تمر ذكرى اليوم العالمي للاحتفاء باللغة العربية في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، وهو اليوم الذي اعتبرتها فيه الأمم المتحدة واحدة من لغات المنظمة العام 1973م، بذات الجدل الأشبه بجدل البيضة والدجاجة المتكرر كل عامٍ في هذه المناسبة حول جمال اللغة العربية وفرادتها عن بقية اللغات، وواقع إسهاماتها في الحضارة الإنسانية وإمكانية بقائها أو اضمحلالها مع الإسهام الحضاري الكبير في المقابل للغات الأخرى.
على صفحة اليوم العالمي للغة العربية للأمم المتحدة، يتصدر المقال الذي يتحدث عن المناسبة بيتٌ لأمير الشعراء أحمد شوقي يقول فيه:
إن الذي ملأ اللغات محاسنًا جعل الجمال وسره في الضاد
في هذا البيت الشعري يمتدح الشاعر المصري اللغة العربية، وهو ذات البيت الذي لاقى انتقاداتٍ كثيرة من كتاب ومثقفين عرب، كان أحدها ما قاله الكاتب والشاعر اليمني عبد المجيد التركي بأن البيت يحتوي على خطأ لغويٍ ارتكبه شوقي في مدحه للغة التي أخطأ في قواعدها؛ وهو أن مفردة “محاسن” التي ذكرها في الشطر الأول من البيت الشعري ممنوعةٌ من الصرف.
يسلط هذا النقد الضوء على مشكلة تستطلع فيها “مواطن” آراء كتاب ونقاد عرب وناطقين بلغاتٍ أخرى حول موقع اللغة العربية والتحديات التي تواجهها في العصر الحالي مع الانتكاسة التي تعيشها الشعوب الناطقة بها، وشحة إسهامها المعرفي باللغة العربية، في حين تسيطر لغاتٌ أخرى كالإنجليزية في المرتبة الأولى على لغة تداول المعرفة في العالم، وبين جمود اللغة العربية وإمكانية تطورها.
جدل اللهجات واللغة الفصحى
يتحدث العربية ما يزيد على 450 مليون إنسان في أكثر من 22 دولةٍ عربية، وآخرون عرب في بقية العالم، إلا أن القول بذلك لا يعني بأن المقصود به اللغة العربية الفصحى، فاللغة العربية الفصحى غير متحدثٍ بها في العالم العربي، حيث يتحدث سكان العالم العربي لهجاتٍ دارجةً مختلفةً مشتقةً من اللغة العربية ومتأثرةً بالثقافات المحلية، في حين تختلف هذه اللهجات من منطقةٍ لأخرى. أما اللغة العربية فهي اللغة الرسمية لوسائل الإعلام والتدوين.
في العام 1960م، قدم عالم اللغويات اللبناني سعيد عقل مشروعًا لاعتماد اللهجة اللبنانية كلغة مكونة من سبعةٍ وثلاثين حرفًا مبنية على الحروف اللاتينية، مؤكدًا أن معظم قواعد الحديث في اللهجة اللبنانية ذات أصلٍ آرامي أو سرياني. وساند “عقل” في هذا المشروع بعض الأحزاب القومية اللبنانية التي كانت ترى بأن اللهجة اللبنانية لغةٌ منفصلة، فيما لاقى المشروع رفضًا من الجامعة العربية التي ضغطت على الحكومة اللبنانية لرفض مثل هكذا مشروع.
في مصر، ادعى الكثير من الكتاب والمثقفين المصريين المشتغلين باللغة بأن الدارجة المصرية هي لغةٌ بحد ذاتها أيضًا، حيث يرجع الباحث والمفكر المصري أحمد سعد زايد أن الجدل بشأن اللغة المصرية العامية لأكثر من قرنٍ مضى. يقول زايد: “تمت في بداية القرن العشرين الكثير من الممارسات التي قام بها الكثير من الكتاب والأدباء بكتابة المسرحية والرواية والشعر بالدارجة المصرية، الأمر الذي لاقى صدىً في سائر الدول العربية التي بدأت هي الأخرى أيضًا بالكتابة بالدارجة”.
