تقرير: مرتزق بريطاني يعذب سجينًا عربيًا في عمان
في هذا التحقيق في Declassified، يتتبع الصحفي البريطاني “فيل ميلر” واحدةً من القصص المأساوية لأحد السجناء الظفاريين الثوار وتعرضه للتعذيب على يد ضابط بريطاني مرتزق ذو تاريخٍ طويلٍ مع التعذيب والإجرام طوال فترة خدمته التي امتدت لعقود.
ترجمة: شيماء محمد
تقدم الوثائق التي عثرت عليها ديكلاسيفايد Declassified تفاصيل مقلقة عن إساءة معاملة السجناء من قبل أحد قدامى المحاربين في الشرطة الاستعمارية التي قمعت الانتفاضات من فلسطين إلى قبرص وعُمان.
استخدم مرتزق بريطاني حربة لثقب القصبة الهوائية لثائرٍ يبلغ من العمر 20 عامًا أُسِر في عمان؛ حيث تعرض الضحية محمد العُديد للطعن أثناء استجوابه الوحشي الذي شهد تجريده من ملابسه وحلق شعر رأسه وتقييد ساقيه وربط إبهاميه خلف ظهره.
نجا “العديد” من التعذيب في عام 1966، ووجهت اتهامات ضد محققه الكابتن توماس ستانلي باكسندال، الذي أمضى شهرين موقوفًا في القاعدة بانتظار محاكمة عسكرية. أدين المرتزق بسوء المعاملة وفُصل من الجيش الخاص لسلطان عمان، متجنبًا الحكم عليه بالسجن.
كان الدبلوماسيون البريطانيون في الخليج على علم بالحادثة التي كان ينبغي تصنيفها على أنها جريمة حرب، لكنهم نجحوا في إبقائها طي الكتمان. وتحدث باكسندال إلى وكالة “رويترز” للأنباء بعد ترحيله من سلطنة عمان، لكن صحفييهم لم ينشروا أي خبر عنه، معتبرين إياه “مصابًا بحالة جنون.
ووقعت الحادثة بعد شهر من موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار يدعو القوات البريطانية إلى مغادرة عمان؛ فتم توظيف المئات من الرجال البريطانيين ذوي الخبرة العسكرية والاستعمارية من قبل السلطان العماني سعيد بن تيمور في الخمسينيات والستينيات.
ساعد هؤلاء “الضباط المتعاقدون” الحاكم الاستبدادي على قمع شعبه واحتلال أراضٍ جديدة، في وقت كانت فيه عمان محمية بريطانية فعلية، وكان جيشها يقوده عسكري بريطاني قديم.
لطالما كانت هناك ادعاءات بإساءة معاملة هؤلاء المرتزقة، ولكن قضية باكسيندال تتضمن بعضًا من أوضح الأدلة على التعذيب، وأخذت إفادات شهود متعددة من زملائه توضح بالتفصيل سلوكه القاسي والمهين واللا إنساني، مما يدل على أنها كانت صادمة حتى بين أقرانه في ذلك الوقت.
شاركت ديكلاسيفايد Declassified نتائجها التي توصلت إليها مع نبهان الحنشي، رئيس المركز العماني لحقوق الإنسان. وعلق قائلًا: “هذه الحادثة المروعة هي دليل على تورط المرتزقة البريطانيين في إرساء أسس نظام إجرامي يمثله سلالة السلطان البوسعيد الحاكم، التي نجت من ثورة شعبية ضدها بمساعدة البريطانيين”.
المنقذ الإمبراطوري
على مجموعة من أشرطة الكاسيت الصوتية في متحف الحرب الإمبراطوري في لندن، يمكن سماع “باكسندال” يتحدث عن حياته المهنية المتنقلة الطويلة كشرطي استعماري. تتخلل لهجته الشمالية السعال الشديد ونبرة الاستهزاء، التي يبدو فيها كأنه يشق طريقه خلال المقابلة التي استمرت ثلاث ساعات.
