالات سابقة تركت روابطها في المقدمة).
من هنا تأتي قيمة وأهمية العلاقات والتطبيع بالنسبة للصهيوني، إنها طوق نجاة وحبل إنقاذ وشريان يمدهم بالطاقة والحياة، مما يثبت حرص الصهيوني على التطبيع مع العرب حاليًا، وأن ذلك التطبيع بالنسبة له حياة أو موت؛ بل من خلاله سوف يجري رسم مستقبل إسرائيل وضمان بقائها، أما فشله في التطبيع مع جيرانه العرب فسوف يُشعِل أزمة كبيرة في ظل التهديدات، وامتلاك خصومه في الشرق الأوسط أسلحة متقدمة وفتاكة، وكلما يمر الوقت دون إتمام هذا التطبيع، يتآكل المجتمع الصهيوني من الداخل، لدرجة تفريغ طاقة الغضب والعنف بداخله لأقرب جيرانه وأشقائه؛ فمصر بالنسبة له ليست مجرد مفتاح سلام، ولكن بوابة حُلم التطبيع مع العرب، باعتبار أن التطبيع لن يتم سوى خلال السلام مع ذكر الفارق بين الأمرين؛ فمصر عقدت اتفاقية سلام فقط، ولكنها لم تصل لمرحلة التطبيع الذي يلزمه علاقات ثقافية وشعبية واقتصادية وعسكرية واسعة.
شعور الاستحقاق
ومن الأسباب النفسية أيضًا موضوع (الاستحقاق)، وجوهر هذا السبب في شعور إسرائيل بالتفوق، وبانتمائها العلوي للحضارة الغربية بشكل عام، والإنسان الأبيض بشكل خاص، طبقًا للتكوين الديموغرافي ليهود إسرائيل من جماعات “السفارديم والأشكيناز”، وهؤلاء يمثلون غالبية شعب إسرائيل والقوة النافذة فيه، وشعور هؤلاء بالاستحقاق أدى لغضب كامن من أي تناول لهم، أو معاملتهم بشكل متساو مع العرب أو السود والآسيويين واللاتين؛ فالعنصرية البيضاء ترى تفوقها الإثنى الشامل، ومن واجبات ذلك التفوق على الشعوب الأخرى أن تجري معاملتهم بمنطق “السيد والعبد”؛ فلا وجود لقصة المواطنة مع تلك النظرة العنصرية.
لقد حصرت الولايات المتحدة بشكل خاص والقوى الغربية بشكل عام على ضمان هذا التفوق الإسرائيلي التابع لهم بشكل كامل؛ فالقصة غير مبنية على مبدأ التفوق العسكري أو الجوي الذي تصرح به أمريكا من حين لآخر فقط؛ بل يطال هذا التفوق مجالات أخرى كالصحة والتعليم والاقتصاد، لذلك نرى بعضًا من أرقام دولة إسرائيل في هذه الملفات جيدة، وتكاد ترقى لأرقام الدول الغربية، وهنا تكمن مشكلة في هذه الاستطلاعات والإحصائيات والأرقام؛ أنها تخرج من مؤسسات الغرب بشكل مُسيّس في الغالب.
