بات في حكم المؤكد أن إنشاء دولة إسرائيل بكيان يهودي صهيوني في الشرق الأوسط كان خطأ كارثيًا، أشعل الحروب منذ أكثر من 75 عامًا حتى الآن، وقد نتج عن ذلك مقتل وإصابة وتشريد الملايين من شعوب الشرق الأوسط، فضلاً عن مركزية هذه الحروب في التأثير السلبي على قضايا أخرى تمثل علاقة مباشرة بين العرب والمسلمين من جهة، والقوى العظمى الغربية من جهة أخرى.
فمعنى أن تبدأ قصة إسرائيل بمجازر وإبادة جماعية في الأربعينات، وتُختتم حاليًا – بشكل مؤقت – بإبادة جماعية راح ضحيتها 100 ألف فلسطيني بين شهيد ومفقود ومُصاب في قطاع غزة، وما بين ذلك سلسلة حروب متصلة لم تتوقف، مثّلت فيها إسرائيل قاعدة عسكرية للغرب، يؤكد ذلك بما لا يدع مجالاً للشك أننا نعيش في ظل خطيئة سياسية إنسانية يتحمل وزرها العالم في العقود الثمانية الأخيرة، وجوهر هذه الخطيئة هو في قبول هجرة يهود أوروبا لفلسطين كي يحلوا محل شعبها العربي الذي يقطنها منذ قرون طويلة، مدعين في هذا بأن لهم الحق الديني والتاريخي قبل آلاف السنين، في مفارقة تصطدم عقائديًا وعقليًا مع توجهات الحضارة الحديثة، التي رأت أن استدعاء الحروب الدينية والتاريخية القديمة هو عمل همجي يميز ثقافات القرون الوسطى قبل تطور البشرية حقوقيًا وعلميًا في العصر الحديث.
إن الذي عقّد هذه الخطيئة ليست فقط جرائم إسرائيل؛ إنما تطور الصراع معها من الجانب القومي العربي إلى الجانب الأيديولوجي الإسلامي، فقبل أول اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل سنة 1979م، كان الطابع القومي العروبي هو المميز والمؤثر على الصراع، لكن بعد الاتفاقية ذهب هذا الطابع وضعف شيئًا فشيئًا لصالح طابع آخر ديني، هو الحجر الأساس في تكوين دولة إسرائيل، والسبب المباشر في التشجيع على الهجرة اليهودية الأوروبية لفلسطين، وهو المصدر الأول للدعم الأوروبي الأمريكي لإسرائيل كما بينا من قبل في عدة دراسات على مواطن، منها: “أميركا وإسرائيل، تحالف ديني أم شراكة وتبعية سياسية؟” و “في جذور المسألة الصهيونية: كيف يدعم الغرب إسرائيل من منظور ديني؟”
مع انسحاب مصر من الصراع كأثر مباشر لاتفاقية السلام، وما مثله المصريون من الطابع القومي العروبي، حَلّت محلها إيران كأثر مباشر في صعود الأصولية الدينية الإسلامية، وما يمثله ذلك من الطابع الأيديولوجي الديني، مع اختلاف كبير في سُبل التناول للحرب، فمصر لم تُصارع إسرائيل بجماعات وأحزاب في دول أخرى، لكنها اشتبكت مباشرة معها في 4 حروب متصلة؛ أعوام 1948، 1956، 1967، 1973، ولعل السر في ذلك هو فلسفة تكوين القوميات المحلية والمناطقية التي تستدعي القوة الذاتية والفخر الوطني وتاريخه النضالي كوقود للدفاع عن الذات، وهي فلسفة مختلفة عن تكوين القوميات الدينية والأيديولوجيات العقائدية التي لا تعترف بالأوطان والحدود كحواجز عازلة؛ بل تضع الهوية الدينية وموروثها الفكري فوق هذه المفاهيم، وتعتبرها مصدرًا أساسيًا للمواجهات.