أمضى “باكسندال” الكثير من الوقت في دوريات الإمبراطورية البريطانية – التي لا تغرب عنها الشمس – لدرجة ظهور علامات لإصابته بسرطان الجلد في وجهه، في الوقت الذي سجلت فيه تلك الأشرطة في عام 1990 كجزء من مشروع التاريخ الشفوي.
تعطي أشرطة الكاسيت سردًا انتقائيًا لماضيه. بعنايةٍ بالغة حذفت خروقاته للقانون من سجلات الصحف والملفات الحكومية. يتفق الجميع على أن “باكسندال” خبير كشرطي استعماري في فلسطين في الأربعينيات؛ حيث ساعد في التعامل مع حركات (التمرد) ضد الحكم البريطاني.
كما قال: “لقد كانت حياة جيدة للغاية”، موضحًا بالتفصيل تجربته “المتكررة” في اعتقال المشتبه بهم لمحاكمتهم من قبل الجيش؛ حيث يواجهون عقوبة الإعدام. “ستكون فكرة جيدة استخدام المحاكم العسكرية في إيرلندا الشمالية”، كما علق على مقابلته في المتحف، مشيرًا إلى الجيش الجمهوري الإيرلندي قائلا: “ربما عليك حذف ذلك.”
بعد تمرده في فلسطين انضم لاحقًا لقوات الأمن الإمبراطورية في ليبيا ثم إريتريا؛ حيث أسقط القنابل الفوسفورية من طائرة على رعاة الماشية أثناء الاحتلال البريطاني. وفي خمسينيات القرن الماضي، عمل مفتشًا للشرطة الاستعمارية في كينيا، وشارك في مفاوضات مع سجناء سياسيين بارزين، بمن فيهم الرئيس القادم جومو كينياتا، الذي قال إنه “متجهم للغاية”.
كان باكسيندال مستعدًا “لوضع أنبوب في حلق “كينياتا” ورفاقه بالقوة، وإجبارهم على الأكل إذا أضربوا عن الطعام، وهي خطوة يتم تفاديها. واعتبر أن حركة ماو ماو المتمردة – التي كانت تقاوم السلطة البريطانية في البلاد – “مروعة للغاية”؛ حيث عدّ أعضاءها أنهم “مهرجون مخادعون”.
ومن غير المعروف ما إذا كان باكسيندال قد شارك في أي تعذيب للمشتبه بهم من “ماو ماو”، على الرغم من أن سوء معاملتهم كانت واسعة النطاق؛ لدرجة أن الحكومة البريطانية اضطرت في نهاية المطاف إلى الاعتذار ودفع الملايين كتعويض تحت رئاسة ديفيد كاميرون.
انتفاضة قبرص
في عام 1955، انتقل باكسيندال للشرطة في مستعمرة بريطانية أخرى؛ قبرص، وصل في خضم انتفاضة من قبل حركة EOKA القومية اليونانية، التي رشق أنصارها رجاله بقنابل المولوتوف.
أضاف “أطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع وكان ذلك كافيًا”، في إشارة إلى حادث وقع في العاصمة القبرصية نيقوسيا. لم أكن مضطرا لإطلاق النار، لكني كنت سأفعل، “ظهر خبر تعامله مع الموقف في الصفحة الأولى من صحيفة ديلي إكسبريس Daily Express، التي قالت إنه “أنقذ الموقف”.
وسط غيوم الغاز المسيل للدموع، شاهد مراسل الصحيفة بإعجاب باكسيندال وهو يقود “هجمات بالهراوات ضد المتظاهرين باعتبارهم مكروهين عُزّل، مسلحين فقط بأصواتهم العالية”. تعجب ضابط في الجيش من جهود باكسندال “الرائعة”؛ إذ كان لها تأثير “لا يصدق” على معنويات الشرطة.
"أطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع وكان ذلك كافيًا"
بعد شهرٍ من وصوله لقبرص، قاد باكسيندال مرة أخرى مهمة الحفاظ على الحكم البريطاني على جزيرة البحر الأبيض المتوسط. اعتُقل أكثر من 200 من (مثيري الشغب) وأصيب 37 آخرون.
ومع ذلك، ظهرت علامات على أن باكسيندال كان متحمسًا للغاية في نوفمبر 1955، ذكرت صحيفة ديلي تلغراف أنه اتهم بضرب اثنين من القبارصة وسيواجه المحاكمة. نتائج تلك القضية غير معروفة، لكن باكسندال اعترف في التسجيل: “لدي مزاج سيء للغاية”.
"العيش في القرن الخامس عشر": عُمان
بحلول نهاية العقد، كان جزء كبير من الإمبراطورية الرسمية في بريطانيا قد استقل، وتُرك باكسيندال تائهًا. قال باكسندال:”عدت إلى الوطن من قبرص وكنت في البرية لمدة عام أو عامين، “لا توجد وظائف”، ولكن كانت هناك منظمة تديرها وزارة الخارجية للمستعمرين السابقين؛ ليس فقط الشرطة، الإدارة، القضاء، الزراعة، ومختلف الأقسام. كان الهدف هو العثور على وظائف مناسبة لهم”.
تم اختيار باكسندال كأمين على سفينة بريد مملوكة لشركة P&O أبحرت من الهند إلى العراق. اعترضتها سفينة ركاب MV Dara على نفس الطريق، وتسببت بتخريبها وغرقها في الخليج العربي، مما أسفر عن مقتل المئات على متنها. وقف (المتمردون) في عمان وراء إغراقها؛ حيث كانت مستعمرة بريطانية بحكم سلطة الأمر الواقع مع السلطان سعيد بن تيمور كحاكم عميل.
قال باكسندال عن (المتمردين) العمانيين: “لقد كانت حركة قومية: تهدف للتخلص من حكم السلاطين”. “شكواهم الأساسية كما أعتقد، هي أنهم كانوا يعيشون في القرن الخامس عشر”. لاحظ باكسندال أن البلاد “كأنها من العصور الوسطى”، وسلطانهم “لن يسمح لهم بالراديو”، كما تم حظر كرة القدم والنظارات، ولم تكن هناك تقريبًا أي مدارس أو مستشفيات.
ومع ذلك، فإن هذا لم يردع باكسيندال من التعامل مع النظام السلطاني، الذي لا يزال يسمح بالعبودية. أوضح باكسندال “كان كولن ماكسويل العقيد الثاني في قيادة القوات المسلحة للسلطان في عمان، وشرطيًا سابقًا في فلسطين كنت قد خدمت معه في إريتريا”.
“وفي أحد الأيام الجميلة جاء على متن السفينة لرؤيتي عندما زرنا مسقط، وسألني عما إذا كنت أرغب في الانضمام إلى القوات المسلحة للسلطان في الجانب الاستخباراتي”.
وافق باكسندال على أن يصبح مرتزقًا، يتقاضى راتبه للخدمة في جيش قوة أجنبية، وقد مُنح رتبة نقيب وطُلب منه مراقبة تدفق الأسلحة إلى منطقة ظفار الجنوبية الانفصالية.
ويتذكر باكسيندال قائلا: “لقد كان الوضع هناك متخلفًا جدًا بالفعل”. وخلافًا للعمليات اللاحقة عندما كانت القوات البريطانية تدعي أنها تكسب “القلوب والعقول”، قال: “لم ندخل من أجل ذلك في تلك الأيام”.
شملت وظيفة باكسيندال مهمة استجواب المشتبه بهم، وقال ضاحكًا في واحدة من ملاحظاته الأخيرة للمسجل: “في بعض الأحيان كانوا متعاونين جدًا، لكن تسع مرات من أصل عشر لم يكونوا كذلك”.