لمتأمل في سلوك إسرائيل منذ يوم 7 من أكتوبر يرى أن ردة فعلها الغاضبة جدًا، والتي أدت لقتل 20 ألف فلسطيني تقريبًا حتى الآن، مصحوبة بادعاءات على الفلسطينيين بنواياهم لقتل وإبادة اليهود، وأن إسرائيل بصفتها الحارس لليهود -وفقًا لقادتها-؛ فهي تمارس ما تسميه حق الدفاع عن النفس، أو ما يصفها نتنياهو أحيانًا بحرب استقلال جديدة
John Doe Tweet
ومن أمثال تلك الجوائز المُسيّسة جائزة نوبل؛ فبسبب موقف الغرب من الصين لم يَفز الصينيون بجائزة نوبل، رغم أنها واحدة من أقوى اقتصادين في العالم، ورغم تصدر الصين براءات الاختراع، ورغم أن الأرقام الصينية جيدة في البحث العلمي والتطوير، لكنها لم تحصل عليها في العلوم، ورغم أنها دولة كبيرة لديها حضارة ومعمار وفن وفلسفة، وأدب خاص متقدم، وجيشها ثالث أقوى جيش في العالم؛ إلا أنه لا يوجد صيني يفوز بجائزة نوبل سوى ثلاثة فقط محسوبين شكليًا على المعارضة الصينية، كذلك فإيران وكوبا دولتان متقدمتان في مجال الطب؛ إلا أنه لا يوجد دكتور إيراني أو كوبي فاز بجائزة نوبل في الطب، وجميع من فازوا إما أمريكان أو بريطانيين، أو حلفائهم كالعادة، كذلك لا يوجد عالم روسي فاز بجائزة نوبل منذ بداية الحرب الباردة في منتصف الخمسينات، وآخر من فاز بها من علماء الروس هو نيكولاي سيميونوف سنة 1956، والجوائز تذهب كالعادة إما لأمريكان أو أوربيين أو حلفائهم السياسيين، كاليابان التي فازت ب 25 جائزة نوبل منذ عام 1949.
هذا الوضع خلق استحقاقًا نفسيًا عند الرجل الأبيض، والذي بدوره أثّر على شعب إسرائيل وقادتها، ليعتقدوا بتفوقهم الذاتي على العرب، ومن الناحية النفسية عندما يُعاملك من هو أقل منك في المنزلة والقيمة، بطريقة لا تُرضيك؛ يُصبح وقع ذلك على النفس أقسى وأشد فيما لو كان الذي يُعاملك من نُظرائك وأشباهك في القيمة والمنزلة، سيعلو الغضب أضعافًا، أو الشعور بعدم الرضا لما يحدث؛ فأنت تستحق أكثر من ذلك؛ بل يصل الأمر أحيانًا بالاعتقاد أن ما أنجزته للعالم والبشرية يستحق التكريم، وأن تعيش حياة الملوك، لا أن تتساوى مع الصعاليك وعامة الناس.
وفي تقديري أن مصدر “وهم التفوق” الذي أصاب الإسرائيليين وأوجد لديهم مشكلة الاستحقاق هما أمران اثنان: الأول: هو الكبر والغرور والشعور بالقوة والسلطة. وهذه المشاعر يكسبها المتطرفون إذا شعروا بالقبول المجتمعي والدعم الذي يتلقونه من السلطات، مثلما شعر الإسرائيليون بالقبول المجتمعي، والدعم الذي تلقوه من المجتمع الغربي صاحب الكلمة العليا في العالم، لذلك فالصهيوني بشكل خاص والمتطرف دينيًا بشكل عام يحرصان أولاً على أن يظل هذا القبول على حالته، ليستمر شعورهم بالنشوة دائمًا، ومن يهدد هذا القبول المجتمعي يُخشى منه فورًا ويشعر بالتهديد. وهذا سر من أسرار انتفاضة التكفيريين ضد المثقفين، لأنهم شعروا بتهديد هذا القبول لهم مما يساويهم بغيرهم من الفئات المهمشة. وسر انتفاضة الصهاينة أيضًا ضد من يهدد علاقتهم بالغرب والولايات المتحدة، باعتبار هذا التهديد موجهًا للصورة المتفوقة ذاتيًا والمرسومة في خيال الإسرائيليين منذ الصغر.
الأمر الثاني: هو تقييم ذاتي غير دقيق عن الآخر، مثلما يُقدم الصهاينة على تقييم العرب والفلسطينيين باحتقار ودونية، وتصدير صورة عنهم أكثر تخلفًا وبشاعة. ومصدر ذلك التقييم هو التعصب والجهل وبناء معلومات كاذبة عن الغير، ولو اضطر هؤلاء لسرد المعلومات الحقيقية عن الآخر؛ فلن يخرج ذلك السرد عن التشويه والبُعد عن الحقيقة والإنصاف؛ حيث وبإنصاف هذا المريض بالتفوق لخصومه؛ فلن يشعر بالتفوق، لذلك جاءت الأديان لتعالج هذه الآفة، كي لا يقع المتدين في فخ من سبقوه، وأمرته بالتحقق والاستبيان بشكل دائم، وأن لا يُصدق أي معلومة وإشاعة إلا بعد البحث عن مصادرها، لكن الصهيوني لا يلتزم حتى قواعد دينه اليهودي التي أمرته في كثير من جوانبها بالعدل والإنصاف، كون الصهيونية حركة سياسية وليدة، وتطرفًا دينيًا وعنصريًا مثلما تحدثنا عنها باستفاضة في الحلقات الأربع الماضية.