مع بداية حضور ونفوذ الأيديولوجيا الدينية الإسلامية ضد إسرائيل منذ عام 1979، لم تفرق هذه الأيديولوجيا بين “اليهودي والصهيوني”، نظرًا لما ورثته من طابع قومي عروبي قديم كان يخلط بين الاثنين في أعقاب الهجرات اليهودية الواسعة من الدول العربية بعد عام 1948، ولدلالة اليهود كديانة في القرآن ذكرت في غالب أحوالها بشكل سلبي، وقد أفضنا على مواطن بدراسة استقصائية عن جذور هذه الثقافة في مقال “الجذور الدينية لمشكلة فلسطين“، برغم أن التاريخ الفلسطيني شهد تعايشًا ملحوظًا على مدار قرون بين المسلمين واليهود قبل قيام دولة إسرائيل، إلا أن التدفق الكبير ليهود أوروبا الفارين من مذابح الحروب العالمية الأولى والثانية، غيّر من خارطة الأوضاع ونقل هذا التعايش إلى ساحة صراع ومواجهات لم تتوقف.
هذه الاختلافات البنيوية بين اليهود ناحية تصورهم لإسرائيل، لم يفطن إليها تيار الإسلام السياسي؛ فهو مشحون بتوجه عقائدي ضد اليهود لأسباب مختلفة، من بينها الثقافة العربية وما يبثه القوميون العرب ضد إسرائيل من تعميمات لا تدرس الواقع الإسرائيلي بشكل علمي
John Doe Tweet
برغم أن اليهود في معظمهم كانوا ضد قيام دولة إسرائيل، وعلى سبيل المثال نشاط الحركة البوندية اليهودية العالمية Bundism التي أسست في روسيا عام 1897م، على أساس اشتراكي علماني كان يعارض الصهيونية الأولى، حتى إنها وصفت الصهيوني بأوصاف قبيحة؛ منها الأغنية الشهيرة “أيها الصهيوني الصغير الأحمق”، وترجمتها Oy، Ir Narishe Tsionistn، وقد نتج عن هذه الحركة البوندية حزب اشتراكي كبير اسمه “رابطة العمل اليهودية العامة” General Jewish Labour Bund، حتى أصبحت هذه الرابطة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 هي الطيف السياسي والفكري للبوندية في العالم.
السبب الرئيسي لمعاداة البونديين اليهود لإسرائيل أن البوندية حركة علمانية ترى ضرورة فصل الدين عن الدولة، وبما أن إسرائيل قامت على أساس ديني تم وصفها في الأوساط البوندية بأوصاف قبيحة، راجت وانتشرت بين يهود الاتحاد السوفيتي والمهاجرين البونديين لأمريكا الشمالية بشكل عام.
هذه الاختلافات البنيوية بين اليهود ناحية تصورهم لإسرائيل، لم يفطن إليها تيار الإسلام السياسي؛ فهو مشحون بتوجه عقائدي ضد اليهود لأسباب مختلفة، من بينها الثقافة العربية وما يبثه القوميون العرب ضد إسرائيل من تعميمات لا تدرس الواقع الإسرائيلي بشكل علمي، لذلك خرجت موسوعة د. عبد الوهاب المسيري المعروفة “بموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية” في التسعينات لتُلقي حجرًا في الماء الراكد، وتلفت أنظار العرب والمسلمين لتلك الفوارق الجوهرية حتى لا يقع المسلمين والعرب في خطيئة “معاداة السامية” على الأقل، فيحصلون على ثقة الشعوب الغربية والمجتمع الدولي الذي كان يرى إسرائيل بصورة المدافع عن نفسه، ولعل الانقلاب في الرأي العام الدولي ناحية فلسطين مؤخرًا ووقوفه ضد إسرائيل من حسنات هذا الإدراك، وحصر المعارك ضد إسرائيل في جزئية “رفض الصهيونية والاحتلال” فقط لا غير، وما يعنيه من تطرف ديني عقائدي يحارب في فلسطين بناء على فاشية أحادية وتوجه عنصري يخالف كافة القوانين والشرائع.
صراع عقائدي يختلط بالسياسة
إن صعود إيران كقوة دينية وسياسية لم يحدث بشكل منفصل عن صعود الحركة الوهابية السنية؛ حيث تزامن هذا الصعود معا ليُشكل أيديولوجيا إسلام سياسي شعبي في المجتمعين السني والشيعي، ورأينا معها صعود أفكار؛ مثل حد الردة ودولة الشريعة كبديلة عن أفكار عروبية قومية لم تميز بين المواطنين على أساس الدين، فشرعت إيران في تطبيق حد الردة وأعدمت عشرات البهائيين والمفكرين بنفس التهمة، وأشهر من أعدم بتهمة الردة في إيران المفكر الأذربيجاني “”رفيق تقي” عام 2011، بعد إفتاء بعض مراجع الشيعة الإمامية في إيران بردته؛ منهم آية الله العظمى “محمد فاضل لنكراني” وآية الله “مرتضى بن فضل”، وهو نفس السلوك الذي ميز الحركة الوهابية والإخوان المسلمين في المجتمع السني حين أشرفوا ودعموا قتل المفكر المصري فرج فودة عام 1992 بنفس التهمة.