ملفات وزارة الخارجية في الأرشيف الوطني في لندن تحتاج لتتبع ما تبقى من حياته في عمان. هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الإبلاغ عن محتوياتها على وسائل الإعلام. في إحدى مذكراته، التي اطّلع عليها دبلوماسيون، يذكر بالتفصيل روتينه الصارم: “كنت أعمل في الخارج، أي شيء يصل إلى 18 ساعة في اليوم، وفي مناسبتين كنت أقف على قدمي لمدة 36 ساعة متواصلة “.
وقال باكسندال، الذي كان يكسب 1400 روبية هندية في الشهر (تبلغ قيمتها الآن حوالي 1146 جنيهًا إسترلينيًا)، لأحد زملائه إنه “كان يقضي وقتًا ممتعًا جدًا”. ولكن بعد بضعة أيام، تم نقله طبيًا إلى المقر الرئيسي “معانيًا انهيارًا عصبيًا”.
خلال عملية الإجلاء، أخبر طبيبًا في سلاح الجو الملكي بكابوس حدث له مؤخرًا؛ حيث قتل زميله بسكين. لاحظ المسعف أنه قد يكون خطرًا أمنيًا. وقال ماكسويل، نائب السلطان العسكري، إنه بدا “مُجهدًا ذهنيًا”.
الاستجواب
في 20 فبراير 1966، خضع باكسندال للفحص من قبل طبيب المخيم الذي “شكل انطباعًا بأنه كان تحت اجهاد ذهني كبير”، ونصحه الطبيب بالراحة الكاملة لمدة أسبوع. بدلًا من ذلك، كلف ضابط استخبارات اليوم التالي، الرائد مالكوم دينيسون، باكسندال باستجواب “سجين ظفاري صلب”. كان المعتقل هو محمد العديد، الذي كان دينيسون يعتقد أنه “قد يخضع وينهي الأمر تحت الاستجواب”.
صدرت تعليمات إلى باكسيندال “بعدم وضع علامة على السجين – لكن الإصبع المكسور الغريب لم يكن مهمًا”. وكان رائدٌ بريطاني قد “استجوبه لمدة عشرة أيام متواصلة” و “قام بضربه”، ولكن الأسوأ من ذلك هو متابعته.
وفي غياب أي منشآت استجواب مناسبة، أخذ باكسندال السجين إلى غرفته للاستجواب. ويصف بيان أدلى به تحت اسمه الكامل، محمد بن طاهر بن علوي العديد، المعاملة السادية التي تعرض لها.
"قال إن شهادة العديد كانت غير صحيحة وهدد بضربه وقتله"
تعاون السجين خلال الساعات العشر الأولى من الاستجواب، لكن باكسندال فقد أعصابه بحلول منتصف الليل. وقال إن شهادة العديد غير صحيحة وهدد بضربه وقتله. وشرب من زجاجة ويسكي، ثم بصق في وجه السجين، وصفعه وأهان دينه.
أمرت الشرطة جنديًا محليًا بتوتيد ولوي بندقية بين ساقي محمد، ثم جعله يقف بجانب جدار مع ربط إبهاميه معًا بشكل مؤلم خلف ظهره بشريط مطاطي. وقد تُرك في هذا الوضع “لبعض الوقت” أثناء استجوابه طوال الليل واستمر حتى الساعة الخامسة صباحًا تقريبًا. اعتبر باكسندال هذه المرحلة من الاستجواب “الوسيلة الرحيمة”.
حتى الآن، كان المرتزق قد شكل وجهة نظر مفادها أن العديد”يجب إخضاعه في أقرب وقت ممكن”، لأنه “يحمل مفتاح حركة سرية تمتد من القاهرة إلى بغداد”. وفي إشارة إلى الرئيس المصري، قال باكسندال إن “عبد الناصر يعتزم تدمير النفوذ البريطاني في الخليج العربي”، وأنه يدعم (متمردي) ظفار لتحقيق هذه الغاية.