وهم الاضطهاد
ومن الأسباب النفسية أيضًا توهم الإسرائيليين للاضطهاد؛ ففي علم النفس يوجد ما يُسمى بــ “وهم الاضطهاد” Persecutory delusion، ويعني اعتقاد فرد ما بحدوث ضرر يصيبه بشكل مباشر، أو تربص شخص ما به ليضره. بينما في الواقع هذا غير موجود. ويكثر وهم الاضطهاد هذا عند المتطرفين دينيًا والمتعصبين بشكل عام من كل الأديان والطوائف؛ فكلما حدثته بمعلومات جديدة (توهم) أنك تريد فرضها عليه، وبالتالي يعنفك أو يؤذيك كسلوك دفاعي يحمي به نفسه، رغم أنك في الحقيقة لم تعرض سوى رأيك؛ فلو حدثته عن أن معاداة السامية تعني معاداة العرب أيضًا؛ سيشعر أنك تبرر أو تقبل باضطهاده كونه عدوًّا للعرب والفلسطينيين، مجرد أن يسمع كلمة مخالفة لعقيدته (يتوهم) أنك من المتربصين وتريد إذلاله واستعباده.
المتأمل في سلوك إسرائيل منذ يوم 7 من أكتوبر يرى أن ردة فعلها الغاضبة جدًا، والتي أدت لقتل 20 ألف فلسطيني تقريبًا حتى الآن، وإصابة 50 ألفًا آخرين، وتدمير 300 ألف منزل، وتشريد ما يقرب من 2 مليون شخص، أنها مصحوبة بادعاءات على الفلسطينيين بنواياهم لقتل وإبادة اليهود، وأن إسرائيل بصفتها الحارس لليهود -وفقًا لقادتها-؛ فهي تمارس ما تسميه حق الدفاع عن النفس، أو ما يصفها نتنياهو أحيانًا بحرب استقلال جديدة، أو حرب وجود، والهدف من تلك الادعاءات تبرير ما يحدث، وألا يخرق ذلك ضمير الشعب الإسرائيلي ويراه متجاوزًا للقيم الأخلاقية والعُرفية التي اجتمع عليها العالم.
ومن ناحية أخرى في علم (الإجرام) توجد قاعدة، وهي أن المُجرم يستمر في إجرامه كي لا يظهر ضعيفًا أو مُخطئًا؛ فلا تتعلق المسألة فقط بالانتقام، لأن دماء أكثر من 20 ألف فلسطيني، أظن من الأرجح أنها تكفي لشفاء غليل الصهاينة مما حدث لهم في 7 من أكتوبر، لكنهم لن يتوقفوا عن الإبادة الجماعية برغبتهم لهذين السببين، لكن من الممكن أن يتوقفوا في حالة واحدة فقط؛ هي أن (تُجبَر) إسرائيل على ذلك؛ إما عن طريق أوامر غربية صريحة، وتهديد بقطع الدعم والمحاكمة والحصار والعقاب، وإما أن تجد ردة فعل قوية تجبرها على النظر في جدوى الحرب من ميزان (الربح والخسارة)؛ فمع خسائر إسرائيل يبدو أنها لم تصل بعد لحد إقناع مجرمي الكيان بوقف الحرب، كونهم يدخلون هذه المعارك بعقلية انتحارية خوفًا مما ذكرته، وهو ألا يراهم العالم (ضعفاء أو مخطئين).
من الواضح أن إسرائيل تعاني من وهم الاضطهاد الذي وجدته، بتعظيم تاريخ اليهود السابق وقيام الدولة الصهيونية الجديدة على بناء تعليمي وثقافي يربط بين اضطهاد اليهود في أوروبا ومحارق هتلر، وبين مشروعية وضرورة وجودهم في فلسطين.