هذه الأفكار الأصولية الإسلامية هي التي سيطرت كثقافة عامة على المشهد في فلسطين لتحل محل القومية العروبية، وأصبحت هي المسؤولة عن تكوين جبهة المقاومة ضد إسرائيل على مستوى الثقافة؛ فصعدت أحزاب “حماس وحزب الله والجهاد” لتُصبح هي المُكوّن الرئيسي لجبهات المقاومة المشتبكة فعليًا مع الاحتلال.
وإيران بوصفها القوة الإقليمية الكبرى الراعية لهذه الأفكار، نجحت في تقديم نفسها كمُشرف وداعم رئيسي لحركات المقاومة الإسلامية المختلفة ضد إسرائيل، وبالتخطيط الدقيق طويل الأمد نجح الإيرانيون في تكوين وصناعة ودعم جبهات إسلامية مختلفة في اليمن ولبنان وسوريا والعراق، ليكونوا هم الحاضنة الشعبية المتحالفة مع مقاومة فلسطين، وقد ساعد هذا التوجه سلوكيات إسرائيل منذ صعود رئيس الوزراء الحالي “بنيامين نتنياهو” في منتصف التسعينات ليقضي عمليًا على اتفاق أوسلو، ويُسرف في بناء المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية، حتى أثّر ذلك شعبيًا في صعود اليمين الديني الصهيوني مرة أخرى بعد تلقيه ضربات سياسية واجتماعية وأيديولوجية في أعقاب اتفاق السلام مع مصر عام 1979 وتفكيك مستوطنات سيناء عام 1982م.
ولطبيعة نظام إيران السياسي؛ فهو يجمع بين الطابع الثيوقراطي والديموقراطي، وتركزت السلطة في يد المرشد العام بناء على خيارات شعبية؛ فصارت قرارات وميول وخيارات المرشد تحصل على الصفة الشعبية فورًا ولو لم تكن كذلك في جوهرها، لكن السلطة المعنوية لهذا المنصب في الدولة جعلت من فكرة قبول أو رفض قراراته غير معتبرة في ظل الحالة العسكرية والأمنية التي يصدرها ويحرص على إيجادها النظام السياسي الحاكم.
وهي بالمناسبة نفس الطبيعة الدينية الحاكمة في إسرائيل؛ حيث بصعود اليمين الديني الصهيوني تدريجيًا بعد كامب ديفيد 1978 ونشاطه وقوته وانتشاره بعد أوسلو 1993، لم يترك الخيار للشعب الإسرائيلي في اختيار ممثليه بين أحزاب مختلفة، فرأوا بحكم الثقافة العامة وطغيان التشدد الديني المصاحب لصعود هذا التيار أن أي رأي وقرار وميول للسلطة السياسية الدينية، هو معبر عن مصالح ورغبات إسرائيل بالضرورة، وهذا سر من أسرار قوة أبرز زعماء إسرائيل بعد أوسلو، (نتنياهو وشارون)؛ فالطبيعة التي حكموا بها شبيهة للطبيعة التي حكم بها المرشد العام إيران، وهي لا تخرج عن فكرة إضفاء القدسية على قرارات وميول القادة، لتعلق هذه القدسية بمستقبل ومصير الدولة في الأخير، نظرًا لحرص النظام السياسي في كلا البلدين على تعزيز نظرية المؤامرة وحشد الشعب للمقاومة بدافع البقاء، وتوصيف أي معارضة للدولة على أنها خطر على وجودها بالأساس.
فالفكرة المُحفزة لقادة الدولتين تنطلق من مبدأ التفوق الذاتي، لأن الإسلام الأصولي يرى نفسه متفوقًا ذاتيًا لمجرد الانتماء، بدعوى أنه “خير أمة أخرجت للناس”، بينما اليهودي الأصولي يرى نفسه متفوقًا ذاتيًا أيضًا لمجرد الانتماء بدعوى أنه “شعب الله المختار”.