ويضيف سعد زايد بأن حركة الكتابة بالعامية في مصر كانت حركةً أكثر تنظيمًا منها في بقية بلدان العالم العربي، فيما تورطت هذه الحركة في صراعٍ مع الجماعات الدينية التي كانت ترى أن هذه الحركة تمضي على حساب اللغة العربية الفصحى التي تعتبر لغة القرآن والتراث الإسلامي. ويقول سعد زايد “كان رفض حركة التدوين بالعامية هنا قائمًا من منطلقٍ ديني في الأساس هنا”.
حركة الكتابة بالعامية في مصر كانت حركةً أكثر تنظيمًا منها في بقية بلدان العالم العربي
الكاتب والروائي اليمني عبد الرحمن الخضر، يؤكد على أن الرفض في المقام الأول لأي تحولٍ للعربية الفصحى ينطلق من موقفٍ ديني لارتباط اللغة العربية الأساسي بالدين الإسلامي، حيث يقول في حديثه لـ “مواطن” الذي يوضح موقف الإسلاميين المتشدد تجاه تطور اللغة العربية وتحولها: ” إذا كان المسيحيون لا يملكون أثرًا مكتوبًا للمسيح، وكل ما نقلوه عنه كان على لسان الرسل متى ولوقا وغيرهما في وقت متأخر بعد صلب المسيح. وإذا كانت التوراة قد انتشرت بين اليهود في وقتٍ لاحق وعبر كتاباتٍ متأخرة لمجموعة من المدونين، وليست في حضور الكليم موسى. وإذا كانت لغة الإنسان -أي إنسان- هي ترميز للفكر، وأداة لتداوله وحفظه، وقد تضامنت مع الأسطورة في مراحلها الأولى كوسيلة للوصول إلى العقل واستحضاره في الواقع، فإن الله بعظمته وجلاله قد حسم الأمر معنا نحن العرب المسلمين، فتفضل علينا بكلماته العليا، في وحي مباشر حي، ينقله جبريل “فورا” من الله في السماء نحو الرسول على الأرض “.
ويضيف الخضر توضيحه لهذا الموقف: ” من هنا فنحن ابتداءً أمام لغة مقدسة، والمقدس يعني عدم المساس به، أو تحليله، أو مناقشته “فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. واللغة العربية هنا هي أيضا اللغة الجامعة للحضارة الإسلامية، وقد أزاحت في طريقها الآداب المكتوبة باللغات الأخرى للشعوب المسلمة، رغم ثراء هذه اللغات وقيمتها التاريخية”.
كما يقول زايد في محاضرته التي ألقاها في صالونه الثقافي في مدينة الإسكندرية مايو من العام 2019م، بأن الرفض لحركة التدوين بالعامية كان قائمًا من منطلق قوميٍ أيضًا إلى جانب الموقف الديني المتشدد من العامية. مشيرًا إلى وجود جذورٍ لهذا الموقف تتمثل في المخاوف من ملاقاة العربية لذات المصير الذي لاقته اللاتينية باندثارها وتحول الدارجات اللاتينية للغات مستقلة، إذا ما سُمِح بتحول الدارجات العامية في الأقطار العربية المختلفة بالتدوين والتعامل إلى لغات مستقلة.
من جهته، يشير أحمد سعد زايد إلى أن اللغات كائنٌ تطوري يستمر في التطور والانقسام والتحول للغاتٍ جديدة، مشيرًا إلى أن اللغات الأفرو آسيوية التي تسمى أيضًا باللغات السامية هي لغات انفصلت عن لغةٍ أم؛ هي اللغة السامية، فيما أحدث ولادات هذه اللغة هي اللغة العربية. ويقول زايد: “اللغة العربية في حد ذاتها لغة القرآن هي الأخرى كانت لغةً عامية، عامية قريش”.
العربية كلغة دراسة
تهيمن اللغة الإنجليزية على لغة دراسة العديد من التخصصات ومناهجها العلمية، وخصوصًا التخصصات التطبيقية؛ كالعلوم الطبية والحاسوبية على سبيل المثال. بالإضافة إلى ذلك تعرض الكثير من الجامعات العربية في مصر ولبنان وبعض الدول العربية مساقات دراسة تخصصات أخرى مرتبطة بالعلوم الإنسانية باللغة الإنجليزية والفرنسية أيضًا. وتشهد هذه البرامج الدراسية إقبالًا كبيرًا عليها في وقتٍ يرى فيه الطلاب الجامعيون إمكانية حصولهم على فرصٍ أفضل في سوق العمل بعد التخرج، أو مواصلة الدراسة في الخارج.