وأعرب عن اعتقاده بأن هدفهم كان “موت السلطان وتدمير الحكومة السلطانية”، وأنهم “سيستخدمون أي وسيلة لتحقيق أهدافهم”. واضطر العُديد إلى التوقيع على بيانات مزقها باكسندال مرارًا ووصفها بأنها “كلها أكاذيب”.
التعذيب
بين جلسات الاستجواب، شرب باكسندال كأسي ويسكي في مطعم الضباط قبل أن يدعو صديقًا ليشرب معه إلى غرفته. كان العديد في انتظارهم، يقف أمام جدار ويداه مقيدتان خلف ظهره وساقاه مكبلتان.
بينما كانو يشربون، قال باكسيندال: “لا تقلق بشأنه؛ فقد كان هناك طوال اليوم”. وعلق صديقه قائلًا: “تحدثنا معًا متجاهلين العربي”.
ثم استأنف باكسندال الاستجواب والصراخ في العديد، أخذ حربة وقال للسجين: “سأقتلك إذا لم تقل الحقيقة”، ضرب الحربة على الطاولة عدة مرات وطلب من صديقه شحذها.
وأمر جنديًا آخر بنزع سترة السجين، قبل استخدام عصا الإبل الخاصة به لتجريد رداء العُديد. بقي السجين عاريًا لمدة 15 دقيقة بينما أحرقت ملابسه في دلو. تلا ذلك ضربات بالحبل على الرأس ورميت الأوساخ في وجهه وحلق شاربه.
ثم “قفز باكسندال فجأة وهو يصرخ في وجه السجين” وطعن العُديد في حلقه بحربة، وثقب قصبته الهوائية وأحدث جرحًا عميقًا بعمق بوصة. قال أحد الشهود: “نظرت إلى الأعلى ورأيت قطرة دم قادمة من حلق السجين”. وقال باكسندال: “أنا آسف، لم أقصد أن أفعل ذلك”. وقال شاهد آخر إنه بررها ووصفها بأنها “مجرد خدش”.
ثم وضع صديقه ضمادة على عنق “العديد” ولفه في ملاءة. أصيب الضحية بالدوار، وقيل له أن يستلقي. وقال باكسندال لجندي محلي: “لا تقلق. أنا لست ثملًا، أنا صاحٍ. لن يصيبه شيء، إنه على ما يرام، لكنه خائن ويجب أن أصل إلى الحقيقة “. ثم ذهب مع صديقه لشرب البيرة.
وعندما عاد باكسيندال بعد حوالي ساعة، أمر بحلق رأس السجين وغسله بديتول، قبل رش وجهه بالمبيدات الحشرية. ثم يتذكر العُديد أنه تم إجباره على الوقوف في الخارج تحت المطر. قيل للحارس أن يسكب المزيد من الماء على رأسه.
غرفة العمليات الجراحية
حوالي الساعة الثانية صباحًا، تم إيقاظ أكبر طبيب في المخيم واستدعاؤه إلى غرفة باكسندال. هناك، أشار القبطان، -الذي بدا “منزعجًا عاطفيًا- إلى سجين عربي كان يجلس على الأرض، وقال: “سقط على حجر حاد وأذى عنقه”.
رأى الطبيب الدم “ينزف” من الضمادة في عنق “العُديد”، وطالب بنقله إلى المركز الطبي في القاعدة. بمجرد وصوله إلى غرفة العمليات، مع باكسيندال الذي كان لا يزال موجودًا هناك، عالج الطبيب إصابة الرقبة.
ورفض باكسندال النصيحة الطبية بإبقاء السجين في المستشفى، خشية أن يتحدث إلى سجناء آخرين. وبدلًا من ذلك، وُضع على سرير في غرفة باكسيندال وطُلب منه كتابة المزيد من التصريحات، والتي مُزقت إحداها.