طوفان الأقصى وسرديات الاستعمار: ثلاث معارك حتمية لتحرير فلسطين
ما بعد طوفان الأقصى.. هل انتحرت حركة حماس في السابع من أكتوبر؟
ومن هنا يظهر أحد أهم أسباب الصراع الحالي أو الخلاف بين إيران وإسرائيل، فكلاهما يرى الآخر بصورة دينية قبل أي اعتبار سياسي، ولا ينفي ذلك المَحمَل السياسي أو الطابع العسكري والطموح التوسعي المتعلق به؛ بل هو مُكمّل للرؤية الدينية في الأخير، وتلك النظرة العقائدية رغم كونها موروثًا إسلاميًا ويهوديًا ومسيحيًا، لكنها تشكل جزءً كبيرًا من الصراع بين ذوي هذه الأديان، ولا يختلف الشيعي عن السني في هذا المضمار؛ فالوهابي أو الإخواني السني الذي يرى حرب إسرائيل آخر الزمان تحت قيادة الخليفة والمهدي المنتظر السني، هو نفسه الشيعي الذي يرى حرب إسرائيل آخر الزمان تحت قيادة إمامهم الأوحد المهدي المنتظر، وقد لا يظهر هذا المعتقد بشكل واضح في أدبيات السنة والشيعة، لكنه يشكل مرتكزًا ودافعًا نفسيًا وعقائديًا لتبرير الصراع بشكل عام، نظرًا لأن السياسة والحرب غلبتا شكليًا على المواجهات بفعل الإعلام وتكرار المعارك، ومعها استدعاء نفس الجُمَل والعبارات السياسية؛ فغابت إثرها القواعد النفسية التحفيزية التي بقيت في العقل الباطن، لتظهر عند تعقد المواجهات أو فشلها.
ونظرًا لهذه الطبيعة الدينية للصراع؛ فسيكون من صالح إسرائيل الحرب معها بدافع “كراهية اليهود”، لأن ذلك سوف يُحفّز؛ ليس فقط بقية اليهود، ولكن محبيهم وأنصارهم من بقية الأديان، غير رواد وناشطين حقوق الإنسان الذين يرون هذا الفعل عنصريًا وطائفيًا خارج عن كل الأطر والقوانين والتشريعات، ويمثل أحد أهم جوانب العقلية القروسطية التي تمردت عليها البشرية وانقلب عليها الإنسان المعاصر في القرن العشرين، وكذلك فهو انقلاب على الدولة الحديثة وأفكار المواطنة وحقوق الإنسان المصاحبة لها، ولعل هذا الطابع الذي ميّز العرب في العقود الماضية إثر تصديهم للمواجهات ضد إسرائيل بدعوى “كراهية اليهود”، هو الذي أضعفهم في مواجهة الصهيونية العالمية منذ الأربعينات حتى فترة قريبة؛ فحصلت إسرائيل على شعبية هائلة خارج الوطن العربي رغم أنها قوة استعمارية فعلت الجرائم، ودولة احتلال لم تغادر أفعال وسلوكيات الإمبريالية في الماضي، وهو السر أيضًا في ضعف إسرائيل حاليًا، وانقلاب الرأي العام الدولي عليها منذ أعوام قليلة، بعد تغيير المقاومة لخطابها والتركيز فقط على الصهيونية والفاشية المصاحبة للاحتلال.
ونفس الحال في إيران؛ حيث إن سقوط النظام الديني للملالي لن يحدث أيضًا بالحصار أو التحريض الطائفي ضد الإسلام والشيعة أو الأيدلوجي ضد ولاية الفقيه، هذا يخدمه؛ بل يُسقطه الانفتاح السياسي والثقافي الذي يخدم الإصلاحيين والليبراليين في الداخل، ويُكثر من عُزلة المتشددين على أرض الواقع، مما يدفع الدولة لتغيير ولائها بالتدريج ناحية الانفتاح، ومن يجهل من هم إصلاحيو إيران لن يستوعب هذه النقطة، لأن إصلاحيي إيران هم منظومة متكاملة من خصوم الحرس الثوري، نجح الخوميني في تدجينهم والاستعانة بهم في الثمانينيات، وهم خليط من مثقفين وأدباء وسياسيين وأعيان ورجال دين معتدلين، لهم آراء ضد الدولة الدينية والحجاب الإلزامي وقمع الآخر الديني، ويتفقون مع كثير من معايير حقوق الإنسان، ولولا نجاح الخوميني في تدجينهم لانضموا إلى ثورة (اليسار والنسويين) التي امتدت منذ عام 1979 – 1985 والميزان الاجتماعي كان لصالحهم، لكن ميلهم للثورة هو الذي أحدث الفارق.