يستدل كتّابٌ وصحفيون منطلقين من موقفٍ متشددٍ للغة العربية بطرح الدكتور السباعي في كتابه “تجربتي في تعليم الطب باللغة العربية” بأن هيمنة اللغة الإنجليزية على لغة دراسة التخصصات العلمية التطبيقية وأهمها الطب مرتبطٌ بآثار الهيمنة الاستعمارية البريطانية والامبريالية الأميركية. من جهةٍ أخرى، يسخر البعض من هذه المواقف بوصف التحولات العلمية التي حدثت منذ نشر كتاب السباعي مطلع القرن الماضي العام 1900م، بأنها قطعت مسافاتٍ ضوئية في هذين العلمين. الأمر الذي يزيد من حجم الفارق الذي يبتعد بهذه العلوم ومصطلحاتها عن اللغة العربية واللغات الأخرى.
إن مناهجنا الدراسية - بأداتها اللغوية العربية- مناهج كلاسيكية تقوم على المفهوم العقائدي حتى في تفسير وشروحات النظريات العلمية
ويتحدث الخضر عن هذا الأمر بقوله: “إن مناهجنا الدراسية – بأداتها اللغوية العربية- مناهج كلاسيكية تقوم على المفهوم العقائدي حتى في تفسير وشروحات النظريات العلمية، والتأكيد على الثوابت كمسألة مصيرية، وكمبرر للحفاظ على الُلحمة. وهنا فالتعليم الليبرالي هو أداة استعمارية، وفتح الباب على الأفكار الدخيلة. وعليك أن تلاحظ هذه المفردة “الدخيلة” لتتصور تماما هذا الصندوق الذي ظل مغلقًا على لغتنا لمواجهة هذه المكتشفات الدخيلة حتى لا تعصف بكوخنا اللاهوتي القديم. ومن هنا لم نر أي جهد مؤسسي لتطوير اللغة العربية، بل هناك أفراد محدودون حاولوا تطوير ذواتهم اللغوية -إن صح التعبير- للاندماج مع معطيات العصر. وعليك أن تلاحظ أيضًا أن الكثير من الكتابات التي نعتبرها كتابة إبداعية لكتابنا العرب لم تتمكن من الانفتاح على اللغات والثقافات الأخرى، حتى تلك المترجمة منها لم تلق الاستجابة كما يجب. وحتى إن تلك الترجمات تتم من قبل رفاق الكاتب ذاته، وهو ما خلق أيضا ظاهرة شللية مقيتة، لا ترتبط بالإبداع أو التخليق للأفكار الجديدة”.
اللغة العربية لغير الناطقين بها
على الرغم من تطور مناهج تعلم وتعليم اللغات وانفتاح العالم أمام آفاقٍ جديدة تفتحها علوم اللسانيات في تفكيكها للتطور اللغوي، لا تزال اللغة العربية محصورةً بمدارس النحو التقليدية التي نشأت في الحضارة الإٍسلامية قبل أكثر من عشرة قرون. على الجانب الآخر تقدم اللغة الإنجليزية واللغات الغربية والشرقية نفسها في مناهج تعليمية جديدة ومتطورة تراعي ظروف وحاجات وأساليب التعلم الحديثة لدى دارسي اللغة، على العكس من اللغة العربية التي لا تزال مقيدةً في كتب النحو والصرف التقليدية المعقدة من ألفية ابن هشام لمغني اللبيب، وإن ظهرت بعض المحاولات التجديدية فهي تظل محصورةً في محاولة تفسير المناهج التقليدية وتقديمها في لغةٍ أسهل.
في هذا الشأن يقول الكاتب والروائي عبد الرحمن الخضر، بأن المسألة ثقافية في هذا الشأن بقدر ما هي مرتبطة بمسألة الجمود الديني، حيث يقول: ” يبدو أن العرب اكتفوا بمكانة ” فارقة” للغة العربية، لن تصل إليها مطلقًا أية لغة أخرى حتى لو كانت على لسان شكسبير كأدب، أو آينشتاين كعلوم، أو فانتازيا لغوية أخرى. هذه المكانة هي تجسيد للعقلية العربية. هذه العقلية المرتكزة على لغة نمطية، مطلقة، قياسية، غير تحليلية (وكمثال هنا في الطريقة الإفتائية للشريعة الإسلامية، والروايات والسير التعليمية المتكلسة، والبنية الكلاسيكية للآداب والفنون) ولا تخوض في غير العظمة التاريخية للذات، ولذلك لم ولن يتم التطوير فيها. فكيف يمكن تطوير ما قد تم اعتماده في الجنة كلغة لكل الأقوام والملل والشعوب؟!”.