في نهاية المطاف، تدخل دينيسون، أحد ضباط المخابرات، في اليوم الرابع، واهتم بـ “العُديد”. يقول دينيسون: “نهض السجين بصعوبة من على السرير”. يضيف: “كان السجين مقيدًا بالسلاسل حول كاحليه؛ هذا أمر طبيعي… لم ألاحظ أي إصابة على السجين، لقد بدا متعبًا جدًا”.
فحصه الطبيب مرة أخرى في الزنزانات ووجد “حروقًا من الدرجة الثانية على الجبين والوجه والصدر ناجمة عن بعض التآكل”. وكانت هناك أيضًا سحجات وكدمات متعددة في بطنه وصدره وساقيه.
المُتهم
اُتهم باكسندال بإساءة المعاملة وتم حجزه في القاعدة؛ حيث تساءل قادة المعسكر عما يجب فعله به. في البداية أرادوا منه مغادرة عمان على الفور، لكن السلطان “لم يستطع إخراج المتهم من البلاد” وأمر بدلًا من ذلك بمحاكمة عسكرية.
تم فحصه من قبل الأطباء وتمكن من توجيه محام في كورلي لانكشاير. احتج المرتزق على أنه كان تحت “الاعتقال غير القانوني”، مدعيًا أنه لم يقسم اليمين بالولاء للسلطان، وكان يخدم فقط في الجيش العماني بإذن من التاج البريطاني.
قال “بيل كاردن”، القنصل العام البريطاني في مسقط، في بيان: “قيل إنه كان غير متزن مؤقتًا، وذلك بسبب ضغوط المهام العسكرية في ظفار”. ونصح الدبلوماسي: “كلما كانت المعاملة التي يلقاها باكسيندال أكثر شبهًا إلى تلك التي كان سيحصل عليها لو كان ضابطًا في القوات النظامية البريطانية التي تحاكمها المحكمة العسكرية، لكان ذلك أفضل”.
ورأى “كاردن”، الحريص على حماية جاذبية عمل الارتزاق، أن المحاكمة العادلة ستكون “أفضل ضمان ضد سقوط الضباط المتعاقدين”. وبعد أسبوعين من الحادثة، تلقت وزارة الخارجية “دعوة خطية لممارسة الولاية القضائية” من السلطان.
وأعربت الوزارة قائلةً: “ترددنا في لفت الانتباه إليها في قضية من هذا النوع”، لأنها ستشير إلى أن المرتزقة البريطانيين في الجيش العماني كانوا يعملون بالفعل تحت سلطة التاج البريطاني. وبدلًا من ذلك، أعربوا عن أملهم في أن يتم التعامل مع المحكمة العسكرية بين الضباط البريطانيين في الجيش العماني، الذين افترضوا أنهم سيمنحون باكسندال محاكمة عادلة.
ظل هناك قلق من أنه إذا تمت إدانة باكسندال وإرساله إلى سجن حصن “الجلالي” سيئ السمعة في عمان؛ “حيث تعد الظروف هناك وفق المعايير الغربية سيئة، والتي كانت منظمة العفو الدولية تشن حملات مناهضة ضده، ووصفته بالزنزانة”، فيما كان الصليب الأحمر محظورًا من الدخول للحصن.
أعرب الدبلوماسيون عن قلقهم، في حال تم سجن باكسيندال في “الجلالي”، من أن القضية “قد تحرجنا وتقلل من استعداد الرعايا البريطانيين للعمل بعقود في قوات السلطان المسلحة”. ومرة أخرى، كانت حماية إمدادات المرتزقة لمسقط ذات أهمية قصوى.
المحكمة العسكرية
بقي باكسندال في مأزق قانوني حتى نهاية مارس/آذار، ليهدد بالتصعيد والتخلي عن جنسيته البريطانية وإعلام الصليب الأحمر، وقررت وزارة الخارجية أنه لا يمكن لقنصلها أن يحاكم القضية إلا إذا وافق السلطان على إصدار إعفاء قانوني محدد، لتجنب وضع سابقة.