لذلك فقد شبهتُ الوضع الداخلي في الدولتين (بالسوستة أو الزنبرك)؛ فكلما ضغط عليه من الخارج كلما يكتسب قوة داخلية ترتد إليك بدرجة أعلى، فكلما رفعت المقاومة الفلسطينية والعربية والإسلامية شعار “كراهية اليهود” كلما خدم ذلك إسرائيل وقادتها، وكلما رفع خصوم إيران شعار “كراهية الشيعة وولي الفقيه” كلما خدم ذلك نظام المرشد، وهذه كانت وتظل طبيعة النُظُم الدينية؛ خصوصًا التي لا ترفع سلاحها على الجميع وتجيد اختيار أعدائها وفقًا لمعايير شعبية، أما من يرفع سلاحه على الجميع ويعلن ضرورة تغيير العالم ككل؛ فسيفنى بسرعة لاتحاد العالم ضده كجماعات داعش والقاعدة كمثال، أما النُظم الدينية كالتي توجد في إسرائيل وإيران يُسقطها الليبراليون والإصلاحيون ودعاة السلام من الداخل، وتشجيع هذه الفئات من الخارج بالتركيز فقط على انتهاكات هذه النظم لحقوق الإنسان والحريات، لا الانتماء الديني العام والشامل التابع له الأغلبية.
مصالح متشابكة
لكن وبرغم هذا الاختلاف الجذري بين الدولتين، يبقى أن هناك عوامل مشتركة تجمع الأنظمة الدينية أو الأفكار العقائدية المختلطة بالسياسة في العموم، وتتلخص هذه العوامل في عدة أشياء:
أولا: كلاهما خصم للعولمة والانفتاح الليبرالي والحقوقي؛ فتأثيرات العولمة الثقافية بلغت مداها نهاية الحرب الباردة (1947- 1991)؛ فرأينا صعودًا للتيارات الحقوقية التي أضعفت الأيديولوجيات القومية والدينية آخر هذه الفترة، وهو الصعود الذي أدى لإيقاف عدة حروب مشتعلة بالعالم، منها الحرب الأفغانية السوفيتية (1979- 1989)، والحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990)، والحرب العراقية الإيرانية (1980- 1989م)، والحرب الأهلية الموزمبيقية (1976- 1992)، والحرب الأثيوبية الإرترية (1961- 1991)، وغيرها.
وقد رافق هذا الصعود فترة تهدئة وسلام منذ التسعينيات، كان منها اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين سنة 1993م، واتفاقيات استقلال دول الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991، وتفكك يوغوسلافيا 1991- 1992، وتشيكوسلوفاكيا 1993، وغيرها أيضًا؛ فالصدمات والحروب التي ميزت حقبة الحرب الباردة والخسائر البشرية والاقتصادية الهائلة أنتجت وعيًا بضرورة الانفتاح والتواصل مع الغير، وهو الوعي الذي خدم فكرة العولمة وأعادت مبادئ الدين والقوميات لوضعهما الأول، كنفوذ محدود على معتنقيه وليس على الغير مثلما كان شائعًا، ولولا هذا الوعي والانفتاح والعولمة ما حدثت اتفاقية أوسلو كمثال، أو توقفت هذه الحروب التي كان يشعلها ويتغذى منها الصراع التاريخي بين القوميات والأديان والأيديولوجيات.