John Doe Tweet
لو استمر وهم الاضطهاد طويلاً فإنه يخلق لدى المريض به “عقدة اضطهاد”؛ فيُقدم على التشكيك والتخوين في نوايا الآخرين؛ فكل فعل أو إشارة صغيرة من الآخر تحمل معنى هجوميًا ضده، وهذا تفسير نظرية المؤامرة التي يعاني منها أصحاب هذا المرض، ثم مع الوقت وبعد أن يتعايش أحدهم مع “عقدة الاضطهاد”، تتطور معه المشكلة إلى بارانويا Paranoia أو جنون العَظَمة؛ فالمريض حينها هو القادر وحده على كسر المؤامرات، وهو الناجح الذي يتآمر ضده الفاشلون، وهو الطيب الذي يعاديه الأشرار، لذلك تم تصنيف الدكتاتوريات بمعاناتها من هذا المرض؛ فأي دكتاتور عمليًا هو مريض بالبارانويا التي تطورت لديه من وهم اضطهاد سابق.
من الواضح أن إسرائيل تعاني من وهم الاضطهاد الذي وجدته، بتعظيم تاريخ اليهود السابق وقيام الدولة الصهيونية الجديدة على بناء تعليمي وثقافي يربط بين اضطهاد اليهود في أوروبا ومحارق هتلر، وبين مشروعية وضرورة وجودهم في فلسطين؛ فكل إجراء أو حركة تقاوم هذا الوجود الصهيوني في فلسطين يجري تفسيره على أنه إحياء أو استدعاء لمجازر هتلر ضدهم، ويمكن ملاحظة ذلك في تفسيرهم وربطهم بين أحداث 7 من أكتوبر وبين محارق هتلر في عقد مقارنات؛ منها أنه لم يتعرض اليهود لمذابح بعد الهولوكوست بحجم الذي وقع في 7 من أكتوبر، في إسقاط صريح على أن الفلسطينيين مثل النازيين، وأن المقاومة الفلسطينية نازية العقيدة يجب التخلص منها مهما كان الثمن. ثم القضاء على هذه المقاومة فكريًا بتغيير ثقافة الفلسطينيين ليصبحوا أكثر قبولاً للصهيونية والاحتلال.
وقد لاحظ هذا الربط الأيديولوجي بين قيام إسرائيل والهولوكوست المفكر والمؤرخ الإسرائيلي “توم سيغيف” Tom Segev، في كتابه “المليون السابع: الإسرائيليون والمحرقة“، والذي رصد فيه عقيدة الإسرائيليين في لوم وعتاب ضحايا المحرقة على أنهم لم يكونوا شجعانًا ومقاتلين ليدافعوا عن أنفسهم؛ فخلق هذا الأمر شعورًا بالعسكرة داخل المجتمع الإسرائيلي كي لا يتكرر الهولوكوست؛ فضلاً عن التلاعب بقضية المحرقة وتوظيفها ضد الفلسطينيين، وتصدير الدعاية والبروباجاندا التي تصف أي مقاومة للعصابات الصهيونية الأولى أو للحكومات الأخيرة على أنها محاولات لتكرار المحرقة، وهي العقلية الطفولية التي أشرت لها في البداية، وقلنا إنها تشكل جزءً كبيرًا من عقل الإسرائيليين، والمسؤولة مباشرة عن عدم إدراك الصهاينة بفداحة السرقة أو وعيهم بقيمة الحياة والملكية بشكل عام.