كتابٌ كتبوا بالعربية كلغةٍ ثانية
من جهةٍ أخرى بعيدًا عن الواقع الذي تعيشه اللغة العربية الفصحى، أو ما سماه سعد زايد بعامية قريش، شهدت ولا زالت اللغة العربية إعجابًا واسعًا لدى الشعوب الناطقة بغير العربية والمستشرقين. في المقام الأول، كان أعلام أدباء وكتاب الشعوب المحيطة بالمنطقة العربية أو التي تعيش فيها، كالفرس والأكراد، من أكثر المعجبين باللغة العربية الذين اختاروا تعلمها والكتابة بها أيضًا. لاحقًا، كان مستشرقو الغرب الذين عكفوا على دراسة التراث اللغوي والتاريخي والديني للحضارة العربية الإسلامية والمنطقة هم معجبوها الجدد.
في افتتاحية ديوانه الذي يعتبره الإيرانيون واحدًا من أقدس الكتب لديهم والتي يعتقد معظمهم بالتفاؤل بها، يستهل الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي ديوانه بمطلع عربيٍ لأولى قصائده في افتتاحية ديوانه. ويقول فيها حافظ داعيًا للنبيذ لتهدئة آلام الحب:
ألا يا أيها الساقي أدر كأسًا وناولها .. كه عشق آسان نمود أول ولي افتاد مشكلها
والتي تعني في الشق الفارسي منها بأن العشق في بدايته سهل، ولكنه يتحول لمشاكل تلم بالعاشق. وكان الشيرازي ككثيرٍ غيره من شعراء الفرس وأدبائهم يكتبون الشعر والعلوم بالعربية والفارسية، كما كانوا يترجمون للغة العربية.
في الحاضر المعاصر، يبرز الكاتب السوري الكردي جان دوست، وهو كاتب وشاعرٌ وقاص ومترجم، متحدث باللغتين؛ الكردية والعربية، كواحد من الكتاب الأكراد الذين يحرصون على نقل أعمالهم للغة العربية. حيث عكف جان دوست على ترجمة بعض أعماله الأدبية التي كتبها بالكردية للعربية بنفسه، كرواية مارتين السعيد ورواية مدينة الضباب، ورواية عشيق المترجم التي كتبها دوست بالعربية.
في حوارٍ سابقٍ له مع مواطن، يحكي جان دوست عن تشدد حزب البعث للغة العربية وموقفهم من لغات القوميات الأخرى في سوريا، كما يحدث بحق القومية العربية والكردية في إيران وتركيا، في مساعي سلطات هذه البلدان لتجريف لغات القوميات الأخرى.
اقرأ أيضا : اللغة العربية.. خيمتنا العربية وعاصفة المعرفة
يقول جان دوست على الرغم من أنه ملتزمٌ بالانتصار للغة بني قومه حتى يتم إنصافها، إلا أنه لم يعد عنده فرق بين اللغتين الكردية والعربية. ويحكي جان في قصةٍ له نشرها على حسابه، بأن اللغتين العربية والكردية كانتا تمثلان لعنةً بالنسبة له بين قوميته وبين سلطات البعث العربي. يقول دوست: ” ما زلت إلى اليوم وبعد ثلاثين عامًا من الكتابة كما أنا، موزعًا بين لغتين، مقسمًا بين لعنتين، تتجاذبني هويتان. أكتب بالعربية فتتعالى أصوات قوميةٌ فولكلورية نشاز قائلة: “انظروا لقد ترك لغته وصار يكتب بلغة الآخرين. اللعنة”، وأكتب بالكردية، فيتعالى صوت الرقيب الشوفيني “اللعنة، تكتب بلغةٍ غير معترفٍ بها، أنت خائن”، وأنا بين اللعنتين أمضي لا أبالي”.
ويختم عبد الرحمن الخضر حديثه مع مواطن بقوله: “اليوم العالمي للغة العربية يوافق تاريخ اعتمادها كواحدةٍ من لغات منظمة الأمم المتحدة، أما اليوم العالمي للغة الانجليزية فهو يوم ميلاد وليم شكسبير، هذه مقارنة بين ثقافتين”.