هذه الخصومة للعولمة تخدم زعماء الدولتين، باعتبار أن العولمة حالة ثقافية إنسانية تشيع فيها الحريات ومبادئ المواطنة وحقوق الإنسان، نظرًا لأن هذه الحالة رافقت هزيمة للفريق الشيوعي والاشتراكي المعارض للفكر الليبرالي، ولذلك كان رفض العولمة ليس منبعه رفض مبادئها الكلية، وإنما أحيانًا يكمن هذا الرفض في جزئياتها المناسبة أكثر للمجتمع الغربي، ولدولة أو شعب دون بقية شعوبه أحيانًا، وبالطبع سيكون للإيمان بالمواطنة وحقوق الإنسان والحريات متطلبات ولوازم لقادة الدولتين، تجبرهم على الاعتراف بحقوق الأقليات الدينية والعرقية، كالعرب والسنة في إيران، والعرب والمسلمين في إسرائيل، مما يُسهم في رفع شعبية وحضور هذه الأقليات بما يهدد طبيعة الدولة العقائدية في الأخير.
إن بقاء الصراع على هذا النحو يجعل من إسرائيل وإيران قوى عظمى إقليمية لا غنى عنها في أي حلول؛ فيبحث الوسطاء عما يُرضي كلتا الدولتين
John Doe Tweet
ثانيا: تتميز الدولتان بقدرتهما على الحشد الديني والعاطفي؛ فإسرائيل تحشد اليهود والإنجيليين وخصوم الإسلام المتعصبين بالمجمل، وكذلك تحشد إيران المسلمين والعرب وخصوم اليهودية من أعداء السامية بالمجمل، وليس في هذا السياق تشبيه أو اتهام للعرب والمسلمين بعداء السامية، ولكن الموقف الإيراني المعادي لإسرائيل يجذب طباعًا مختلفة من الناس متنوعي الثقافات والمناظير والمواقف السياسية، كذلك ليس اتهامًا لجميع اليهود والإنجيليين بالتعصب ضد الإسلام، لكن الموقف الإسرائيلي وإعلان نفسه كدولة يهودية تحارب مقاومة إسلامية – حماس والجهاد –، أعطى انطباعًا للمتعصبين ضد الإسلام، أو الذين يعانون من الإسلاموفوبيا بضرورة بقاء ودعم هذا الموقف؛ خصوصًا لو كان هذا الدعم يترافق مع تشبيه مقاومة فلسطين بحركات داعش والقاعدة، حينها يكون دعم إسرائيل لدى هذه الفئة مبرر حقوقي وإنساني.
إن هذه القدرة على الحشد تتغذى على بقاء هذا الصراع بالضرورة، ومن ثم بقاء مشكلة فلسطين يمثل خدمة للطرفين؛ ليس فقط من ناحية الصراع نفسه، ولكن من ناحية تكوين هذه الدول وشعبية قادتهم وبرامجهم ومشاريعهم الفكرية، مثل الدعوة لتحرير القدس والمسجد الأقصى عند إيران مثلاً، ويقابلها تحرير أورشليم من دنس الأغيار عند اليهود، أو اعتبارها مركزًا وعاصمة لدولة أرض الميعاد الراسخة في الفكر الصهيومسيحي الدولي، وهو الجانب الذي يخدم هؤلاء القادة ضد خصومهم المحليين والأحزاب المختلفة بالعموم؛ فكلما طالت وبقيت هذه الشعارات كلما تعززت سلطة ونفوذ القادة وبقيت مكاسبهم أطول فترة ممكنة.
ثالثا: إن بقاء الصراع على هذا النحو يجعل من إسرائيل وإيران قوى عظمى إقليمية لا غنى عنها في أي حلول؛ فيبحث الوسطاء عما يُرضي كلتا الدولتين، وفي العرف السياسي تصبح مفاوضات الحل لا تتركز في القضية نفسها؛ بل تضع في حساباتها مصالح الدولتين أيضًا على مستويات مختلفة في (الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة والعسكرية والدين والأيديولوجيا)، وهو ما يعطي نفوذًا وحضورًا إقليميًا ودوليًا أكثر وسيطرة واسعة تقضي أو تنافس قوى عظمى إقليمية أخرى.