ولولا عقدة الاضطهاد التي لازمت الشعب الإسرائيلي، ما حدث كل هذا التطور الذي أعتقد أنه بدأ يتشكل في الوعي الصهيوني على مراحل؛ أشهرها حقبة الستينيات بعد محاكمة مجرم الحرب النازي “أدولف إيخمان” عام 1961م في القدس، وما أعقبها من إدخال دراسات المحرقة في النظام التعليمي الإسرائيلي، وقد وضحت تأثيرات تلك الثقافة في ردود أفعال إسرائيل ومسؤوليها في الأمم المتحدة بعد اتهامهم بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة، منذ يوم 7 من أكتوبر الماضي 2023؛ حيث ارتدى مندوبو إسرائيل أوشحة عليها نجوم سداسية صفراء، كالتي فرضها النازيون على اليهود على أنها نوع من التمييز الشكلي؛ فصارت في الثقافة الشعبية الإسرائيلية رمزًا لاضطهاد وإبادة اليهود، ورفعها في الأمم المتحدة يعني اتهامهم للمقاومة الفلسطينية بالنازية، واتهام مبطن آخر للأمم المتحدة على أنها تدعم النازية في حال إدانتها لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب.
سلوك الإزاحة
ومن الأسباب النفسية أيضًا لجرائم إسرائيل، هو ما يُعرَف بسلوك الإزاحة، ويُطلق عليه بالإنجليزية Displacement، وهو (آلية دفاعية نفسية) التي تستهدف إبعاد خطر معين باتهامات غير موجودة هي عند المريض به، وهي طريقة سهلة للدفاع وحيلة مضمونة للانتصار؛ فدفاع هؤلاء عن أنفسهم وأهدافهم قد يكون صعبًا لأنه يستلزم حججًا عقلية ومنطقية وعلمية غير متوفرة؛ فتكون الوسيلة هي استبدال هذه الحجج باتهامات مقابلة؛ بأن تشتم أو تتجاوز أخلاقيًا لإرهابك عن نقدهم والاختلاف معهم، وفي الحالة الصهيونية يُزيحون عن أنفسهم كاهل جرائمهم ومسؤولية مذابحهم باتهام خصومهم بالرهاب اليهودي أو معاداة السامية، أو الاستعداد لإبادتهم كما فعل هتلر، رغم أن المتتبع لتاريخ اليهود مع المسلمين نراه أكثر مسالمة عن تاريخهم مع الأوروبيين.
إن واحدًا من أشهر زعماء الصهيونية في القرن 19م، وهو الطبيب والمفكر البولندي “ليون بينسكر” كان من الذين زرعوا في نفوس الصهيونية هذا السلوك بالتضخيم والمبالغة في وصف وتصنيف المعترضين ومخالفي اليهود في أوروبا، عبر اتهامهم برهاب اليهودية أو معاداة السامية، وقد استقر في نفوس الصهاينة هذا السلوك بعد كتابه الشهير “التحرر الذاتي أو الانعتاق الذاتي”، الذي أدى إلى تسييس الدين اليهودي وتناول اليهودية كجماعة سياسية وقومية تشعر بالاغتراب، وعليها التحرر الذاتي من ذلك الاغتراب بالوحدة والتجمع على أساس ديني؛ فكانت ثمرة جهوده إنشاء وتأسيس جمعية “محبي صهيون”، وهي من أوائل الجمعيات والحركات الصهيونية مع بيلو وهرتزل في الدعوة لإنشاء وطن قومي لليهود، لكن مع “بينسكر” كانت تلك الدعوة مصحوبة بشكوك وهواجس ضد الآخرين دفعت المؤمنين بها للعداء والعنف مع المختلفين في الرأي.
لقد خدمت رؤية “بينسكر” مشاعر الإحباط والملاحقة وخيبة الأمل التي صاحبت مجازر الأوروبيين ضد اليهود في القرنين 19 و 20، واستقر في نفوس الصهاينة أن مطلب الوطن القومي لليهود ليس نوعًا من الرفاهية والرخاء، ولكن ضرورة حياة للشعب اليهودي، وعليهم إنجازه مهما كان الثمن، ووفقًا للمثل الشعبي المصري “يا إما أصابت أو اثنين عُور”، في إشارة إلى يأس الأعور من المخاطرة بعينه السليمة لعلاج عينه المريضة؛ فالمغامرة التي سوف يُقدمون عليها إما أن تُكسبهم الحياة كاملة ورخاء ومتعة لم يعشها اليهود سابقًا وحاضرًا، أو يموت اليهود جميعهم؛ فلا فارق بين ما يعانونه مع الأوروبيين وبين ما سيحدث وفقًا للتوقعات.
