"إن كانت القدرة على العصيان شكلت بداية التاريخ الإنساني، فإن الإذعان من الممكن جدًا أن يكون سببًا في نهاية التاريخ، إني لا أتكلم بشكل شعري أو مجازي، إن معظم أفكارنا حول السياسة، والدولة، والمجتمع متخلفة كثيرًا عن عصر العلم. إن انتحرت البشرية، فسوف يكون هذا بسبب طاعتهم لأحاسيس الخوف، والكراهية، والطمع. سيكون هذا بسبب طاعتهم لأكلاشيهات الدولة والسلطة العليا والفخر الوطني".
عبر هذا المقطع من كتاب “عن العصيان ومقالات أخرى” يمكننا الولوج لرؤى وأفكار عالم النفس والمفكر إريك فروم (1900-1980) عن ثنائية العصيان والاستبداد، وما يرتبط بهما من سؤال جوهري عن مفهوم الحرية ومعناها ودلالاتها وتمثلاتها قديمًا وحديثًا؛ فالحرية بالنسبة لفروم هي القيمة الأم التي تتبلور من خلالها تصورات وأفكار وانحيازات الإنسان على المستوى الفردي والعام.
الكتاب الصادر في نسخته العربية عن دار روافد للنشر بالقاهرة، بترجمة الباحث يوسف نبيل، يتضمن تسعة مقالات متصلة ومنفصلة في آن؛ وهي: العصيان من منظور أخلاقي، أنبياء وكهنة، النزعة الإنسانية، تطبيق التحليل النفسي الإنساني على الماركسية، فليلغب الإنسان، الاشتراكية الإنسانية، المظاهر النفسية لكفالة الدخل، الشيخوخة ومشاكلها النفسية، نظرية واستراتيجية السلام. وبينما تبدو عناوين المقالات متباينة في معانيها وموضوعاتها، إلا أنها تُقدم ملخصًا لأبرز أفكار وتساؤلات فروم عن “الحرية” و”النزعة الإنسانية” و”العقلانية”.
الفرويدية الماركسية
تركز مقالات صاحب كتاب “الهروب إلى الحرية” على ثلاثة أسئلة مركزية وهي: لماذا تنساق المجتمعات خلف الاستبداد حتى وإن حمل ذلك أضرارًا شتى على مصالحها المباشرة؟ وهل هناك فلسفة إنسانية قادرة على طرح بدائل لحالة السيولة و”النسبية المطلقة” الحاكمة للمنظومة الفكرية لعالم ما بعد الحداثة؟ وكيف يمكن فهم الظاهرة الإنسانية عبر مزيج من دراسات علم النفس والاجتماع؟
يُشير المترجم في مقدمته للكتاب إلى أن أهم ما يميز كتابات فروم -من وجهة نظره- هي قدرته على تجاوز وتطوير تصورات مدرسة التحليل النفسي التي ركزت جهودها على الفرد، بينما أهملت الجزء الخاص بدور المجتمع في تشكيل وعي الفرد وفهم الظاهرة الإنسانية “بدأ فروم في تشكيل قناعاته فرويديًا خالصًا، ثم تطور الأمر بعد ذلك باطلاعه على النظرية الماركسية، وعلم الاجتماع، والأديان، والأساطير”.
ويضيف: “أدرك فروم أن الأب والأم اللذين يشكلان شخصية الطفل في الأعوام المبكرة طبقا لفرويد، ما هما إلا نتاج بنية مجتمعية معينة يجب دراستها ومحاولة تغييرها. منذ هذه اللحظة حاول فروم المزج بين الفرويدية والماركسية، وقد أدرك مدى عمق كل منهما وقصورهما في الوقت نفسه عن تجاوز بعض المشكلات”.
من خلال مفهوم “النزعة الإنسانية” التي تحاول تدارك أزمات الفلسفة العقلانية ببعديها المادي التي تسببت في كوارث في بداية القرن العشرين، ويوضح المترجم يوسف نبيل أن مهمة المثقف وفقًا لإريك فروم ونعوم تشومسكي وغيرهم من أصحاب النزعة الإنسانية تركز على هدفين أساسيين هما: محاربة وتفكيك المنظومة القمعية الحاكمة، ووضع تصور للمجتمع المثالي الذي على الإنسان السعي نحوه.