وهذا المكسب يمكن فهمه من خلال المشروع الإبراهيمي الإسرائيلي، الذي تم تقديمه من دول عربية صديقة لإسرائيل كالإمارات، ويتركز في دعواه على ضرورة التعايش بين ذوي الأديان الثلاثة الإبراهيمية (الإسلام والمسيحية واليهودية)، ومن ثم هو مشروع سلام وتسامح ديني إنساني عند أصحابه، لكنه لم يكن كذلك عند خصومه الذين رأوه دعوة لتكريس الاحتلال وتفوق اليهودية ومؤامرة من الصهيونية المسيحية الدولية، مثلما أعلن ذلك شيخ الأزهر مثلاً، وكتب فيه العديد من النخبة نقدًا، حتى إن البعض ربطها بمشروع “صفقة القرن“، وهو مشروع سياسي صهيوني رعاه الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب عام 2019، ويهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية بدفع تعويضات للاجئين وتسكينهم في دول مختلفة خارج فلسطين.
فالوسيط الإماراتي الذي بحث عن السلام يبدو أنه كان مقتنعًا بهذا الحل الإبراهيمي، لكنه في ذات الوقت غضّ الطرف عن خدمة هذا الحل لإسرائيل وضرره على الفلسطينيين، باعتبار الصهيونية ونظام الفصل العنصري الحاكم جزءً من المنطقة يجري التطبيع معه ثقافيًا واقتصاديًا وشعبيًا، كذلك فالوسطاء الذين تعاملوا مع إيران للبحث عن حلول غضوا الطرف عن أحزاب وجماعات لها ميول وعواطف ناحية النظام الإيراني ومشروعه العقائدي في عدة دول عربية، مما أسهم في صعود هذه الجماعات شعبيًا وسياسيًا وعسكريًا، حتى إنني لا أستبعد خلق حوار مباشر بين الدولتين، أو عن طريق وسطاء لاقتسام النفوذ دون تصعيد، ولكن بما أن المعلومات في هذا السياق غائبة، وهو سياق يخدم أكثر نظرية المؤامرة؛ فلست من مؤيديه أو مريديه، ولكنني أضعه كاحتمال ممكن من احتمالات السياسة التي في جوهرها تكون أكثر روعة وشغفًا للمعرفة بحدوثه.
أخيرًا: لا أعنى بهذا التحليل تشبيه إيران بإسرائيل؛ فالمؤكد أن وقوف إيران ضد الإبادة الجماعية في قطاع غزة وضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين هو وقوف بجانب الحق والحقيقة والعدالة، وموقف الإيرانيين على الجانب الصحيح من التاريخ، أيًا كان دافعهم من وراء ذلك فلا يهمنا سوى النتيجة العملية، ولا شأن لنا بالنوايا والسرائر، لكن تسليط الضوء على هذه المشتركات والخلافات، وإعادة فهم جذور الصراع بينهم بشكل جديد يتضمن أبعادًا جديدة، هو أمر هام على المستوى الثقافي، ويرفع الوعي الدراسي عند المهتمين، ويساعد ذوي السلطة والمسؤولين لرؤية حقائق الماضي والحاضر والمستقبل.
فثمة غموض وفشل باستقراء هذه العلاقة بين الدولتين، ألحظه عند أغلبية النخبة العربية المثقفة التي تخوض في هذا الملف بانحيازات مسبقة؛ مع أو ضد الدولتين، أو انحياز لطرف منهما ضد الآخر، وهذا المقال يضع النقاط فوق الحروف، ويفض الاشتباك، ويحل كثيرًا من الألغاز عند بعض الباحثين، ويسلط الضوء على ضرورة تحرير المفاهيم بتجريدها عن مؤثرات الإعلام والسلطة والصحافة، وأن تخضع دراسات هذه المفاهيم لاعتبارات علمية بحتة على الأقل، لفهم حروب وصراعات الشرق الأوسط التي تتعلق في أغلبها بتلك العلاقة بين الدولتين؛ فالأمر ليس سخيفًا لإهماله؛ بل يتعلق بمصلحة شعوب المنطقة بأسرها دون تمييز.
I loved even more than you will get done right here. The picture is nice, and your writing is stylish, but you seem to be rushing through it, and I think you should give it again soon. I’ll probably do that again and again if you protect this hike.
I loved even more than you will get done right here. The overall look is nice, and the writing is stylish, but there’s something off about the way you write that makes me think that you should be careful what you say next. I will definitely be back again and again if you protect this hike.
Your article was a great read. For a related viewpoint, this link might offer some additional perspectives
Hey, cool post You can check if there’s a problem with your website with Internet Explorer. Because of this issue, many readers will overlook your excellent writing because IE is still the most popular browser.