ليس من العسير تبرير الجرائم وتشريع القبائح؛ فالعقل الإنساني يمكنه تغيير الحقائق باستغفال وخداع الضمير
John Doe Tweet
فقد عانى اليهود من نظام القيصر الروسي، في وقت كان الشعور بضرورة وجود وطن قومي فكرة حالمة، ولكنها حائرة جغرافيًا بين فلسطين وأوغندا والأرجنتين؛ فكان المؤتمر الصهيوني السابع عام 1905 حاسمًا برفض فكرة أوغندا؛ فانطلق اليهود الروس للهجرة إلى فلسطين بعشرات الآلاف، بلغ 35 ألف مهاجر روسي بالتوازي مع فشل الثورة الروسية في نفس العام في إقصاء خصومهم السياسيين، وقد أكسبت هذه الهجرة ميزات وتجارب وتراكمات عديدة بفعل توالي الأحداث، وتطور عقول اليهود من مؤتمرات الصهاينة الدائمة، واستذكار المشاعر الدينية والقومية التي خلفها أمثال بينسكر وهرتزل وقساوسة اليهود والإنجيليين، على أنها ليست مجرد مشاعر مجردة وعاطفية، ولكنها مشروع وجود وقصة حياة ورباط روحي وجداني، يجمع بين يهود العالم ووطنهم القومي المنتظر.
ويظهر سلوك الإزاحة بوضوح في تركيز الصهاينة على ردود الأفعال على جرائمهم، ونسيان ما فعلوه بضحاياهم بادئ الأمر؛ فجرائمهم ضد الفلسطينيين وسرقة أرضهم بالإكراه وبناء المستوطنات عليها وقتلهم جماعيًا منذ عشرينيات القرن الماضي لا يذكرونه، والحصار الإسرائيلي على غزة منذ عام 2007 لا يذكرونه ولا احتلالهم لمزارع شبعًا اللبنانية والجولان السورية واعتداءاتهم المتكررة على سوريا، ويُفضلون تجاهل حقيقة أن الملايين من الفلسطينيين المحاصَرين في القطاع هم منحدرون من آباء وأجداد طردهم الصهاينة الأوائل من قراهم وأملاكهم ومنازلهم من أجل قيام دولة إسرائيل في الأربعينيات، ويُقابلون هذه الحقائق بغطرسة واستنكار وتصدير وهم تفوقهم على حساب المناقشات العقلانية والمنطقية والأخلاقية، والتركيز على هجوم حماس والمقاومة الفلسطينية دون حساب هجومهم الأكثر دموية ضد الشعب الفلسطيني منذ عشرات السنين.
خاتمة
وأختم بأنه ليس من العسير تبرير الجرائم وتشريع القبائح؛ فالعقل الإنساني يمكنه تغيير الحقائق باستغفال وخداع الضمير، وكثيرًا ما نرى مجرمين في السجون من المحكوم عليهم يُبررون أفعالهم بمسؤولية ضحاياهم عن ما حدث لهم؛ فقط لتبرئتهم أمام ضمائرهم، وأن ينعموا بالهدوء الكافي للعيش في صورة أبرياء وضحايا كما يتوهمون، وكثيرًا ما نرى مدمني المخدرات والكحوليات يبررون أفعالهم على أنها هروب من المشاكل ونسيان الصعاب، لكن يبقى ارتكاب هذه القبائح والمخالفات عند الآخرين وفي نظر القانون والشرائع والأخلاقيات مختلفًا، وهذا الذي كان وسيظل يطارد إسرائيل وأنصارها، وأن كافة كتب القانون والأخلاق والشرائع والأديان ترفض ما يفعله الصهاينة بفلسطين؛ فلو نجحوا في خداع أنفسهم بقبول تلك الجرائم؛ فلن يقبلها العالم، وسيظل يطاردهم بها حتى يسقطوا ويصبحوا عبرة في كتب التاريخ.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
My cousin suggested this page to me, however I’m not sure if he wrote this post because no one else has such in-depth knowledge of my problems. You are incredible, thank you.