العصيان والإذعان
في مقال بعنوان “العصيان من منظور نفسي وأخلاقي” يستحضر فروم الميثولوجيا الدينية المرتبطة بمفهومي العصيان والطاعة، مشيرًا إلى أن فعل العصيان له حضور بارز في الديانات والحضارة القديمة. ووفقًا لوجهة نظره، فجزء كبير من رحلة تطور الإنسان على المستوى الروحي والعقلي اعتمد على كونه عاصيًا ضد السلطات التي تحاول تكميم الأفكار الجديدة، ومتمردًا على سلطة الآراء الراسخة، مشيرًا إلى بداية الحياة على الأرض وفقًا للأديان الإبراهيمية كانت نتيجة للعصيان والرغبة في المعرفة، محذرًا من كون نهاية الإنسان قد تكون بسبب الطاعة والإذعان.
اقرأ أيضا: مفهوم الاغتراب عند كارل ماركس
يستطرد صاحب كتاب “اللغة المنسية” موضحًا أن كلامه لا يعني “أن كل أشكال العصيان فضيلة، وكل أشكال الطاعة رذيلة” مشيرًا إلى الطبيعة الإنسانية والمجتمعية أكثر تعقيدًا من هذه الرؤية المختزلة؛ فميل الإنسان للطاعة والإذعان يعود لعدة أسباب: “طالما أخضعُ لقوى الدولة الكنيسة والرأي العام فأنا أشعر بالأمان والحماية. بشكل واقعي لا تشكل الجهة التي أخضع لها فارقًا كبيرًا. إنها مؤسسة أو بشر يستخدمون القوة ويدعون معرفة كل شيء وامتلاك القدرة الكلية. إن إذعاني يجعلني جزءًا من تلك القوة التي أعبدها، ومن ثم أشعر بالقوة” بينما يتطلب العصيان شجاعة كبيرة وقدرة على أن يكون الإنسان وحيدًا ومستقلًا، وفي هذا السياق ذاته يربط فروم بين العصيان والحرية كصفتين متلازمتين قائلًا: “أي نظام اجتماعي أو سياسي أو ديني يدعي الحرية ويعمل على إخماد العصيان لا يمكنه قول الحقيقة”.
أي نظام اجتماعي أو سياسي أو ديني يدعي الحرية ويعمل على إخماد العصيان لا يمكنه قول الحقيقة
يشير فروم أيضًا إلى أن الطاعة والإذعان طالما تم تصويرهما باعتبارهما رمزين للفضيلة على مدار التاريخ بينما العصيان رمز للرذيلة، ومن خلال هذا التصور استطاعت الأقلية الحاكمة السيطرة على الأغلبية وجعلهم يقبلون بالفتات ويستمرون في خدمتهم والإذعان لهم، ويشرح فروم كيف تم غرس منظومة الإذعان وتكريسها موضحًا أن ربط الإذعان بالفضيلة جعل منه أمرًا مرغوبًا من الناس، فلم يعد الخوف من العصيان هو المحرك فقط للإذعان، ولكن صار الإذعان ذاته مرغوبًا، فبدلًا من أن يكره الناس أنفسهم لأنهم جبناء، يمقتون العصيان لأنه رذيلة ويفضلون الطاعة لأنها فضيلة، ولذلك تنساق قطاعات مجتمعية خلف الاستبداد حتى وإن حمل ذلك أضرارًا شتى على مصالحها المباشرة.
وفي مقال آخر بعنوان “النزعة الإنسانية .. فلسفة الإنسان العالمية” يضع فروم مجموعة من المبادئ الأساسية لرؤيته للفلسفة الإنسانية وهي: الإيمان بوحدة الجنس البشري، والتأكيد على حفظ كرامة الإنسان، وإمكانية أن يطور الإنسان نفسه باتجاه الكمال، والتأكيد على العقلانية والموضوعية والسلام. ويضيف فروم “المشكلة اليوم ليست إن كان الله قد مات أم لا ولكن إن كان الإنسان نفسه قد مات. أقصد هنا الموت الروحي مع أنه ممهد أيضًا بالموت المادي. إن الإنسان بغض النظر عن كل ذلك يصبح آليًا يومًا فيومًا، وسوف يجعله هذا خاويًا في النهاية بشكل كامل دون أي حيوية. تصر النزعة الإنسانية الجديدة باختلاف أشكالها على أنه على الإنسان إلا يموت”.