تضمنت “الرسائل المتبادلة” بين مسقط ولندن في عام 1962 قسمًا سريًا سمح لبريطانيا بتوسيع ولايتها القانونية في عمان بموافقة السلطان. وشدد مسؤول على “الاعتبار السياسي المهم الذي لا نود لفت الانتباه إليه في قضيتنا؛ لا سيما في قضية من هذا النوع تتعلق بضابط بريطاني وسجين (متمرد)”.
وحذر دبلوماسي آخر قائلا: “أخشى أن يكون هذا الأمر ذا فائدة للأمم المتحدة، وأولئك الذين يهاجموننا بشأن مسقط، على أساس أن ممارسة سلطتنا القضائية هي دليل آخر على أن السلطان ليس سوى أداة بريطانية”.
زار القنصل العام السلطان في منتصف أبريل وتلقى تأكيدًا بأن باكسندال لن يقضي وقتًا في سجن “الجلالي”. بعد ذلك، وافقت المملكة المتحدة على عقد محكمة عسكرية من قبل ضباط بريطانيين يخدمون في الجيش العماني.
وأقر جندي طلب منه باكسيندال إعداد دفاعه بأنه “لا يمكن إنكار أن باكسيندال جرح السجين”، معترفًا بأن الأدلة “واضحة تمامًا بشأن هذه النقطة”. ومع ذلك، كان يسلط الضوء على الحالة العقلية لباكسيندال، مما يعني أنه لم يكن من المفترض أن يتم استجوابه.
توصية قوية للعفو
أُدين باكسندال في 21 أبريل 1966، على الرغم من أن التهمة لم تحدد بدقة، ويمكن أن تصنف من سوء معاملة إلى اعتداء. ” طُرد باكسندال بخزي مع توصية قوية للاعفاء”. وشملت لجنة المحكمة المكونة من ثلاثة ضباط، ضابطين حائزين على وسام الصليب العسكري، وهي ثاني أعلى جائزة عسكرية للشجاعة.
استطاع كاردن مراقبة معظم جلسات الاستماع واعتبرها محاكمة عادلة. وقال: “إذا أخطأت المحكمة، كان ذلك بسبب تعاطفهم مع باكسندال”. وبينما أشار كاردن إلى الظروف المخففة المحيطة بالحالة الذهنية لباكسيندال، أضاف “كانت هناك أيضًا ظروف مشددة متأصلة في الطريقة التي أجرى بها استجوابًا مطولًا”.
كما أن بعض الشهود “لم يثبتوا الشكوك حول توازنه العقلي: لقد فعلوا العكس”. وكان المتهم سيواجه عقوبة السجن لمدة تصل إلى خمس سنوات إذا ما مَثُلَ أمام “كاردن” في محكمة قنصلية.
"إذا أخطأت المحكمة، كان ذلك بسبب تعاطفهم مع باكسندال".
بدلًا من ذلك، لم يقضِ باكسندال أي وقت في السجن. وبحلول نهاية إبريل، كان قد غادر عمان ووصل إلى البحرين. بحلول منتصف مايو 1966، بدا أن باكسندال عاد إلى إنجلترا حيث تحدث إلى محاميه وشكر القنصل على “مساعدته ومناصرته التي لا تقدر بثمن”.
قال دبلوماسي آخر: “على حد علمي، لم تكن تشتهر هذه الحادثة إعلاميًا، وآمل أن نكون قد سمعنا الآن آخرها”. في الواقع، تحدث باكسندال إلى اثنين أو ثلاثة مراسلين من “رويترز” في فندق “سبيد بيرد” في البحرين.
وكان المرتزق قد “قدم وصفًا حيًا” لمحاكمته، “ولكن، كما اعتقدوا جميعًا أنه كان مصابًا قليلا بحالة من الجنون”، لم يصرح أي منهم بالحادثة”. ستبقى الحادثة غير معروفةٍ لنحو نصف قرن آخر.