رغم ما يبدو من منطقية تصورات فروم عن النزعة الإنسانية الجديدة، إلا أنها تعيد إنتاج المنظومة العقلانية ذاتها التي تسببت في تدمير للبيئة والإنسان على مدار العقود الماضية، فضلًا عن كونها تفترض وجود حالة من الرشد والحكمة عند الإنسان، بلا أدلة مقنعة، بالإضافة إلى أن تصوراته في هذه المقال تكرس لثقافة الإذعان والطاعة ولكن بشكل مختلف من خلال التأكيد على مشروطية الإنسانية والعقلانية، بمعنى أن كل إنسان هو عاقل بالضرورة، كل هذه التصورات والأفكار التي يطرحها صاحب كتاب “جوهر الإنسان” سواء تتفق معها أو تختلف لكنها تفتح الباب للتساؤل والتفكير وتدعو القارىء للاشتباك معها.
تناقضات الرأسمالية
في مقال بعنوان “فليغلب الإنسان .. دع الإنسان يسود” يشتبك فروم مع بنية المجتمع الغربي، راصدًا مدى التناقضات الحاكمة لمنظومة الحداثة والرأسمالية “نحد من إنتاجنا الزراعي، بينما مئات الملايين لا يجدون ما يأكلونه، لدينا وفرة ولكن ليست لدينا سعادة. نحن الآن أكثر ثراء وأقل حرية. نستهلك المزيد ولكننا أكثر خواءً. لدينا المزيد من التعليم ولكننا أقل قدرة على النقد والإقناع. لدينا المزيد من التدين ولكننا نصبح أكثر مادية”.
اقرأ أيضا: في لعبة الغواية هل يمكن أن نجد الحب ؟
يوضح فروم أن تركيز رأس المال في مؤسسات عملاقة تدار بواسطة بيروقراطيات متسلسلة هرميًا تسبب في تحويل الإنسان لمجرد شيء هامشي “آلة ثانوية” يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها بكل سهولة، موضحًا أن هذه المنظومة الاقتصادية انعكست على المجتمع ككل “بينما عمل نظامنا الاقتصادي على إثراء الإنسان ماديًا أفقره إنسانيًا. بالرغم من تلك الدعاية والشعارات عن إيمان عالمنا الغربي بالله والمثالية واهتماماته الروحية إلا أن نظامنا استطاع خلق ثقافة مادية. يُدار فيه الفرد خلال ساعات عمله كجزء من الفريق الإنتاجي، وخلال أوقات فراغه يصبح مستهلكًا مثاليًا يحب ما يخبرونه أن يحبه”.
ويضيف”لقد كان ماركس على حق حينما اعتقد أن حس التملك قد حل محل كل الحواس والرغبات. لقد جعلتنا الملكية الخاصة شديدي الغباء والبلاهة، حتى إننا نظن أن الأشياء تصبح لنا فقط إن امتلكناها. إننا فقراء بالرغم من كل تلك الثروة، لأننا نملك الكثير ولكن جوهرنا فقير. نتيجة لما سبق يشعر الإنسان العادي الآن بعدم الأمان والوحدة والاكتئاب. نحن نقترب مسرعين من مجتمع يُدار بواسطة بيروقراطيين يتمكنون من إدارة كتلة بشرية، يطعمونهم ويعتنون بهم ويفقدونهم إنسانيتهم. نحن ننتج آلات تشبه البشر، وبشرًا يشبهون الآلات. نتكلم كثيرًا عن الحرية والديمقراطية، ولكن عددًا متزايدًا من البشر يخافون مسؤولية الحرية ويفضلون عبودية الآلة التي تُطعم جيدًا”.