لم تتمكن ديكلاسيفايد Declassified من الاتصال بباكسيندال للتعليق، ومن المرجح أنه توفي. وقال مكتب المحاماة الذي أصدر تعليماته في تشورلي أنهم لم يعودوا على اتصال مع المحامي المعني بقضيته.
نمط معاملة
إن الطبيعة المتداعية لأساليب استجواب باكسندال قد تجعل من السهل رفض زعم أن الحادثة كانت لمرةٍ واحدة على أنها أفعال رجل مارق غير متزن عقليًا. ومع ذلك، بعد خمس سنوات؛ فإن الجنود البريطانيين الذين يخدمون في عمان سينشرون تقنيات التعذيب الخاصة بهم، مما يشير إلى أن مثل هذا السلوك يمكن أن يعاقب عليه رسميًا في الظروف المناسبة.
في عام 1971، تم تعذيب مجموعة من 35 معتقلاً من قبل القوات البريطانية في عمان. كانت الأساليب تهدف إلى الحرمان الحسي الشديد، والذي لن يترك أي ندوب جسدية. ووضع الأكياس فوق رؤوسهم لساعات متتالية، فيما كانت المولدات تصدر ضوضاء تصم الآذان. وفي الوقت نفسه، أُجبروا على الوقوف في أوضاع مؤلمة.
استمرت أطول جلسة استجواب لثلاثة أيامٍ ونصف. تم إيقاف استجواب رجل واحد فقط لأنه تم تقييمه “على أنه متخلف عقليًا، لدرجة أنه لم يكن هناك جدوى من استجوابه أكثر من ذلك”.
يُعتقد أن بعض الرجال على الأقل جاءوا من المنطقة الشمالية من مسندم، الطرف الآخر من عمان، إلى ظفار؛ حيث يوجد باكسندال – مما يشير إلى مدى انتشار المقاومة للسلطان.
لا تزال مثل هذه التقنيات تدرس للقوات البريطانية المتخصصة اليوم في دورات “الهروب والمراوغة”، لإعدادهم إذا ما وقعوا في قبضة عدو وحشي. وكتب الأمير هاري، الذي حضر الدورة خشية أن تستولي طالبان على طائرته المروحية “أباتشي” (التي كان يقودها في فترة خدمته في أفغانستان)، في مذكراته: “الكثير مما فعلوه بنا كان غير قانوني بموجب قواعد اتفاقية جنيف، وقد جُن جنديان آخران في التدريب”.
في عمان، لم يتغير سوى القليل من الناحية السياسية، وعلى الرغم من أن الثروة النفطية مهدت الطريق للإنفاق على البنية التحتية، إلا أن جميع الأحزاب السياسية محظورة ولا توجد صحافة حرة. يبدو أن الفساد منتشر؛ حيث يمتلك النظام مالا يقل عن 80 مليون جنيه استرليني من العقارات الفاخرة في المملكة المتحدة.
لا تزال عائلة السلطان في السلطة؛ حيث تتلقى دعمًا سخيًا من الجيش البريطاني ووكالات الاستخبارات. وعلى الرغم من دعوات الأمم المتحدة في الستينيات إلى إزالة قواعد الجيش من عمان؛ فقد ضاعفت بريطانيا تواجدها، مفتتحةً سلسلة من المواقع الجديدة هناك في السنوات الأخيرة لإيواء حاملات الطائرات واختبار الدبابات الهجومية.
عندما انتفض الناشطون خلال الربيع العربي عام 2011، أفادوا بأنهم تعرضوا لأساليب استجواب مماثلة من قبل الشرطة المحلية، كما شهد أسلافهم في عام 1971. وما دامت عمان دولة استبدادية خليجية، فمن المرجح أن يستمر إرث بريطانيا في التعذيب.
* تتحفظ مواطن عن المصطلحات المحددة بين قوسين ()، حيث تم نقلها كما في النص الأصلي للحفاظ على أمانة الترجمة.